الله موجود [1]

لما فتح المسلمون البلاد شرقاً وغرباً في أقصر وقت؛ بسبب الدين وسماحته، ووقع اختلاط المسلمين بالأجانب لأخذ ما امتاز به الأجانب من العلوم، أخذ بعض من اعتقد الإِسلام ديناً يتحول عن عقيدته؛ لأنه لم يدرس شريعة الإِسلام، أو لم يدرسها حقَّ دراستها بحيث يستطيع أن يرد شبه الأجانب بسهولة، أو بنظر دقيق، فحاكاهم، وصار حرباً على الدين، كما جاهر بعض أفراد منهم بعداء الإِسلام، وزعم حسناته سيئات، وجرأهم على هذا الزعم والتمويه براعتهم في الأشياء الكونية.

 ونحن نفرق بين ما يدعو إليه الدين من الاعتقاد الصحيح والعمل المستقيم، وما تأتي به التجربة من العلوم التي قال فيها – صلى الله عليه وسلم -: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، فالدين جاء لما تضل فيه العقول من العقائد الصحيحة, والأعمال الاجتماعية التي لا تدرك استقامتها إلا بالوحي، ومن أمعن النظر، رأى الفرق واضح بين ما أرشد إليه الدين، وما تركه لتجربة المخلوقين، فلم يعرفوا الكهرباء والإذاعة وصنع القنبلة الذرية ونحوها؛ لأنها متروكة للتجربة الحسية.

 وبلغ بعض المنحرفين عن السبيل أن أنكروا أمراً ظاهر الدليل، وهو وجود واجب الوجود. ولظهور دليله، قال بعض الأئمة: إن الإنسان يعذب عذاب الخالدين؛ لتركه الاعتقاد بواجب الوجود، ولو لم يرد من الله -عز شأنه- رسول، وراعى غيرهم ظاهر الآية وعمومها، وهو قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

فقال هذا الفريق: لا لِعذب الله أحداً عذاب الخالدين إلا إذا بلغته دعوة رسول على وجهها. والدليل المنبه لوجود واجب الوجود هو إمكان الأشياء وحدوثها، أو بحدوثها, كما هو مقرر في علم الكلام.

ونذكر الاستدلال بحدوث الممكنات على وجه الاختصار، فنقول: إن وجود الحوادث بديهي؛ كالحيوان والنبات، فهذه الحوادث لم توجد بنفسها قطعًا، فلا بد لها من موجد، فإن كان الموجد لها واجب الوجود، فقد تم المراد، وارتفع النزاع، وإن كان الموجد لها حادثاً، فيلزم الدور والتسلسل.

“والدور: هو أن يكون الشيء الذي وجد بالحادث هو الذي أوجد الحادث، وهذا مستحيل، والتسلسل يقتضي وجود حوادث لا أول لها، وهو مستحيل أيضاً”.

وهذه الطريقة في الاستدلال أبين وأقصر من غيرها، وإن كانت طريقة الاستدلال بالممكن صحيحة وقطعية أيضاً.

ولما كانت الأعراض لا توجد إلا بوجود الأجسام، كان الدليل على حدوث الأجسام متضمنا دليل حدوث الأعراض.

والقرآن الكريم أكثر من الاستدلال على وجود الخالق بحدوث الأعراض؛ لأنه أقرب الطرق وأظهرها لإفهام الخلق؛ فإن القرآن نزل ليفهمه كل الناس من الخاصة والعامة.

قال الرازي: إن الاستدلال بحدوث الأعراض يتضمن التذكير بالنعم.

وقد سلك القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الخالق طريقين:

أولهما: كمال القدرة.

وثانيهما: تمام النعمة واللطف بالخلق؛ كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30].

فهذه الآية جمعت بين الاستدلال بكمال القدرة، وإتمام النعمة، ومثلها الآيات الدالة على كمال القدرة، والآيات الواردة في إتمام النعمة.

وانظر إلى قول موسى – عليه السلام – فيما قصه القرآن عنه: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].

أي: أعطى كل شيء صورته الخاصة، وشكله المعين المطابقين للحكمة والمصلحة.

واستدل أبو حنيفة – رضي الله عنه – على بعض الدهرية، وهم الذين عناهم القرآن بقوله:

{مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]

فقال: لو أن رجلًا يقول لكم: إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال، مملوءة بالأثقال، قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها، ولا متعهد يدفعها، هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا: لا، قال: سبحان الله! إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مُجرِ، فكيف يجوز نظام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها، وتغير أعمالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع وحافز؟ فأسلموا.

واستدل الشافعي – رضي الله عنه – بحدوث الأعراض أيضاً على وجود الله، فقال: ورقة الفرصاد (التوت) تأكلها دودة القز، فيخرج منها الإبريسم (الحرير)، وتأكلها النحل، فيخرج منها العسل، وتأكلها الشاة، فيخرج منها البعر، وتأكلها الظباء، فينعقد في نوافحها المسك، فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك، مع أن الورقة واحدة؟

واستدل أحمد بن حنبل على وجود الإله بحدوث الأعراض أيضاً، فقال: قلعة حصينة ملساء، لا فرجة فيها، ظاهرها كالفضة المذابة، وباطنها كالذهب الإبريز، ثم انشقت الجدران فخرج من القلعة حيوان سميع بصير. من فعل هذا؟ وعنى بالقلعة: البيضة، والحيوان: الفرخ الذي خرج منها.

وزعم بعض البسطاء: أن الجواهر وأعراضها حدثت بطبيعتها، وليس هناك موجد غيرها، يقولون هذا، وهم يعترفون بأن الطبيعة لا تعقل كثيراً ولا قليلًا، فكيف يجوز أن تنظم الطبيعة الكون هذا التنظيم البديع؟

فالقول بأن الطبيعة هي التي أحدثت هذا النظام قول مرفوض بالبداهة، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

والمعجزات التي تجري على أيدي الرسل -عليهم الصلاة والسلام – هي من فعل الله، وقد زادت الإيمان باللهِ قبل الإيمان بالرسل- عليهم الصلاة والسلام ولهذا ترى من فلاسفة الإِسلام إيماناً قوياً صحيحاً.

قال أبو بكر بن الطفيل: فيلسوف الأندلس يصف الروح والبدن:

نورٌ تردَّد في طينٍ إلى أجلٍ … فانحاز علواً وخلّى الطين للكفنِ

يا شد ما افترقا من بعد ما اجتمعا … أظنُّها هدنة كانت على دَخَنِ

إن لم يكن في رضا الله اجتماعُها … فيا لها صفقة تمتْ على غبنِ

وأدلة القرآن قطعية الدلالة، فيها مقنع وكفاية لكل ذي عقل مفكِّر، فانظر إلى قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]. تجد الدليل القوي على وجود الخالق -جل وعزّ-.

[1] مجلة “لواء الإِسلام” – العدد الثاني عشر من السنة العاشرة.

مقالات مقترحة