حركة الشّباب التُّونسي
الشّيخ عبد العزيز الثعالبي[1]
(1944 – 1876)
- نسبه ونشأته
وُلد الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الرحمان الثعالبي بمدينة تونس في 15 شعبان 1293هـ[2] الموافق للخامس مِن سبتمبر 1876. ونشأ تحت رعاية والِده الذي كان يَشغَلُ خطّة عدل إشهاد، وجدُّه المنحدر مِن أسرة جزائريّة معروفة بالعلم والصلاح. وعندما بلغ مِن العمر اثني عشر عامًا التَحقَ بجامع الزيتونة المعمور، بعدما حفظ القرآن الكريم وتَعلّم مبادىء اللغة العربيّة بالمدرسة الابتدائيّة. فتلقَّى بالجامع الأعظم علوم اللغة العربيّة والشريعة عن كبار أساتذة العصر الذين بلغوا غاية بعيدة في سعة العلم وتحقيق البحث، نخصُّ بالذكر منهم المشايخ مصطفى بن خليل وحسين بن حسين وإسماعيل الصفايحي ومحمّد النجّار وسالم بو حاجب.
ولمَّا امتلأ وطابه علمًا واشتَدَّ نظره فهمًا، انقطع عن الدراسة قبل الحصول على شهادة “التطويع”[3] لأنّه لم يكن يرى نفسه في حاجة إليها، بل كان كلّ ما يطمح إليه، بعدما اكتسب زادًا ثقافيًّا لا بأس به، إنما هو الدخول إلى معترك الحياة والاتّصال بأعلام النهضة الفكريّة بتونس، وفي طليعتهم المرحوم البشير صفر. فما إن غادر جامع الزيتونة حتى انْضَمَّ إلى أركان الحركة الإصلاحيّة وانطلق يعمل لخدمتها وإعلاء كلمتها. وسرعان ما أخذ يحرّر المقالات والفصول وينشرها في الصحف الصادرة آنذاك، وانتهى به الأمر في آخر سنة 1895 إلى تأسيس جريدة عربيّة أطلق عليها اسم “سبيل الرشاد” وكرّسها للوعظ والإرشاد والدعوة إلى الإصلاح.
ولكن السلطة الفرنسيّة لم ترضَ عن اتِّجاه تلك الجريدة، فقرّرت تعطيلها بعد سنة مِن صدورها. وعندما وجد الثعالبي نفسه عاطِلاً عن العمل بدون أيّ مورد رزق، فكّر في الهجرة فتحوّل أوّلاً إلى الجزائر مسقط رأس أجداده، وزارَ أهمَّ مُدنها ثمّ رجع إلى تونس والْتَمَسَ مِن السلطة السماح له بالسفر إلى مصر، فلم تستجب لطلبه، وعند ذلك اضطرَّ إلى مغادرة البلاد خلسة، والاِلتحاق بطرابلس عن طريق البحر. وقد لفَتَتْ فصوله المنشورة في الصحافة الطرابلسيّة نظر الوالِي التركي الذي أمره بمغادرة طرابلس في الحين، وذلك نُزولاً عند رغبة القنصليّة الفرنسيّة هناك. فتحوّل إلى بنغازي حيث تولَّى إلقاء بعض الدروس الخاصَّة التي درّت عليه مِن المال ما مكّنه مِن السفر إلى اسطنبول والاتِّصال بثلة مِن علمائها ومفكريها. ومِن هناك انتقل إلى القاهرة وأقام بها فترة طويلة مِن الزمن قضاها بين متابعة بعض الدروس بالجامع الأزهر والاختلاط بالعلماء ورجال الفكر المصريِّين وفي طليعتهم الشيخ محمّد عبده رائد الحركة الإصلاحيّة الإسلاميّة في المشرق. ثمّ زارَ بعض البلدان العربيّة والأوروبيّة مثل سوريا والعراق وبلاد اليونان وإيطاليا والنِّمسا.
وفي سنة 1902 رجع إلى تونس بعد غيبة دامت حوالي سبع سنوات. ولكن ما إن استقرّ به المقام بضعة أشهر، حتى عاوده الحنين إلى التّجوال فزارَ على التوالِي الجزائر والمغرب وإسبانيا، ثمّ عاد إلى الجزائر، فاتَّصل بالوالي العام الفرنسي (جونار) الذي كان مِن دعاة التقارب بين المسلمين والفرنسيِّين واقترح عليه مساعدته على إصدار جريدة عربيّة لِبَثِّ الأفكار الإصلاحيّة في المغرب الذي لم تكُن توجد فيه آنذاك مطبعة عصريّة. ورغم تشجيع (جونار) لهذه الفكرة فإنّها لم تدخل حيّز التطبيق.
- دعوته الإصلاحيّة
رجع الثعالبي مِن جديد إلى تونس في سنة 1904 وأخذ في نشر أفكار زعماء الإصلاح بالمشرق، أمثال جمال الدِّين الأفغاني ومحمّد عبده ورشيد رضا صاحب مجلّة “المنار”، والسعيِ إلى التعريف بنظريَّاتهم الداعيَة إلى النهوضِ بالأمّة الإسلاميّة وتأسِيس الحياة الاجتماعيّة على أُسس أُصولِ الإسلام الأولى وتخليص العقيدة ممّا علق بها مِن خرافات وأوهام. وبدأ النّاس يَلتَقِطُون مِن كلامه سَقطات في مسائل الخلاف بين الصحابة والأولياء والكرامات ويشيعونها على وجهها أو على غير وجهها، حتّى بَلغَتْ أسماع كبار الشيوخ الناقِمين على التطَوُّر فأثارتهم ثورة أدمجت الخلدونيّة والمنار والثعالبي. وتَقدَّمَت بدعوى إلى النيابة العموميّة وجرت المرافعات والرعاع يترصَّدُون الثعالبي في ذهابه إلى المحكمة ورجوعه يُهاجِمُونه بالسبِّ والأذَى، ثمّ حُكِمَ عليه بالسجن”[4]. وقد أصدرت عليه المحكمة في 23 جويلية 1904 حُكْمًا بالسجن لمدة شهرين مِن أجل تَلَفُّظِه بعبارات اعتبرتها منافية للدِّين الإسلامي.
وما إن غادر السجن حتى فكّر في تأليف كتاب للردّ على خصومه وإظهار الدِّين الإسلامي الحنيف في مظهر الدِّين المُقام على أُسُسِ الحريّة والعدالة والتسامح، وإقامة الدَّليل على أنَّ الإسلام في شكله الصحيح لا يتنافَى مع المدنية الحديثة ولا يَعُوق التقدّم.
ولم يكن مِن المُمْكِن نشر ذلك الكتاب في تونس، لأنَّ خُصُومه ما زالوا يتربَّصُون به الدَّوائر، فقرَّر إصداره في باريس باللّغة الفرنسيّة. وبما أنّه كان يجهل تلك اللّغة، فقد كلّف بنقل تأليفه إلى اللغة الفرنسيّة صديقيه الهادي السبعي المُترجم بالمحكمة الابتدائيّة بتونس والمعروف بأفكاره التّحرُّرِيّة والمُحامِي سيزار بن عطّار الذي دافع عنه أثناء محاكمته وقد صدر الكتاب بباريس سنة 1905 بعنوان: “رُوح التحرّر فـي القرآن”[5].
وقد تَضمَّن ذلك الكتاب كثيرًا مِن الأفكار الإصلاحيّة التي كانت رائجة عهدئذ لا سِيّما منها المُتعلّقة بتحريرِ المرأة المسلمة ومُقاومَة البِدع والتمسُّك بالكتاب والسنَّة والدَّعوة إلى تَخْلِيص العقيدة الإسلاميّة مِمَّا اخْتَلَطَ بها مِن باطل مُنَافٍ لِرُوحِ التوحيدِ الخالِصِ، مثل التقرُّب للمنتسبين إلى الصلاح وعبادة الأضرحة والخُضوع لأصحاب الكرامات[6].
- انضمامه إلى حركة الشباب التونسي
في ذلك التاريخ بالذات الْتَحق المترجم له بـ “النادي التونسي” الذي كان يَضمّ نُخبة مِن رجال الفكر والأدب والسياسة أمثال علي باش حانبة وحسن قلاتي وخير الله بن مصطفى وعبد الجليل الزاوش والصادق الزمرلي. وساهم مساهمة فعَّالة في تأسيس كثير مِن المشاريع المُنْبَثِقة عن “النادي التونسي” مثل “جمعيّة الآداب” التمثِيليّة التي قدمت مسرحيَّتِها الأُولى “صلاح الدِّين الأيُّوبي” في سنة 1911 بالمسرح البلدي بالعاصمة[7].
وفي سنة 1907 انْضَمَّ الثعالبي إلى الحركة السياسيَّة التي أنشأها الزعيم علي باش حانبة وأصبحت تُعْرَفُ في الأوساطِ السياسيّة باسمِ “حركة الشّباب التونسي” لتَأَثُّرها في بعض نواحيها بحركة الشباب العُثمانِي ومُنَاصَرَتها لفكرة الجامعة الإسلاميّة.
وبعد ذلك بسنتين، كُلِّف الشيخ عبد العزيز الثعالبي برئاسة تحرير النشرة العربيّة مِن جريدة “التونسي” الناطقة بلسان حركة الشباب التونسي[8].
وبِمُناسبة الإضراب الذي شَنَّهُ طلبة جامع الزيتونة يوم 15 مارس 1910 للمُطالبة بإصلاح التعليم في مؤسَّسَتِهم، لم يتأَخَّر الثعالبي عن مُسانَدَةِ الطلبة والدفاع عن مطالِبهم المشروعة. وقد تَمَّ بتلك المناسبة التَّلاحُم والتآزر بين الشبِيبة الزيتونيّة والشبِيبة المدرسيّة، تحت لواء حركة الشباب التونسي.
وفي سنة 1911 بَلغَتْ تلك الحركة المُباركة أَوْجُهًا على إثر غَزْوِ إيطاليا للبلاد الطرابلسيّة، فأصدر على باش حانبة يوم 19 أكتوبر مِن تلك السنة جريدة عربيّة جديدة أسماها “الاتِّحاد الإسلامي” لمهاجمة الإيطاليِّين والدِّفاع عن المجاهدين اللِّيبِيِّين وجمع التَّبَرُّعات لفائدتهم. وقد كُلّف بإدارتها الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي اضْطَلَعَ بالمُهمّة المُلْقَاة على عاتقه على أحسن الوجوه.
واسْتَغلَّت السلطة الفرنسيّة حوادث الزلاَّج الدَّامِيَة التي اندَلَعت بتونس في 7 نوفمبر 1911، لتعطيل جميع الصُّحف العربيّة، بما في ذلك -بطبيعة الحال- النشرة العربيّة مِن “التونسي” و”الاتِّحاد الإسلامي” ، ولم تَسْمَحْ بالصُّدُور إلاّ لجريدة عربيّة واحدة وهي جريدة “الزهرة” شِبه الرسميّة.
ورغم ذلك فقد اسْتَمرَّت الحركة الوطنيّة في نشاطها إلى أن جَدَّتْ حوادث مقاطعة “الترامواي” خلال شهر فيفري 1912. فاتَّهَمتْ حكومة الحماية علي باش حانبة وجمَاعته بإثارة الشَّغَب، وقَرَّرَت انتهاز تلك الفرصة للقضاء على حركة الشباب التونسي القضاء المُبرم.
وفي فجر يوم 13 مارس 1912 أَلْقَت السلطات الفرنسيّة القَبْضَ على سبعة مِن قيادة الحركة وأَبعدَتْ أربعة منهم خارج تراب المَمْلَكة بدون محاكمة وهم: علي باش حانبة وعبد العزيز الثعالبي ومحمّد نعمان وحسن قلاتي.
فتحوَّلَ الثعالبي صُحبَة علي باش حانبة إلى فرنسا، حيث حَاوَلاَ الاتِّصال بكبارِ المسؤولين الفرنسيِّين لتعرِيفهم بالقضيّة التونسيّة على وَجْهِهَا الحقيقيّ. ولكنَّهُمَا لم يَجِدَا آذانًا صاغِيَة، فَقَرَّرَا السّفرَ إلى تركيا لمواصلة نضالهما مِن أجل تحرير وطنهما.
وبعد أشهر قليلة رفعت السلطات الفرنسيّة قرار الابعاد المُتَّخذ ضِدَّ قادة حركة الشباب التُّونسي، فرجع المبعَدُون إلى ديارهم، ما عَدَا علي باش حانبة الذي قَرَّرَ الاستقرار نهائِيًّا بتركيا. أمّا الثعالبي فإنّه لم يرجع إلى تونس إلاّ إثر اندلاع الحرب العالميّة، حيث استَغَلَّ فرصة وجوده بالخارج للقيام برحلة طويلة عبر العالم، فزارَ على التَّوالِي تركيا ومصر واليمن وسيلان والهند وسنغفورة وأندُونِيسيا والصين وبرمانيا، ثمّ قفلَ راجِعًا إلى تونس في غضون سنة 1914[9].
- تأسيس الحزب الحرّ الدستوري التونسي (1919 – 1922)
لقد ركدت الحركة الوطنيّة التونسيّة في الداخل بسبب ظروف الحرب، وذلك طوال الفترة المُمْتَدّة من 1914 إلى 1918. وما إن وضعت الحرب أوزارها حتّى أَقدَمَ الوطنِيُّون على إعادة تنظيم صفوفهم وجمع شملهم وضبط مطالبهم محاولِين الاستفادة قدر الإمكان مِن المبادىء الأربعة عشر التي أَعْلَنَ عنها الرئيس الأمريكي ويلسن إثر انتهاء الحرب، لا سيّما المبدأ المعترف بحقِّ الشُّعوب في تقرير مصيرها. ثمّ قَرَّرُوا في آخر الأمر أن يعهدوا بمُهمَّة عرض القضيّة التونسيّة على حكومة باريس، إلى عناية الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي أصبح بعد وفاة المرحوم علي باش حانبة في تركيا سنة 1918، زعيم الحركة الوطنيّة بلا مُنازع. فتحوّل الثعالبي إلى باريس خلال شهر جويلية 1919 للاضطلاع بتلك المهمّة التي أَوْضَحها في إحدى رسائله المؤثرة، الموجّهة إلى رفقائه في تونس، وقد جاء فيها بالخصوص ما يلي:
“لم أتحوّل إلى باريس للتنزّه وطلب الراحة، بل إنّي مبعوث للقيام بمهمّة كلفني بها شعبنا المُضطهد، وهي لعمري مهمّة شاقّة وثقيلة على كاهلي. وهي تمثّل في طرح القضيّة التونسيّة على بساط البحث، والشروع في التحدّث في شأنها. وإنّي أجهلُ مدَى نَجاحِي في الاضطلاع بها، فإذا فشلت فإنّي سأهيم على وجهي في العالم وسأُغادِرُ البلاد التي لم أتَمَكَّن مِن خدمتها كما كنت أودّ، وسأقتصر على العمل لفائدة أُسرتي التي ضَحَّيْتُ بها في سبيل وطني العزيز، وأكون قد كرَّستُ لذلك الوطن رُبع قرن مِن حياتي”[10].
ولقد تمثّل نشاط الثعالبي منذ وصوله إلى باريس في إلقاء المحاضرات والخُطَبِ ونشر المقالات في الصُّحف الفرنسيّة المُناصِرة لقضايا الشعوب المولى عليها والاتِّصال بقادة الأحزاب السياسيّة وبالخُصُوصِ الحزب الاشتراكي، ورؤساء الجمعيّات الثقافية والمنظّمات الإنسانيّة، مثل رابطة الدِّفاع عن حقوق الإنسان.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد سَخّرَ كل طاقته لتأليف كتاب “تونس الشهيدة”[11] بالتعاون مع المحامي التونسي المقيم بباريس الأستاذ أحمد السقا الذي تولَّى نَقْلَهُ إلى اللغة الفرنسيّة. وقد أحرزَ الكتاب منذُ صدوره في شهر جانفي 1920 نجاحًا باهِرًا. ورغم مُصادرته مِن قبل السلطات الفرنسيّة، فقد انتشرَ بتونس في كنف السرِّيّة وزادَ في حماس الوطنِيِّين الذين تَبَنَّوا المطالب الواردة فيه وأجمعوا على بعث أوّل حزب منظّم في تونس، برئاسة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وهو “الحزب الحرّ الدستوري التونسي” الذي تَمَّ الإعلان عن تأسيسه يوم 15 جوان 1920.
وقد تمثَّل ردّ فعل الحكومة الفرنسيّة في إلقاء القبض على مؤلّف “تونس” الشهيدة” ونقله يوم 28 جويلية 1920 إلى تونس حيث اعتُقِل في السجن العسكري بتُهمَة “التَّآمُر على أمْنِ الدّولة”.
ولكن، اعتبارًا لِمَا أثَارَهُ ذلك الإجراء التعسُّفي مِن ردود فعل لدى الرأي العام، سواء في تونس أو في فرنسا، فقد اضطرّت السلطات الفرنسيّة إلى الإذن بإطلاق سراح المُتَّهم يوم أوّل ماي 1921، بعدما ختم قاضي التّحقِيق البحث بالتصريح بعدم سماع الدَّعوى.
وما أن غادر الثعالبي السجن حتى أقبل بكل حماسٍ على تركيز هياكِل الحزب النّاشىء والتعريف بمطالبه ونشر الدعوة لفائدته، سواء عن طريق الخُطب والمُحاضرات أو بواسطة الفصول المنشورة على صفحات الجرائد الوطنيّة التي ظهرت للوجود مِن جديد منذ سنة 1920، لا سِيّما مجلّة “الفجر” النَّاطِقة بلسان الحزب.
وقد حَظِيَت الحركة الدستوريّة مِن أوّل وهلة بتَأْيِيد كافَّة القوى الحيّة في البلاد ومُساندة الجالس على العرش محمّد النّاصر باي، فانتشرت انتشارًا سريعًا وأصبحت قوّة جبّارة تُهدِّد النُّفُوذ الفرنسي بالخطر.
ولكن لم تَمْضِ مُدّة طويلة على ميلاد الحزب الدستوري، حتى بدأت منذ أواخر 1921 تظهر الخلافات بين بعض قادته حول طرق العمل الواجب اتّباعها في سبيل تحقيق المطالب الوطنيّة. فبينما كانت الأغلبيّة المُلْتَفّة حول الشيخ عبد العزيز الثعالبي، تَرَى ضرورة المُطالبة بالدّستور والتّمسُّك بالمطالب الواردة في كتاب “تونس الشهيدة”، كان الشقّ المُعتدل الذي يتزعّمه حسن قلاتي، يدعو إلى قبول الإصلاحات التي أعلن عنها المقيم العام لوسيان سان باسم الحكومة الفرنسيّة والمُنحَصِرَة في رفع الرقابة على الصحافة وتأسِيس وزارة للعدل وتعويض المجلس الشوري بالمجلس الكبير، وانتهى الأمر بهذا الشقّ الأخير إلى الانفصال عن الحزب الدستوري وتأسيس حزب جديد، أُطْلِقَ عليه اسم “الحزب الإصلاحي”. ولكنّ ذلك الحزب لم يستطع استقطاب الجماهير الشعبيّة التي ظلّت وفيّة للثعالبي وحزبه وسرعان ما تحوّل الحزب الإصلاحي إلى مُجرّد مجمع يَضمّ عددًا مِن القادة البورجوازيِّين بدون أنصار.
وعلاوة على هذا الانشقاق الذي أضرَّ بالقضيّة الوطنيّة، أُصِيبَ الحزب الدستوري في صائفة سنة 1922 بوفاة المغفور له محمّد الناصر باي الذي كان يُحيط الحركة الوطنيّة بعطفه ورعايته[12] فاغتَنم المُقيم العام هذه الفرصة لشلّ الحركة والقضاء على رجالها، وذلك بإصدار مجموعة مِن الأوامر الاستثنائيّة التي عطَّلَت الصحف الوطنيّة ومَنَعَت الاجتماعات العامّة وسلَّطَتْ أَقْسَى العقوبات على المناضلين الدستوريِّين. فاضْطَرَّ رئيس الحزب إلى الهجرة مِن جديد إلى المشرق.
- نشاط الثعالبي في المشرق (1923 – 1937)
غادر الثعالبي تونس يوم 26 جويلية 1923 مُتوَجِّهًا إلى إيطاليا ومنها إلى بلاد اليونان وتركيا، ثمّ زار مصر والحجاز والهند ومَسقَط والبحرين والكويت، وانتهى به المطاف إلى بغداد التي وصلها يوم 14 جويلية 1925، فاستقبَلته جميع الأوساط العلميّة والثقافيّة والسياسيّة بالتبجيلِ والاحترامِ وأَمَرَ الملك فيصل الذي كان قد تَعَرّف عليه خلال إقامته في باريس واسطنبول، بتعيِينِه مُدَرِّسًا للفلسفة الإسلاميّة بجامعة آل البيت. وقد باشرَ مهمّة التدريس مِن مطلع سنة 1926 إلى أن أُلْغِيَتْ تلك الجامعة في سنة 1930. فعُيِّن بإذن من الملك مُراقِبًا لبعثة الطلبة العراقيِّين بمصر. وغادر بغداد في آخر شهر سبتمبر 1930 مُلتحِقًا بمنصبه الجديد بالقاهرة. وقد تمكّن أثناء إقامته الأخيرة بمصر مِن الاتّصال برجال الفكر والثقافة والأدب أمثال علي عبد الرّازق ورشيد رضا ومحمّد علي طاهر وغيرهم. وبمناسبة الزيارة التي أَدَّاهَا إلى فلسطين في تلك الفترة، استَحْكَمت صِلات المَودَّة بينه وبين مُفتِي فلسطين الأكبر سماحة السيّد أمين الحسيني، واتَّفقَا على القيام بدعوة واسعة النطاق لعقد مؤتمر إسلامي بالقدس “مِن أجل إثارة اهتمام الرأي العام الإسلامي وكسب عطفه وتأليف جبهة قويّة تستطيع الوقوف في وجه الصهيونيّة”[13].
وبفضل الجهود الجبَّارة التي بَذَلَهَا الثعالبي في مصر وأمين الحسيني في فلسطين لإحباط مؤامرات المعارضين في الداخل والخارج، انعقد المؤتمر الإسلامي العام بالقدس من 7 إلى 17 ديسمبر 1931 وتمخضَ عن قرارات على غاية مِن الأهميّة[14]. وإثر انتهاء المؤتمر انتُخِبَ الشيخ عبد العزيز الثعالبي عُضوًا في المكتب الدائم للمؤتمر ثُمَّ عُيِّنَ بعد ذلك مسؤولاً عن لجنة الدِّعاية والنَّشر. وقد سخّر كل جهوده اعتبارًا مِن ذلك التاريخ للدفاع عن القضايا الإسلاميّة، والكفاح مِن أجل تحرير الشعوب العربيّة والإسلاميّة مِن الاستعمار الأوروبي، حتّى أصبح مِن أبرز قادة النهضة الإسلاميّة الحديثة.
- رجوعه إلى تونس ووفاته (1937 – 1944)
وبعد هجرة دامت أربع عشرة سنة، عاد الثعالبي إلى تونس يوم 19 جويلية 1937، فخصَّه الشعب التونسي باستقبالات رائعة، واستبشر الوطنِيُّون بمَقْدَمِه وظنُّوا أنُّه سيعمل لا محالة على وضع حَدٍّ للانشقاق الجديد الذي ظهر في صفوف الحزب الحرّ الدستوري التونسي خلال سنة 1934. وبالفعل فما إن رجع مؤسّس الحزب إلى أرض الوطن حتّى أخذ يَسعى إلى التّوفيق بين رجال اللّجنة التّنفيذيّة (الحزب الدستوري القديم ورجال الدِّيوان السياسي الحزب الدستوري الجديد). ولكنّ سُرعانَ ما ذهبت مَسَاعِيه أدراج الرِّيَاح، نَظرًا لتبايُن وجهات النظر بين الفريقَيْن وتشبّث كل فريق بموقفه. ورأى نفسه مُضطرًّا فى آخر الأمر إلى تأييد موقف اللجنة التنفيذيّة. وحاول القيام بجولة داخل البلاد للتعرّف على آراء المُناضلين حول هذا الخلاف المُضِرّ بالقضيّة التونسيّة. ولكن رجال الديوان السياسي قد حالوا بينه وبين ذلك بكلّ الوسائل. فتهجَّم عليهم في مقاله الشهير المنشور بجريدة “الإرادة” لسان حال الحزب الدستوري القديم، تحت عنوان “الكلمة الحاسمة” ووصفهم “بــــــالمارقين والعاقِّين”[15]. وكان ردّ فعل خصومه عنيفًا، إذ لم يتأخَّرُوا عن نعته بالجمود والتحجّر، بل حتى اتِّهامُه بالتّواطُؤ مع العَدُوّ وتفاقَم الوضع إلى أن أفضى إلى مُصادمات بين أنصار الشِّقَّيْنِ.
“وتأثّر الثعالبي بكل ذلك تأثُّرًا عظيمًا، إذ كان يُؤمن برسالته الرامِيَة إلى توحيد جميع الوطنيِّين التونسيِّين، فلم ينجح”[16] وابتعد شيئًا فشيئًا عن حلبة السياسة، لا سيّما بعد أن أوقف الحزب الدستوري القديم نشاطه مِن تلقاء نفسه إثر حوادث 9 أفريل 1938، ولكنّه لم يتخلّ قطّ عن نشاطه الفكري والثقافي، لأنّه كان “داعِيًا دِينيًّا ومُصلحُا اجتماعيُّا قبل أن يكون زعيمًا سياسيًّا”[17] فكان ينشر مِن حين لآخر بعض الفصول والدراسات التاريخيّة في جريدة “الإرادة”، كما أصدر في سنة 1938 الجزء الثاني مِن كتابه المتعلّق بالسيرة النبويّة، بعنوان “معجز محمّد رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-“.
وعندما اضْطَرَّهُ المرض العضال الذي أَلَمَّ بِه إلى مُلازمَة بَيْتِه إثر اندلاع الحرب العالميّة الثانِية، استمرّ في الاتّصال بالمُثَقَّفِين ولا سيّما الشبّان منهم، “فكان يجلس في بيته كل يوم جمعة بعد العصر لإلقاء دروس على طلبة جامع الزيتونة المعمور، حول مقاصد الشريعة أو التاريخ أو مشاهداته في البلدان الإسلامية الشرقيّة”[18].
وقد لَبَّى الشّيخ عبد العزيز الثعالبي دَاعِيَ رَبَّه يوم أوّل أكتوبر 1944، فكان وقع وفاته شديدًا على الوطنيِّين الصادقين الذين لم يَغِبْ عن أذهانهم ممَّا قَدَّمَهُ ذلك المُصلح العظيم مِن جليلِ الخدمات إلى بلاده خاصّة، وما بَذَلَهُ طول حياته مِن جهود للنُّهُوضِ بالأمّة الإسلاميّة قاطبة.
- آثاره المطبوعة والمخطوطة
- الآثار المطبوعة في حياته:
- روح التحرّر في القرآن (باللغة الفرنسيّة)، باريس، 1905.
- تونس الشهيدة (باللغة الفرنسيّة)، باريس 1920.
- معجزة محمّد رسول الله، تونس، 1938.
- الآثار المنشورة بعد وفاته (بعناية دار الغرب الإسلامي بيروت).
- مسألة المنبُوذِين في الهند، 1984.
- معجزة محمّد رسول الله (الطبعة الثانية)، 1984.
- تونس الشهيدة (الترجمة العربيّة)، 1984.
- تونس الشهيدة (باللغة الفرنسيّة) (الطبعة الثانية) 1984.
- روح التحرّر في القرآن (الترجمة العربيّة)، 1985.
- محاضرات في تاريخ المذاهب والأديان، 1985.
- مقالات في التاريخ القديم، 1986.
- تاريخ شمال إفريقيا (الطبعة الأولى)، 1987.
- خلفيّات المُؤتمر الإسلامي بالقدس، 1988.
- معجزة محمّد رسول الله – الجزء الثاني 1989.
- سقوط الدّولة الأمويّة، 1995.
- الرحلة اليمنيّة 1997.
- محاضرات في التفكير الإسلامي والفلسفة، 1999.
[1] دائرة المعارف التونسيّة، الكرّاس 1990/1 – الصفحات 21 – 29، بيت الحكمة تونس.
[2] حسبما ذكره صاحب الترجمة نفسه في “سيرته الذاتيّة” (المركز القومي للتّوثيق بتونس-169-13-3-B). أمّا العقيد بارون، فقد أشار في تقريره إلى أنّ الثعالبي هو مِن مواليد 1874. انظر ملحق كتاب “تونس الشهيدة” (الترجمة العربيّة) دار الغرب الإسلامي، بيروت 1984.
[3] التطويع هي الشهادة المتوّجة للدراسة بجامع الزيتونة آنذاك.
[4] الفاضل بن عاشور، الحركة الأدبيّة والفكريّة في تونس، الدار التونسيّة للنشر، 1983، ص 74.
[5] العنوان الفرنسي للكتاب هو: (L’esprit Libéral du Coran ).
[6] يراجع بالخصوص تقرير العقيد بارون، المرجع المذكور.
[7] المنصف شرف الدِّين، تاريخ المسرح التونسي، ص 30، تونس، .1972
[8] صدرت النشرة الفرنسيّة مِن جريدة التونسي يوم 7 فيفري 1907 وصدرت النشرة العربيّة يوم 8 نوفمبر 1909.
[9] انظر، سيرة الثعالبي الذاتيّة (باللغة الفرنسيّة)، المرجع السابق.
[10] رسالته المؤرّخة في 27 أوت 1919، أنظر تقرير العقيد بارون (المرجع المذكور).
[11] العنوان الفرنسي هو: (La Tunisie Martyre ses Revendications).
[12] توفِّيَ محمّد الناصر باي في شهر جويلية 1922 وخلَفَه ابن عمّه محمّد الحبيب باي الذي عرف مدّة تولّيه العرش بولائه للسلطة الفرنسيّة رغم صداقته للشيخ عبد العزيز الثعالبي، عندما كان وليًّا للعهد.
[13] خيريّة قاسمية “المؤتمر الإسلامي بالقدس” بحث منشور في كتاب “الحركات الاجتماعيّة والسياسيّة بتونس في الثلاثينات” تونس، 1987.
[14] لمزيد من التفاصيل، انظر “خلفيّات المؤتمر الإسلامي بالقدس”، دار الغرب الإسلامي، 1988.
[15] جريدة “الإرادة”، العدد المؤرخ في 3 أكتوبر 1937.
[16] أحمد بن ميلاد، مقدّمة كتاب “تاريخ شمال أفريقيا” دار الغرب الإسلامي، 1987.
[17] الفاضل بن عاشور، الحركة الأدبيّة والفكريّة بتونس، الدار التونسيّة للنشر، 1983، ص 137.
[18] أحمد بن ميلاد، المرجع السابق.