خطبة جمعية بعنوان
تحرير القدس أمانة في عهدة[1] المسلمين
للشيخ الزيتوني عبد العزيز الزغلامي
بسمّ الله الرّحمان الرّحيم الّذي أكمل لنا الدّين وأتمّ علينا النّعمة ورضي لنا الإسلام دينا وأنزل القرآن هدى ونوراً وجعله للحياة دستوراً فكشف به عن الحقائق سطوراً وجلّا به عن المعارف ديجوراً[2] ووعد عباده المؤمنين بالنّصر والتأييد والعزّة في الدّنيا والسعادة والغفران وجنّات النعيم ورضاه في دار القرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة في صميم القلب محلّها وألفة أحق بها وأهلها، ونشهد أنّ سيّدنا محمّداً عبده ورسوله الأمين المبعوث رحمة للعالمين بالهدى ودين الحقّ فجاهد في الله حقّ جهاده ودعا إلى سبيل الرّشاد حتّى ظهر دين الله وعلت كلمته وتمّت نعمته وشملت رحمته أقطاراً واسعةً من الأرض، اللّهم صلّ وسلّم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين وأرضى عن آله وصحبه الطيّبين الهادين أنصار دينه الأوّلين وعمّن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد فإنّ القدس أمانة واجبة الرعاية على المسلمين، ولا يمكن التخلّي عنها مهما كانت الظروف فقد امتحن الله بقضيّة فلسطين ضمائر المؤمنين وهممهم وأنفسهم وأموالهم ووحدتهم، ففي قلب كلّ مسلم من قضية القدس جروح دامية لا تندمل، وفي جفن كل مسلم من محنته عبرات تنهمر، وعلى لسان كل مسلم في حقه كلمة يرددها دوماً، القدس قطعة من وطني الإسلامي الكبير، قبل أن يكون قطعة من وطني العربي الصغير، وفي عنق كلّ مسلم له حقّ واجب الأداء وذمام تتأكّد رعايتها حتّى يتحرّر، فإذا كان حبّ الوطن من أثر النشأة والهواء والتراب والمآرب، فإنّ هوى المسلم للقدس أبلغ وأعمق أثراً إذ هو مسرى رسولنا عليه الصلاة والسلام، وأولى القبلتين، وثالث الحرمين، وكان نهاية المرحلة الأرضيّة من إسراء نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام وبداية المرحلة السماويّة في معراجه تلك المرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعوداً بعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطاً.
لهذا كلّه فإنّ كلّ مسلم سيقدّم له اليوم ما يملك حتّى يتخلّص من براثن الصهيونيّة، وتبقى له قدسيّته المكملة لقدسيّة مكّة والمدينة.
لقد ابتلي القدس بأبشع احتلال عرفه التاريخ إذ غمر أرضه الطاهرة ذئاب من البشر وشراذم من عبّاد المال تهافتت عليه من أقاليم أروبا ليست متّحدة العرق، وإنّما هي أمشاج[3] متباينة الخصائص الجنسيّة، والطبائع والنزعات الوراثيّة جمعت بينها المطامع الماديّة وخبث الصهيونيّة والخديعة السياسيّة وشجعتها غفوة المسلمين، إذ فيها السكسوني واللاتيني والجرماني والسلافي وبقايا الفلول والأوزاع الّتي أطردتها أوروبا من الصهاينة الماكرين والّتي جمعت كلّ مختال دجّال وعابد للمال، يحميهم الحديد ويدافع عنهم الذهب يريدون أن يحقّقوا في القدس حلماً غلطوا في تفسيره، وأن ينصبوا فيها مسيحاً دجالاً بعد أن كذّبوا المسيح الصادق وادّعوا قتله كذباً، يقول تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النّساء: 157]، وينتقموا فيها من المسلمين بعد أن عجزوا عن الانتقام من أعدائهم: بابل واليونان وفارس والرومان وإيطاليا والإسبان وروسيا ثمّ الألمان، وأن يرثوا أرض القدس دون استحقاق و يجعلوا من بني الإسماعيل خولاً[4] لبني إسحاق، ولقد تألّبت عليه الأيّام واصطلحت مع الليالي فلا تأتيه إلّا سوداء حالكة بالظّلمات. هذا القدس الّذي تأرّج ثراه بالأثر العاطر من إسراء خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وتخضّبت بدماء الشهداء الأبرار من الصحابة الكرام، أمثال جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة وغيرهم.
إنّ القدس ليس لعرب فلسطين فقط وإنّما هو للمسلمين كلّهم إذ أصبح خاصّاً بهم بصفة شرعيّة من ليلة إسراء رسولنا ﷺ حين أفصح القرآن عن ذلك في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]، وبصفة عمليّة من يوم فتحه المسلمون، ودخله الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس بنفسه سنة 15هـ / 617م، وقد اطمأنّت قلوب أهله بهدى القرآن وشريعة الإسلام وجنوحهم من أوّل يوم بعدل عمر رضي الله عنه.
وقد ظلّ الحكم الإسلامي لبيت المقدس وللمدينة المقدسة بالتواجد القانوني من التاريخ المذكور إلى نكبة 1368هـ / 1948م، الّتي تخلّى فيها حكّام المسلمين حينئذ باستثناء عبد العزيز بن عبد الرحمان السعودي الّذي بذل جهداً فائقا في قضية فلسطين حينما اتّصل به الحلفاء في الحرب العالميّة الأخيرة ورغبوا منه أن يتّصل بالعالم الإسلامي للدخول معهم للتغلّب على ألمانيا و إيطاليا: المحور، نظراً لسمعته الإسلاميّة فركب الطائرة ليلتقي بالرئيس روزفلت رئيس أمريكا بالبحر الأحمر على ظهر مدرعة حربيّة في جانفي 1945م، وتمّ اللّقاء وجرت بينهما مذاكرات رسميّة سجّلت حرفيّا عند أبي سعود وكان من أثارها أن صرّح روزفلت في مكتوب رسمي لابن سعود باقتناعه بصواب نظريّة العرب في شأن قضيّة فلسطين وأنّه تفهّم بجلاء ما أفاض فيه جلالته من وجوب بيان الفصل بين قضيّة اليهود العالميّة والقضيّة الفلسطينيّة الخاصّة وإنّه إذا كان لليهود لزوم إستقرار في أرض فإنّ فلسطين لا يمكن أن تكون ذالك المستقرّ. ولقد صرّح بأنّه قد أعلم المستر تشرشل[5] على ما دار بينه وبين روزفيلت وأنّ تشرشل وافق مبدئيّاً على ذلك وعلى ما تضمنته رسالة روزفيلت الرسميّة مع شيء من الإحتراز[6].
ولكن للأسف أنّ روزفيلت الّذي كان مصمّما على عدم الإعتراف لليهود بموطن فلسطين توفّي وجاء خلفه ترومان المجرم الّذي وقف لفائدة العصابة الصهيونيّة وتمّ الأمر كما أرادوا.
أيّها المسلمون إن إخوانكم في فلسطين يتصدّون كلّ يوم للهجمات الشرسة والاعتداءات الفظيعة من طرف ذئاب البشريّة وخنازيرها، وأنّ إخوانكم يموتون كلّ حين وأنّ أبطال أمّتنا على مرّ العصور تطلّ أرواحهم على جميع المسلمين وتهيب بهم أن يجمعوا أمرهم للجهاد في سبيل الله ذوداً عن شعب فلسطين وانقاذ المسجد الأقصى وتحريره من الغاصبين، وأنّ النّصر لآت للمؤمنين طالما توحّدوا ورجعوا إلى دينهم وعزتهم، يقول تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنفقون:8]، إذ لا يتحمّل المؤمن حقاً الإهانة والذلّ يقول أحد الشعراء في هذا المضمار:
ولا يقيم على ضيم يراد به إلاّ الأذلان عير الحيّ والوتد
أيّها المؤمنون إنّ التخلّي عن القدس وفلسطين خيانة وجريمة عند ربّ العالمين، يقول الحقّ سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]. إنّ الله أمرنا بالصبر والثبات عند ملاقاة العدوّ إذ يقول جلّ شأنه: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 104].
أيّها المسلمون عليكم بالصبر الّذي هو عدّة النّجاح في أحلك الظروف وأعتاها، والصبر هو حبس النّفس عند الجزع والتوجّه إلى ربّ العالمين القائل: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 127-128]، ولقيمته يقول عليه الصلاة والسلام: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجدّ» (رواه الديلمي).
كما تتحلون بتقوى ربّ العالمين لأداء التكاليف الإيجابية بأداء الأوامر واجتناب النواهي، فالتقوى تاج العمل الصالح تشدّ المجتمع الإسلامي وتلمّ شعثه من الانهيار والسقوط والاستسلام للأعداء فإذا كنتم من المتّقين حقّاً فإنّ الله يجعل لكم مخرجاً ممّا أنتم فيه وينصركم على أعدائكم، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2].
بحيث إذا وقف المؤمن على حدود الله الّتي بينها لعباده بيانا واضحاً، امتلأت نفسه بعظمته فخاف غضبه وعقابه ورجا رضاه ورحمته، فتزكّت نفسه وأشرق عليها الحقّ واليقين فاتّجهت إلى الخير والصلاح في سائر أحواله وهذا من أساس الإصلاح الاجتماعي الّذي منبعه الحقّ ومبعثه الإيمان وسعادة الإنسان، فسيروا على هذا المنهج القويم من تقوى ربّ العالمين بوحدة صمّاء وصفّ مرصوص للقضاء على نازية العصر وسرطان أمّتنا الإسلاميّة الصهيونية الماكرة يقول تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران: 12-13]
ويقول جلّ شأنه: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصفّ: 4]، ويقول سبحانه: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].
رحم الله شهداءنا الأبرار الّذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فقاتلوا في سبيله بعزيمة صادقة وثقة واطمئنان لجزاء ربّ العالمين القائل: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]، إذ كتبوا لأنفسهم حياة سعيدة في جنّة النّعيم ورضوان ربّ العالمين، وسجّلوا لأمّتهم المجد والخلود ولمقدساتهم وأوطانهم الحريّة والكرامة وشجّعوا من بقي بعدهم على مواصلة الكفاح لطرد الصهيونيّة المجرمة والظالمين من أرض المسلمين في العراق وأفغانستان وفي الشيشان وفي كشمير وفي فليبين، وقد أفصح الكتاب العزيز في كثير من الآيات على سوء عاقبة الظالمين يقول سبحانه: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ﴾ [الأنبياء: 11]، ويقول جلّ شأنه: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227]، ويقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: 45].
فلنسأل الله الصبر الجميل والثبات القويم لسائر المكافحين الغيورين على دينهم وأوطانهم من أمّتنا والجزاء على ما أصابهم في سبيله بالنّصر على العدوّ والرّحمة والرضوان لمن مات شهيداً، والصبر الجميل للأحياء.
ألا إنّ أحسن الكلام في التبليغ والتبشير وأنجع دواء للقلب الكسير كلام من جلّ عن الشبيه والنظير أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمان الرحيم: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحجّ: 40].
[1] العهدة: الالتزام بالشيء وبتنفيذه.
[2] الديجور: بفتح الدال وسكون الياء: الظلام
[3] أمشاج: أخلاط من عناصر مختلفة
[4] الخول: اسم يقع على العبد والأمة قال الفرّاء: هو جمع خائل وهو الراعي وقال غيره: هو مأخوذ من التخويل وهو التمليك.
[5] تشرشل: رئيس الحكومة البريطانية وقتها.
[6] فلسطين الوطن القوي للعرب حلقة 6 ص42 ج 2: المرحوم محمد الفاضل ابن عاشور