العَدْوى والطِّيَرَة [1]

جاءت الشريعة الإسلامية لتهذيب النفوس، وتطهيرها من المزاعم الباطلة، وطبعها على الاعتقاد بأن لا يقع تصرف في الكون إلا بإذن الله.

ومن المزاعم الباطلة التي تجول في النفس: الاعتقاد ب العدوى والطيرة.

فالعدوى: اسم مصدر من الإعداء، يقال: أعداه الداء إعداء وعدوى، وهو: أن يصيبه مثلُ ما بصاحب الداء.

ومن الأمراض ما يصيب الصحيح؛ لقربه من المريض، ومخالطته؛ كالطاعون، والجذام، والجرب، فيعتقد أناس أن العدوى سرت من المريض إلى الصحيح بذاتها، فقال – عليه الصلاة والسلام – كما ورد في الحديث الصحيح: “لا عدوى، ولا طيرة”.

فبيّن أن مرض الصحيح بقدر الله.

وقد يحصل للصحيح مرض مثل الذي حصل للمريض الذي قاربه وخالطه، فحدوث المرض بقدر الله، ولم يحدث لذات العدوى، وإنما جعل الله القرب والمخالطة سبباً ظاهراً للمرض، لا سبباً مستلزماً للمسبب، كما قال – صلى الله عليه وسلم – للأعرابي الذي قال له مستشكلاً لحديث “لا عدوى”: يا رسول الله!

الإبل تكون في الرمال كأنها الظباء، فيخالطها البعير الأجرب، فتجرب؟ فقال – صلى الله عليه وسلم -: “ومن أعدى الأول؟ “، وهذا من أبين الحجج، ومعناه: أن الذي أصاب الأول هو قدر الله، وهو الذي أصاب الثاني أو الثالث بالمرض.

والدليل على أن القرب من المريض ومخالطته سبب ظاهري لا يستلزم مسببه: أن كثيراً من الناس يقربون من المريض، ويخالطونه، ولا يصيبهم مرضه.

ومما يتعلق بهذا المعنى: الحديث الصحيح، وهو قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يورد ممرض على مصح”، ويرتبط به أيضاً قوله في الحديث الصحيح: “فر من المجذوم فرارك من الأسد”؛ فإنها يعارضان بحسب الظاهر حديث: “لا عدوى”.

وتندفع هذه المعارضة الظاهرية بأن الشارع يفسح المجال للمكلف بأن يراعي الأسباب الظاهرة، ويتجنبها؛ شفقة عليه من أن يقع في قلبه ما ينهى عنه الشارع، ويحتاج في دفعه إلى مجاهدة نفسه.

وبهذا يمكن الجمع بين الأحاديث الصحاح التي ينفي بعضها العدوى، ويحث بعضها على الاحتياط، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث الصحيحة، فهو أولى من ترجيح بعضها على بعض.

ومن مرت به الحياة في تصرفاتها على الإيمان الذي يقبل الزيادة، وعلى الإيمان المؤيد باليقين، أدرك أن الشريعة أعطت لكل من الفريقين حكماً يناسبه، ويليق بحالته، فهما مقامان: مقام التوكل، ومقام مراعاة الأسباب الظاهرة.

ولما كان أكثر الناس وعامتهم يغلّبون الأسباب الظاهرة، ويربطون بين المخالطة والإصابة بالمرض، جاء نهي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن دخول أرض وقع بها الطاعون، أو الخروج منها فراراً من القدر، مراعياً حال العامة، والغالب من الناس.

وأطلق عمر – رضي الله عنه – على عدم دخوله بالجيش أرضَ الطاعون: فراراً من قدر الله؛ إذ قال لأبي عبيدة: نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، لشبهه بالفرار الشرعي، وليس هو فراراً شرعياً؛ لأن الذي فرّ منه أمر خاف على الجيش منه، فلم يهجم عليه، والذي فر إليه أمر لا يخاف على الجند منه.

والذي يخرج من الأرض الموبوءة فراراً من الوباء، فارٌّ من أمر هجم على أرضه، وخاف منه على نفسه، فيظهر فيه معنى عدم الاستسلام للقدر.

ويفهم من الحديث: أن الخروج من أرض الوباء منهي عنه إذا أراد الفرار من الطاعون، وأما إذا خرج لحاجة تخصه، فلا ينهى عن الخروج.

وفي سنة 1319 هـ زرت قفصة (مدينة بالجريد) [2]، وقضيت مدة في مطالعة تأليف “انتهاز الفرصة في محادثة عالم قفصة”، وهو تأليف لابن مرزوق، أورد فيه الأسئلة التي وجهها إليه الشيخ محمد بن يحيى عالم قفصة، وأجوبتها، فرأيت به ندم عمر بن الخطاب على رجوعه من الطاعون إلى المدينة.

والجواب عن ذلك: أن عمر بن الخطاب لم يندم على عدم الدخول بالجيش إلى الأرض التي بها الطاعون، وإنما ندم على سرعة رجوعه بالجيش إلى المدينة، وعدم انتظاره ارتفاع الطاعون، وقد ارتفع عقب رجوعه.

وأما الطيرة – بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن الياء -: فهي التطير أي: التشاؤم، وأصلها: أن العرب في الجاهلية يعتمدون الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر ما، ورأى الطير طائراً على جهة اليمين، تيمَّن به، وذهب لأمره، وإذا طار على جهة اليسار، تشاءم به، ورجع، وكانوا يسمون ما طار إلى جهة اليمين بالسانح، وما طار إلى جهة اليسار بالبارح، وربما هيج أحدهم الطير ليرى طيرانه على جهة اليمين أو اليسار، فيعتمدها، فجاء الشرع بنفي ذلك، فقال – صلى الله عليه وسلم -: “لا عدوى ولا طيرة”.

وورد في الحديث الصحيح: “أن الشؤم في ثلاث: في الدار، والمرأة، والفرس”.

واتفق العلماء على أن ليس في المرأة معنى يسمى شؤماً إذا تزوجها الرجل يلحقه ضرر، ولا في الدار إذا سكنها، ولا في الفرس إذا ملكها، وحملوا الشؤم على معنى خارج عن الزوجة والدار والفرس، فقالوا: شؤم المرأة: سوء أخلاقها، وبذاءة لسانها، وشؤم الدار: ضيقها، وسوء جيرانها، وشؤم الفرس: جماحها، وحرنها.

وإلى ذلك أشار البخاري في “صحيحه”.

وفي بعض الروايات الصحيحة عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث يتحدث عن أقوال الجاهلية، ولم يحضر الراوي صدر الحديث، وهو: “يقول الجاهلية … “، وإنما حضر عندما قال الرسول: “الشؤم في ثلاث”.

وقد بقي التطير في كثير من المسلمين.

ويذكر في هذا المقام على ابن الرومي الشاعر؛ فقد كان كثير التطير، وكان أصحابه يعبثون به ويرسلون إليه من يتطير باسمه، فلا يخرج من بيته طوال يومه.

والبلغاء يكرهون افتتاح القصيدة بما يتطير به، فأنكروا على ابن مقاتل قوله في مطلع قصيدته في مدح الداعي إلى الحق:

موعد أحبابك بالفرقة غد

فقال له الممدوح: بل موعد أحبابك، ولك المثل السيئ!

وأنكروا عليه افتتاحه لقصيدة أخرى، إذ يقول:

لا تقل بشرى ولكن بشريانِ … غرة الداعي ويوم المهرجان

فتطير منه الداعي، وقالوا: إنه عاقبه على ذلك، وقال: إصلاح أدبه أبلغ من إثابته عليها، وهذا من غطرسة الأمراء، فكان يكفيه ألا يثيبه على القصيدة.

وقد أصلحت هذا المطلع، ونفيت عنه تخيبه؛ حيث قلت في تهنئة بعض أصحابنا بزفافه في ليلة المولد الشريف:

قل بشريان: فغرة الميلاد … وزفاف يمن حُفّ بالإسعاد

وأنكروا طالع قصيدة إسحاق بن ابراهيم الموصلي إذ يهنئ المعتصم ببناء قصر، ويقول:

يادار غيَّرك البِلى ومحاكِ … يا ليت شعري ما الذي أبلاك؟!

فتطير المعتصم بهذا المطلع، وأمر بهدم القصر من فوره.

فالشريعة تنهى الإنسان أن يعتقد أن العدوى تسري من المريض إلى الصحيح بذاتها، وتنهاه أن يتطير بشيء من الحوادث، وتأمره أن يعلم أن ما وقع في الكون إنما هو بإذن الله وقدره، وينبغي للشاعر أن يتجنب في مطلع قصيدة ما يكرهه السامع، ويتطير منه.

[1] مجلة “لواء الإسلام” – العدد الثالث من المجلد العاشر

[2] مدينة بالقطر التونسي

مقالات مقترحة