جامع الزيتونة
من أقدم الكلّيات في العالم وأكثرها إنتاجا
فما هي مهمّته وهل هو قائم بها؟
الشيخ محمد المختار بن محمود
جامع الزيتونة مسجد أسس على التقوى من أوّل يوم « مسجد إذا بدا لك تبلّج نورُهُ اللامع أيقنتَ أنه الجامِع المُفرَد والفَرْد (الجامع )[1]، روضُ العبادة ومعبدُ الرياضة، بستانُ علومِ زهرٍ دوحاتُها الفتحُ وثمارُها الإفاضةُ، بحرُ بركاتٍ شُحِنتْ فُـلْكُها ببضائع الأسرار، وطوْدُ عنايات يُقتبَسُ من جانبها نورُ المدد بالعشيّ والإبكار، ما سرَحَ ناظرُ المؤمنِ في أثنائه إلا امتلأ علمًا من بادِراتِ ثناياهُ، يَحْكي بجماله أجملَ عروس صيغ لها من معادن الطروس[2] قلائدُ حِلق الدروس، تحسِبُ مدرّسيها أُسودَ غياض، ودوائر تلامذتهم حياضًا في رياض، لا عيبَ فيه غير أنه غدا بين أقرانه بمرتبة الصدرِ، واختصّ بأنْ ينشرحَ لوارديهِ الصدرُ، فما ضاق صدرُ مهمومٍ ودخله إلا انْفرجَ، وانفتحتْ له بلطيف عنايته أبوابُ الفرج، بِهِ أماكنُ اشتهرتْ برجاء قبول الدُّعا، فطوبى لمنْ أخلصَ و دعا »[3].
وقد اختلف المؤرخون التونسيون في مؤسِّسه، وأصحُّ تلك الروايات أنّ الذي أسسه هو عبيد الله بن الحبحاب[4] في العام الرابع عشر من القرن الثاني للهجرة، وعليها اقتصر غالب المؤرخين من القدماء والمحدثين، وذكرت رواية أخرى أن الذي أسسه هو حسان بن النعمان[5] ، وقد جمع ابن دينار بين الروايتين بأن حسان هو الذي فتحها (أي تونس) وبنى بها مسجدا وعبيد الله بن الحبحاب زاد في ضخامته كما أن زيادة الله بن الأغلب [6] زاد فيه وضخّمه وكمُلت ضخامتُه في أيام بني حفص.[7]
إذًا فجامع الزيتونة قد أسس في خير القرون أو في القرن الذي يليه على يد كبار التابعين رضي الله عنهم، فمن أجل ذلك كان منظورا إليه بعين الإجلال والتعظيم من جميع المسلمين وخصوصا من أهل تونس الذين جعلوه قبلة أنظارهم وبالغوا في تعظيمه حتى أن الشيخ أحمد برناز[8] نقل في شُبَهِهِ عن الشيخ عبد الوهاب الشعراني[9] في بعض كتبه أنه قال «جامع الزيتونة في بلاد المغرب ملحق بالمساجد الثلاثة». ونقل بعض المؤرخين عن الشيخ سعيد الشريف [1234 – 1306 هـ] أن نوحا عليه الصلاة والسلام في يوم الطوفان الأكبر وقفت به السفينة في وسط البحر فأوحى الله إليه أن تلك بقعة يقال لها جامع الزيتونة[10].
ولا يخفى على القارئ اللبيب أن هذا من المبالغة التي لا نصيب لها من الصحة إذ ليس هناك ما يؤيدها، وغاية ما تدل عليه هو مقدار الإجلال والتعظيم اللذيْن مُلئت بهما نفوس التونسيين نحو جامع الزيتونة، ومعلومٌ أن النفوس إذا توجهت إلى شيء وبالغت في تعظيمه نسبت إليه أمورا كثيرة يُمليها عليها الخيال، فكأنها تعتقد أن الحقيقة مهما كانت ناصعة لا تكفي لتوفية ذلك الشيء العظيم حقه.
وقد أسَّس جامعُ الزيتونة على أن يكون محل عبادة، ولما كان المسلمون في العصور الأولى يقومون في الجوامع بكل ما يهمهم من الشؤون التي لا تنافي ما يجب لبيوت الله من الاحترام فقد صار جامع الزيتونة محلا للتعليم تُلقى فيه الدروس العلمية على اختلاف مواضيعها وأنواعها، ولا يُعلم بالضبط تاريخ جعله محلا للتعليم ولا تاريخ تنظيم التعليم فيه، لأن تلك الدروس لم تكن في أولها نظامية بالأسلوب المتعارف اليوم، فمن العسير ضبط تاريخ وجودها به، والظاهر أن الدروس صارت تُلقى فيه من القرن الثالث ثم أخذت تنتظم شيئا فشيئا إلى ابتداء الدولة الحفصية سنة 603 هـ. فعند ذلك ازدهر التعليم بجامع الزيتونة وكثر انتشاره، وتفنن الناس في مختلف العلوم والفنون وتخصصوا فيها حتى اشتهر كل واحد بما تخصص فيه، وظهرت في ذلك العصر التآليف الكثيرة، واعتنى الناس بالدروس العليا حتى برعوا فيها، وكان هناك تبادل في الآراء والأبحاث بين علماء الزيتونة وبقية علماء المشرق والمغرب، وكان من أعلام ذلك العصر ابن عبد السلام [76-749هـ 1277 – 1348 م] وابن عرفة [716 – 803 هـ / 1316 – 1401 م] وابن خلدون [732 – 808 هـ / 1332 – 1406 م] والأبيّ [تـ827 هـ / 1423 م] والبُرزُلي [738– 841 هـ /1337 – 1438م][11].
ثم أخذ التعليم بجامع الزيتونة يترقّى ويأخذ الصبغة النظامية ويتدرج في ذلك مع مرور الزمان وإن طرأ عليه شيء من الفتور والاختلال في بعض الأحيان… إلى أن آلت الدولة في هذه البلاد للعائلة الحسينية أدام الله ملكها، فعند ذلك ازدهرت الحياة العلمية وتظافرت همم من تداول المُلكَ من أبنائها على ترقية العلوم والسعي في انتشارها وتسهيل سبل تحصيلها على القاصدين، ولكن مع ذلك لم يأخذ التعليم بالجامع صبغة نظامية مُحْكمة حتى تولّى الملك المشير الأول أبو العباس أحمد باشا [1806 – 1855 م ]، و هو الملك ذو الهمة العالية والمرامي السامية. فقد أراد أن يرقّي البلاد التونسية من جميع النواحي، وحيث كان أكبر مظهر لرقيّ الأمم يتجلى في اعتنائها بالناحية العلمية فقد توجه هذا الأمير العظيم إلى جامع الزيتونة ووضع الحجر الأساسي لتنظيم التعليم فيه بإصداره للأمر العليّ المؤرخ بيوم 27 رمضان سنة 1258 هـ الموافق ليوم 26 نوفمبر سنة 1842 م[12]، قد تضمن هذا الأمر تعيين عدد المدرسين، وإلزام كل واحد منهم بدرسيْن، وضبط هيئة إدارية للجامع مكلفة بتنظيم الدروس ومراقبة أحوال المدرسين، وضبط مرتباتِهم و تكوينَ موارد قارّة لها من ميزانية الدولة، و لكنه لم يتعرض لتعيين الفنون التي تُدرّس بالجامع ولا لضبط أحوال التلامذة ولا لكثير من التراتيب التي لا بد منها لتنظيم التعليم، فمن أجل ذلك يُعتبر هذا الأمر كشروع في التنظيم، وكان من الضروري أن تمتد يد الإصلاح لتدارك ما أهمله من الأنظمة التي لا بد منها.
و لما تولّى الوزارة الكبرى بتونس الوزير المصلح خير الدين باشا [1820–1890م]- رحمة الله – أراد أن يتدارك ذلك فانتخب لجنة من كبار العلماء وعهِد إليها بوضع قانون للتعليم، فوضع هذا القانون وكان مُحْكم النظام وافيًا بما تستدعيه حاجة ذلك الزمان وكان ضابطا لإدارة الجامع ولأحوال المدرسين والتلامذة و مُعَـيِّـنًا للعلوم التي تُدْرس بالجامع وللكتب التي تُدرّس بها، وصدر به الأمر العلي المؤرخ بيوم 28 من ذي القعدة 1292 هـ الموافق ليوم 26 ديسمبر 1875 م من المشير الثالث محمد الصادق باشا باي رحمة الله [ 1813 – 1882 م ] .
و أُلحِقَ هذا الأمر بعدة أوامر صدرت من الأمير الجليل علي باشا باي رحمة الله [1688– 1756م] على عهد الوزير العالم الفقيه الشيخ محمد العزيز بوعتور [1825 -1907م]، و لكنها أوامرُ تتعلق ببعض جزئياتٍ لم تَمسَّ بجوهر ذلك القانون فبقي معمولا به إلى عام 1328 هـ [1910م]، فعند ذلك ظهر أن التراتيب المذكورة صارت لا تفي بحاجيات التعليم التي اقتضاها هذا الزمان، وأدركَ ضرورةَ تنقيحها وإدخالَ أحكامٍ جديدةٍ عليها كلُّ من يهمه أمرُ العلم والتعليم من رجال الدولة وشيوخ المجلس الشرعي والمشائخ المدرسين، ونهض التلامذة أنفسُهم مطالبين بإصلاح التعليم بالمعهد الزيتوني المعمور، وبمقتضى ذلك تكوّنت لجنة من رجال العلم والإدارة و كُلِّفت بوضع قانون جديد للجامع يحتوي على كل ما تدعو إليه الضرورة من الأنظمة الإدارية والتراتيب العلمية و زيادة فنونٍ وكتبٍ لا بد منها، فوضَعتْ هذه اللجنةُ قانونا ضابطا لتلك الأمور كلها، وصدر به الأمر العلي المؤرخ يوم 5 شوال 1330 هـ الموافق ليوم 26 سبتمبر 1912م من الأمير الجليل محمد الناصر باشا باي رحمة الله [1855 – 1922 م ] على عهد الوزارة اليوسفية.
واستمر العمل بهذا القانون وظهرت نتائجه، وألحق بعدة أوامر ومناشير لتنقيح بعض فصوله حسبما دعت الضرورة إليه في ذلك الحين إلى أن تولى الوزارة الكبرى الوزير الخيِّرُ المرحوم مصطفى دنقزلي [ 1869 – 1934 م] في عام 1340 هـ [ 1922 م ] فتعلق غرضه بأن يحوِّر القانون السابق ويضم إليه ما أبانت الظروف وجوبَ إدخاله من العلوم والتراتيب، واعتنى بالموضوع اعتناء جدّيا وأصدر معروضا من الأمير محمد الحبيب باشا باي رحمه الله [ 1858 – 1929 م ] [13] بتكوين لجنة لهذا الغرض، انتظم عِقْدُها من أعضاء مجلس النُّظّار وبعض رجال المجلس الشرعي والمدرسين بالجامع وكثير من رجال الدولة من تونسيين وفرنسويين، و كان هو الرئيس المباشر لهذه اللجنة و شرعت هذه اللجنة في أعمالها واستمرت عليها بانتظام إلى أن وضعتْ لائحةَ قانونٍ لإصلاح التعليم تامّ الموجبات من جميع النواحي. [14]
ولكنْ لأسبابٍ لا نعرفُها لحد الآن قد تعطلت تلك الأعمال ونسجت عليها عناكب النسيان!!!
المجلة الزيتونية
مقال: جامع الزيتونة ـ مج 2 الجزء 2 ص 50 رمضان 1356 / نوفمبر 1937
[1] – من غرائب الصدف أن لفظ (جامع) هو تاريخ تأسيس جامع الزيتونة بحروف الجمل وذلك لأنك إذا جمعت أعداد هاته الحروف الأربعة يحصل لك مائة وأربعة عشر وذلك هو تاريخ تأسيس جامع الزيتونة على أصح الروايات.
[2] – طُروس وأطْراس جمعٌ مفردٌهُ طِرْس وهي الصحيفة أو التي مُحيت ثم كُتبت. (عن محيط المحيط، البستاني ص548)
[3] – [منقول] من الجزء الأول من تاريخ الوزير التونسي ابن السراج [1069 – 1149 هـ / 1659 – 1736 م] الفصل الثاني من الباب الخامس، نسخة خطية توجد بمكتبة محرِّرِهِ [أي كاتب هذا المقال وهو الشيخ محمد المختار بن محمود].
[4] – كان عاملا لهشام بن عبد الملك على مصر وأرسله إلى تونس سنة 110 هـ عشر و مائة.
[5] – حسان بن النعمان من بني مزيقيا بن عامر وكان يلقب بالشيخ الأمين، أرسله عبد الملك بن مروان لإفريقية فوصل إلى القيروان سنة 79 هـ ومعه جند عددهم أربعون ألفا، وله مآثر عظيمة منها تجديد جامع عقبة بالقيروان وتأسيس أول مصنع إسلامي للسفن والمراكب الحربية وقد أسسه بالقرب من قرطاجنة وهو المكان المسمى بدار الصناعة، وصار يُسمّى اليوم [1937 م من السلط الاستعمارية والمستغربين] (أميلكار) إبعادًا لذكراه المجيدة عن الأفكار!! وقد جلب [حسان بن النعمان لصنع السفن] ألف عائلة من قبط مصر فأقرهم هناك ومن مأثره نصب الخراج على الأراضي وتدوين الدواوين الدولية بإفريقية وجعل اللغة العربية لغة رسمية.
[6] – زيادة الله بن الأغلب تولى الملك بتونس سنة 201 هـ وتوفي في ملكه سنة 223 هـ
[7] – المؤنس في أخبار إفريقية وتونس لابن دينار صفحة 13 المطبوع بمطبعة الدولة التونسية سنة 1283 هـ
[8] – [برناز (1074- 1138 هـ) (1664- 1726 م) أحمد ابن الشيخ محمد بن مصطفى الشهير بقارة المعروف ببرناز (لفظة تركية معناها كبير الأنف جريا على عادة الأتراك في نعتهم الشخص بشيء انفرد به) من سلالة الأتراك المستقرين بتونس حنفي المذهب كان جوالا في الأقطار للقاء علماء عصره والأخذ عنهم. كان من ألمع علماء عصره مشاركا في عدة علوم مجيدا للغتين التركية والفارسية ولوعا بالتدوين والتأليف. من أشهر كتبه الشهب المحرقة في من ادعى الاجتهاد لولا انقطاعه عن المخرقة.. (اقتباس عن تراجم المؤلفين لمحمد محفوظ ص 92 وما بعدها)]
[9] – [الإمام أبو المواهب عبد الوهّاب بن أحمد بن علي الأنصاري المشهور بـالشعراني من علماء القرن العاشر الهجري (898- 973هـ) عاش بمصر وتوفي بها، يعتبر مؤرخا وفيلسوفا وكاتبا في العلوم الشرعية ومتصوفا، تأثر بعلي االخواص وزكرياء الأنصاري وجلال الدين السيوطي وابن عربي الصوفي، له ما يناهز 300 مؤلف لعلّ أبرزها كتاب اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر – عن ويكيبيدا]
[10] – من (تاريخ الوزير ابن السراج) المنقول عنه سابقا [والقائم بالنقل هو صاحب هذا المقال الشيخ محمد المختار بن محمود]
[11] – أنظر تلخيص محاضرة الأستاذ الجليل الشيخ البشير النيفر عن تاريخ الحركة العلمية بجامع الزيتوتة بصفحة 553 من المجلد الأول للمجلة الزيتونية [الجزء 10 ربيع الثاني 1356/ جوان 1937]
[12] – يُعرف هذا الأمر في الأوساط العلمية بـ(المـُعَـلّقَة) لأن الأمير المذكور أذن بكتابته بالذهب وتعليقه في إطار كبير بداخل جامع الزيتونة قرب باب الشفاء وهو لا يزال معلقا في موضعه إلى اليوم [يقصد الكاتب عام 1937 م تاريخ كتابة هذا المقال، ولا ندري اليوم 2020 م هل ما زال هذا الإطار في مكانه أم لا]، وعلى من يريد الاطلاع عليه أن يراجع كتاب (تراتيب التدريس بجامع الزيتونة عمّره الله تعالى) المطبوع بالمطبعة الرسمية عام 1330 هـ. [ملاحظة: كل كتابة ما بين معقفين على هذا الشكل: […] هي من إضافة الراقن]
[13] – أنظر المعروض الصادر من الأمير محمد الحبيب باشا باي بتاريخ 18 ذي القعدة 1342 هـ الموافق ليوم 21 جوان 1924 م
[14] – هذه اللائحة قد طبعت مع (المعروض) الذي اشتمل على تعيين أعضاء اللجنة و على تحديد موضوعها في سِفر خاص بالمطبعة الرسمية عام 1348 هـ و وزعت على أعضاء اللجنة التي سيأتي الكلام عليها فيما بعد لتجعلها كنواة للعمل الذي ستقوم به، و فعلا فإنها قد أقرت الكثير من فصولها، و مما ينبغي تسجيله بهاته المناسبة ما حكاه لي كاتب اللجنة الأديب الفاضل الشيخ محمد المقداد الورتتاني عن مبلغ اعتناء الوزير مصطفى دنقزلي بهذا الموضوع حتى أنه كان يقضي معه عدة ساعات تستغرق أحيانا إلى ما بعد نصف الليل في خدمة ذلك و الإسراع بإنجازه رحمه الله برحمته الواسعة.