جامع الزّيتونة
يتصدّى للمبشّرين المسيحيين بتونس
سنة 1364هـ /1945م
بقلم الأستاذ الشيخ عبيدي البوعلاّقي
لقد كان العدد التّاسع من المجلّة الزّيتونية (عددا خاصا[1]) متعلّقا بحدث جلل، على الصّعيد الوطني، ارتجّ له جامع الزّيتونة بمشائخه وطلبته، وانزعج له المجتمع التّونسي المسلم، وذلك بسبب ما كانت تقوم به الكنيسة في تونس من نشاط تبشيري، فتصدّر الصّفحة الأولى من المجلة عنوان (الإسلام والمبشّرون) وتحته كُتبت الآية الثانية والثلاثون من سورة التوبة: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32].
وجاء في مطلع المقال الّذي كان بقلم مدير المجلّة الشّيخ محمد الشّاذلي ابن القاضي ما يلي: «ظهرت من الكنيسة البروستانتينية بتونس في العهد الأخير نشرية تهجّمت على الإسلام والمسلمين[2]، وخاصّة على مقام الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم، وكشفت القناع عمّا يقوم به الرّهبان والرّاهبات في هذا الشّمال الإفريقي ممّا يسمّونه بالتّبشير، وما يرتكبونه من الحيل لتنصير أبناء المسلمين والدّعوة إلى بذل الجهد لجلب الملايين من المسلمين للمسيحية، والسّعي الحثيث للوصول إلى هذه الغاية..» إلى أن يقول في آخر المقال: «تقول الرّسالة فيما استعرضته من طرق التّبشير في الأوساط الإسلامية أنّها كثيرة: منها ترويج الكتب الدّينية بمحلاّت المطالعة والأسواق والمقاهي العربية، ومنها ـ وهو أنجعها وأجداها نفعا فيما يقولون ـ السّعي لدى الأطفال خصوصا، إذا أمكن إبعادهم عن أيّ تأثير إسلامي، ومنها تكوين الملاجئ لصغار العرب، ومنها تأسيس دروس خياطة يزدوج فيها التّعليم التّطبيقي بتعليم الإنجيل، ومنها الزّيارات للدّيار العربية للاجتماع بالنّساء المسلمات وتقديم النّصيحة المسيحيّة!! هذه بعض الطرق التي أفصحت عنها الرّسالة».
ثمّ ينادي الشيخُ محذِّرا: «فيا معشر المسلمين إنّ ممّا فرضه الله علينا أن نذكِّركم بما يوجِبُه الإسلام، وننصح لكم إزاء هذه الأعمال وهاته الطّرق الضّارّة بكم وأبنائكم ومرضاكم ونسائكم. فالواجب عليكم أن تحْذَروا هؤلاء النّاس فلا تعلّموا أبناءكم وبناتكم في مدارسهم، ولا تُداوُوا مرضاكم في مستشفياتهم، وقد أعدّتْ لكم الحكومة [التونسية] المدارس والمستشفيات.. فلا يباح لكم تقديم فلذات أكبادكم لهؤلاء الّذين ظهر أمرهم للعيان، ولا تأمنوهم عليهم بعدما علِمتم برامجهم. واتّقوا الله فيما تحت أمانتكم والله يحبّ المتقين».
ثمّ جاء في الصّفحة 220 من العدد نفسه من المجلّة الزيتونية العنوان الآتي: (دور جامع الزّيتونة نحو الدّعاية المسيحيّة) ولم يوجد تحته إمضاء صاحبه، ممّا يدلّ على أنّه من الأخبار الّتي تقدّمها المجلّة، وممّا كتب تحته ننتقي الفقرات الآتية:
– الفقرة الأولى: «لمّا اطّلعت الهيئة العلمية بجامع الزّيتونة على ما تضمّنه المقال المنشور بنشرة الكنيسة (عاملون مع الله) حصل لها الاستياء العظيم والألم الشديد من التَّجَرِّي على مقام الرّسول الأعظم، رسول الإنسانية، ومنقذ البشرية صلى الله عليه وسلّم..» واسترسل النّص مبيّنا كيف أنّ المشايخ المدرّسين عقدوا اجتماعا بالجامع الأعظم يوم الإثنين 9 محرّم، قرّروا إثره الذّهاب للمشيخة العلمية لتقديم احتجاجهم[3] وطلب تبليغه للمراجع الحكومية..
– الفقرة الثّانية: «وفي مساء اليوم العاشر من محرّم قصد وفدٌ من المشائخ المدرّسين على رأسه سماحة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأعظم الشّيخ صالح المالقي قصر الإمارة بحمام الأنف، وحظي بمقابلة صاحب العرش الحسيني سيدنا محمّد الأمين باشا باي… فأعرب شيخ الجامع للحضرة العليّة عن الاستياء العظيم الّذي حصل للهيئة العلمية بجامع الزيتونة ممّا نُشر بنشرية (عاملون مع الله) والتمس منه اتّخاذ موقف يصدّ المعتدين عن ارتكاب أمثال هذه الأمور الّتي تمسّ بكرامة الإسلام والمسلمين»، فأجاب الملك محمد الأمين باي: «إني مهتمّ بهذا الحدث أكبر الاهتمام من قبل أن تخاطبوني في شأنه، وفي صباح هذا اليوم كَلفتُ الوزير ليخاطب المقيم العام في شأنه وأعلمني الآن أنّ المقيم العام يعتذرُ لي عما حدث، وأنّه اتّخذ الإجراءات اللاّزمة نحو هؤلاء النّاس، وأنّه يعِدُني أن لا يُعادَ مثلُ هذا الحادث في المستقبل».
– الفقرة الثالثة: «.. الهيئة الشرعية: وقد بلغنا ـ أي بلغ إدارة المجلة ـ أنّ أصحاب الفضيلة شيوخ الشرع العزيز قدّموا احتجاجهم للحكومة…».
– الفقرة الرّابعة: «مدرّسو فروع الآفاق ـ أي فروع الزيتونة في أرجاء المملكة التونسية ـ: كما بلغنا أنّ مدرّسي فروع الآفاق قدّموا احتجاجاتهم عن طريق المشيخة العلمية بجامع الزيتونة…».
– الفقرة الخامسة: «جمعية الشبّان المسلمين: قامت جمعية الشّبان المسلمين برفع نازلة، وطلبت من نائب الحقّ العام المحاكمة لردع أمثال هؤلاء القوم» [المقصود بـ (القوم) هيئة الكنيسة الإصلاحية (البروتستانتْles protestants ) بتونس]
هذا وقد جاء بالمجلّة ضمن تفاصيل هذا الخبر أيضا:
– «.. أنّ ممثّل الحكومة الفرنسوية الحامية الّتي تربطها علائق متينة مع العالم الإسلامي قد استاء كثيرا ممّا تضمنته هذه النشرية، ويعلن أنّ فرنسا لا زالت ولن تزال محافظة على سياسة التّسامح مع كافّة العناصر الإسلامية، واحترام العقائد والأديان، وقد وقع اتّخاذ الاحتياطات اللاّزمة حتّى لا يُعاد مثل ذلك في المستقبل».
وقد علّقت إدارة المجلّة المتمثلة في شخص الشّيخ محمد الشّاذلي ابن القاضي على هذا الخبر قائلة:
– «إنّ عبارة (التّسامح) الّتي جاءت في البلاغ تعجّبَ منها المسلمون؛ لأنّهم يعتقدون – وكما هو الواقع – أنّ إقامة الدّين الإسلامي والشّعائر الإسلامية في هذه الدّيار الإسلامية ليست من باب (التّسامح) من الحكومة الفرنسوية، بل إنّ الدّين الإسلامي هو الدّين الرّسمي للحكومة التّونسية، ولِسُمُوِّ الباي المعظم من عهْدِ نصْب الحماية إلى اليوم، وهو دينُ رعاياهُ المخلصين للعرش الحسيني المحروسِ، فكيف يُمَنُّ عليهم بـ (التّسامح) مع كافّة العناصر الإسلامية ؟؟!!».
فممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ سلط الحماية قرأت الحدث قراءة مختلفة تماما عن قراءة الزّيتونيين والرّأي العام التّونسي، فهَوَّنَتْ من خطورته باستعمالها لفظ (تسامح) وهي بذلك تشير إشارة خفية إلى أنّ التّونسيين لو تحلّوا بمقدار التّسامح المرغوب من سلط الحماية لما صدمهم مقال الكنيسة البروتستانتينية؛ لأنّه – في نظرها – من حقّ المسيحيين الفرنسيين أن يبشّروا بالمسيحية في محميتهم، وما استقرّ أمر الحماية إلاّ بما قدّمه لها المبشّر الأوّل (لافيجوري) في مطلع القرن العشرين. وهذه على كلّ حال سياسةٌ أقرّها الرّئيس الفرنسي منذ الثلاثينات بقوله: (نحن علمانيون في الدّاخل مسيحيون في مستعمراتنا)!! وبهذا كان اعتذار سلطة الحماية اعتذارا بروتوكوليا لامتصاص الغضب والحميّة الدّينية لا أكثر ولا أقل. ولعلّ الحدث كان مدروسا مسبقا بين رجال الكنيسة وسُلط الحماية ليكون بمثابة (بالونة اختبار) لمدى حِدَّةِ ردِّ الرّأي العام التّونسي تستفيدُ منها الحماية في رسم خطّة حربها على الدّين والشريعة، وهي الّتي ما انفكت تحارب معقَلَهُما – الجامع الأعظم – منذ بداية القرن، ولكن بكيفية حذرة ذكّية متدرّجة متخفِّية وراء اختلاف المحافظين والإصلاحيين حول مسألة إصلاح الزيتونة وطرق التدريس فيها.
ثم إن المؤتمر الإفخرستي (1930)، وتنصيب تمثال (لافيجوري) في مدخل المدينة العتيقة (1925)، وتكاثف النّشاط التبشيري، وازدياد عدد الكنائس، وتضاعف نشاطاتها عبر السّنين؛ كلّ ذلك يدلّ على أنّ نشر مقال الـ (العاملون مع الله) البروتستانتي ما هو إلاّ امتدادٌ يتناسق تمام التناسق مع سياسة الحماية الفرنسية السّاعية إلى ضرب الإسلام، وإخراجه من حياة التونسيين؛ لِــتَحُلَّ محلَّه في قلوبهم المسيحيةُ الضّامنة لموالاتهم للسّياسة الإستعمارية، ثم في مرحلة لاحقة للعلمانية المتناغمة مع سياسة التّغريب. وهكذا فإن كان ردّ سلطة الحماية ظاهرُهُ الاعتذار فإنّه يُخفي نوايا السّطو على الإسلام التي لا تَخفى على الزيتونيين، لذلك كان ردّ المجلة الزّيتونية حاسما في أنّ التعبير بـ (التّسامح) لا ينسجم مع حقّ التّونسيين في التّمسك بدينهم الّذي لا يعتبر بأي حال من الأحوال مِنّةً تتفضلُ بها عليهم فرنسا.
ولو قرأنا بلاغ ممثّل الحكومة الفرنسوية على ضوء ما بسطناه، ومن وجهةِ نظرٍ وطنيةٍ زيتونيةٍ؛ لأدركنا خلفيتَهُ الحقيقيةَ، ولوجدناه يحملُ خطابا مختلفًا عن ظاهرِ لفظِهِ تكون صيغتُهُ تقريبا كالتالي: «..إنّ ممثــّـل الحكومة الفرنسوية الحامية الّتي تربطها علائق [انتفاع وابتزاز] متينة مع العالم الإسلامي قد استاء كثيرا مما تضمّنته [ردود الزيتونيين على] هذه النّشرية، ويعلن أنّ فرنسا لا زالت ولن تزال محافظة على [خِطّةِ] سياسةِ التسامحِ [الشّكلي] مع كافّة العناصر الإسلامية واحترام العقائد والأديان [المصطنع ريثما تمحوها وتعوِّضُها بالمسيحية ثمّ باللاّئكية]، وقد وقع اتخاذُ الاحتياطات اللاّزمة [في التّستّر على هذا النّهج السّياسيّ في محاربة الحماية للإسلام] حتى لا يُعادَ مثل ذلك في المستقبل [بما من شأنه أن يصدم الرأي العام التونسي والزيتوني خاصة، فَــيَــنْـــتَــِبهَ لحقيقةِ المشروع الاستعماري، لذلك يجبُ أن يُمَرَّرَ عبر الزّمن بسلاسة وذكاء] »!!
يُلاحظ أنّ هذا العدد التاسع من المجلّة قد احتوى على تسعة نصوص متعلقة بالغرض، منها خمسة نصوص عبّرت عن الاحتجاج على هذا الحدث الجلل من ضمنها نصّ خطاب الشيخ محمد الشاذلي ابن القاضي أمام الباي و محتواه جدير بالتأمل[4]، وثلاثة نصوص نقلتها المجلة بأقلام مفكّرين أوروبيين مسيحيين[5] يشهدون بسماحة الإسلام، وأنّه دين الحقّ والإنصاف والرّحمة، وأنّه بدأ ينتشر في أوروبا بعدما عرف الأوروبيون حقيقته، أمّا النّص التّاسع فهو النّصّ الّذي أثار الزّلزال، وهو بقلم (مارغريت ميلز) وبعنوان (التبشير بين المسلمين) وحجمه صفحتان، نشرته المجلة كاملا ليطّلع المسلمون على فداحة ما فيه، وكان تأخيره عن النّصوص الأخرى ـ حسبما فهمتُ ـ تحقيرا لمحتواه واستهجانا لما يحمل من منكر.
[1] ) المجلة الزيتونية 5/9 سنة 1364هـ /1945م ـ دار الغرب ـ د ت ـ ابتداء من ص217.
[2] ) هذه النشرية هي جريدة «عاملون مع الله » التي تشرف على إصدارها هيئة الكنيسة الإصلاحية (البروتاستون) protestants بتونس، وكاتبة المقال هي (مارقريت ميلز) مبشّرة من الأخوات المسيحيات، وقد صدر المقال في العدد 9 – 10 سنة 1945م تحت عنوان (التبشير بين المسلمين)، وفيه صرّحت الكاتبة بأنّ شمال إفريقيا قد كان قبل الإسلام مسرحا للدعوة المسيحية، ولذلك يجب أن يعود كما كان قبل مجيئ دين محمّد الّذي وصفته بالدّجّال، ووصفت مُتَّبِعيهِ من العرب بالتّعصّب والقسوة والفسق والفجور، لذلك فهم في حاجة إلى نور المسيح لينظروا في ذنوبهم ثم يُقلِعوا عنها و يتوبوا !!.. (أنظر نصّ الرّسالة في االصفحة 229 من المجلة الزيتونية 5/9 سنة 1364هـ /1945م).
تعليقنا: ها نحن في سنة 2020، وبعد خمس وسبعين سنة من وقوع هذا الحدث الفضيع وها هي نفس الهجمة متواصلة في الدانمارك، وفرنسا، في الرّسومات المسيئة لإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم، والتي تنشرها جريدة (شارلي إبدو)، واصفة إياه بأحطّ الأوصاف التي تتنافي مع صيانة حقوق الإنسان العادي وكرامته فضلا عن الرّسل والأنبياء.. وها هي بلديات فرنسا تعلّق تلك الرّسومات السمجة على المباني الرسمية والشوارع الرئيسية زاعمة الدفاع عن حرية التعبير التي تسارع إلى كبتها إذا تعلق الأمر بمعاداة السّامية أو حتى بانتقاد الرئيس ماكرون!! وهكذا تفتضح اللاّئكية الاستعمارية العنصرية التي تكيل بمكاييل!!
[3]) أنظر نصّ احتجاج مدرّسي جامع الزيتونة بالمجلة الزيتونية 5/9 سنة 1364هـ /1945 ص224.
[4]) أنظره في المجلة الزيتونية 5/9 سنة 1364هـ /1945 م ص223.
[5]) هم على التوالي بأسمائهم التي وردت بالعدد: القس (لوازون) الفرنسي، المستشرق الإميركي (إدوارد رمسي)، الأستاذ (برنارد تشو)، ونصوصهم موجودة من الصفحة 226 إلى الصفحة 228 من العدد التاسع بتاريخ فيفري 1945 المجلد الخامس من المجلة.