حركة الشّباب التُّونسي

خير الله بن مصطفى[1]

رئيس جمعية قُدماء الصّادقيّة الأَوّل

(1965-1867)

 

  1. نسبه وأسرته

يُعدّ خير الله بن حسونة بن مصطفى مِن أبرزِ رجال حركة الشباب التونسي في مَطلع القرن العشرين. وجَدّهُ هو مصطفى التُّركي أصيل منطقة موري(Morée) اليُونانِيّة، اختَطَفَهُ أحدُ المُغامرين الأتْرَاك وباعه لتاجر تُونسيّ أَتَى به مِن اسطنبول إلى تونس في آخر القرن الثامِن عشر. فتَبَنّاهُ وسهر على تربيته وتعليمه ثم أَلْحَقَهُ بالجيش التركي. فتدرَّجَ الشابُّ في سِلك الجنديّة إلى أن بلغ رُتبة آغَا، ثم عُيِّن قائمًا للحامية التركيّة بسوسة حيث تزوّج امرأة قيروانيّة وأنجب منها طفلاً سمّاه حسونة.

وقد شرعَ الطِّفل حُسُونة بن مصطفى في مُزَاولَة دِراسته بسوسة ثمَّ واصلَها بالعاصمة، حيث عُيِّن والُده ضابطًا في الجيش التونسي النظامي الذي أحدثه المُشير الأوّل أحمد باي (1837 – 1855). ولمَّا لاحَظَ مُصطفى التركي ميل ابنه إلى الجنديّة أَلْحَقَهُ بالمدرسة الحربيّة بباردو والتي تأسَّسَت مُنذ سنة 1840. فتميّز مِن أوّل وهلة باجتهاده ومُثابرته والحِرص على تسجيل كلّ ما يَتلقَّاهُ مِن دروس عن أساتذته وفي طليعتهم المُدير الفرنسي Campenon الذي عُيِّن على رأس المدرسة الحربيّة في سنة 1852 خَلَفًا للمدير الأوّل الإيطالي Calligaris.  وقد قطع حسونة بن مصطفى جميع مراحل الدراسة بسرعة إلى أن تخرّج مِن المدرسة برتبة يُوزباشي (Capitaine). فانْضَمَّ إلى الفيلق التونسي الذي شارك في حرب القرم في سنة 1855 بقيادة أمير عسكر الساحل الجنرال رشيد. وإثر رُجُوعه إلى تونس عَيَّنَهُ المُشير الثاني محمّد باي (1855-1859) أُستاذًا بالمدرسة الحربيّة. ثمّ شَغلَ على التَّوالِي مَنصِب مُعين لدى الوزير الأكبر مصطفى خزنة دار فعامل بالوسلاتيّة فرئيس لإدارة الغابة.

وإثر انتصاب الحماية الفرنسيّة (12 ماي 1881) شارك حسونة بن مصطفى في الحركة الاحتجاجيّة التي قام بها أعيان الحاضِرة في سنة 1885 بقيادة الشيخ محمّد السُّنُوسِي. فقرّر المقيم العام Paul Gambon فصله عن رئاسة إدارة الغابة وإبعاده إلى الكاف. وبعد رجوعه مِن المَنْفَى اعتزل الحياة العامّة إلى أن تُوفِّيَ سنة 1901.

  1. ترجمة خير الله بن مصطفى

لقد أَوْلَى حسونة بن مصطفى عِناية فائقة إلى تربية ابنه خير الله المَوْلُود بتونس في 23 سبتمبر 1867 فبادرَ إلى ترسيمه بالمدرسة الصادقيّة مع الفوج الأوّل مِن الشُّبَّانِ الذين الْتَحَقُوا بها مُنذ افتتاحها في شهر فيفري 1875. وقد اسْتَرْعَــى التلميذ خير الله انتباه أساتذته وأقرانه باجتهادِه ومُثابرتِه على التَّحصيل وسلوكه المثالي. وإثر تَخَرُّجِه مِن الصادقيّة عُيِّن مُعلِّمًا بفرعِ المدرسة العَلَوِيّة (أي مدرسة ترشيح المُعلِّمين آنذاك). وقد خامرت فكره منذ ذلك التاريخ فكرة إصلاح أساليب تدريس اللغة العربيّة، فشرع في تطبيق الطرق البيداغوجيّة الحديثة وَأَلَّفَ كِتابًا في هذا الشأن سمّاه “مُعين الصّبي، على تعلّم القراءة والكتابة بالّلسان العربي”، وسلّمه إلى مدير العلوم والمعارف لويس ماشوال الذي أَذِنَ بطبعه وتَوْزِيعه على المدارس الابتدائيّة الفرنسيّة العربيّة.

ونظرًا إلى ما أحرزه صاحِبُنا مِن نجاحٍ باهرٍ في الميدان التربوي، كُلِّفَ في سنة 1892 بتدريس اللغة الفرنسيّة بالمدرسة الصادقيّة في عهد مديرها الفرنسي الأوّل دلماس. ولكنّه لم يَكُنْ يرغَبُ في مباشرة مِهنَةِ التَّدرِيس إلى ما لا نهاية له، رغم ما كان يتمتَّعُ به مِن مُؤَهّلات في هذا الميدان، فالْتَحَقَ بالمدرسة العُلْيَا للغة والآداب العربيّة المعروفة باسم “مدرسة العَطَّارِينَ”، مع مواصلة التدريس بالصادقيّة، إلى أن تحصَّلَ على “دبلوم الدراسات العُلْيَا في اللغة والآداب العربيّة”. وقد مكَّنَتْهُ هذه الشهادة مِن المشاركة في مُناظرة المترجمين العدليين والنجاح فيها بامتياز. فعُيّن مترجماً بالمحكمة العقاريّة المختلطة وأظهر ما كان يتميّزُ به مِن مهارةٍ فائقة في ميدان الترجمة.

وفي الأثناء ربط خير الله بن مصطفى الصِّلة بالعائلة المالكة وأصبح يتردّدُ على قصر الأمير “محمّد النَّاصر باي” قبل اعتلائه العرش سنة 1903. وقد تَمكَّنَ الأمير مِن تقدير كفاءته العلميّة ومشاعره الوطنيّة، فكلَّفه بإعطاء دروس تكميليّة في اللغة الفرنسيّة لابنه الأكبر “محمّد المنصف باي” التلميذ بالمدرسة الصادقيّة. وإثر انتهاء الحرب العالميّة الأولى عُيِّن فى سنة 1919 مديرًا للتشريفات ومُترجمًا أوّل في القصر، خَلَفًا لصديقه الجنرال “محمّد بن الخوجة” الذي سُمِّي عاملاً بقابس. فاضْطَلَعَ بتلك المُهمّة السَّامِية بكلّ نجاح مُبرِزًا ما كان يتمتّعُ به مِن براعة في الميدان الدبلوماسي تُضَاهِي مهارته في مجال الترجمة.

إلا أنّ مزاجه المُسالم قد دَفَعَهُ تحت تأثير المُقيم العام الدَّاهِية لوسيان سان إلى المشاركة مع الوزير الأكبر الطيّب الجلُّولي ووزير العدل الطاهر خير الدِّين في المؤامرة الدَّنِيئَة التي دبّرَتْها السُّلطة الاستعماريّة ضِدّ وَلِيّ نعمته “الناصر باي” وكادت تُفْضِي به إلى تنازله عن العرش في أفريل 1922. وإثر انفراج الأزمة بعد زيارة رئيس الجمهورية الفرنسيّة ميلران إلى تونس في ماي 1922 طالبَ الناصر باي بِعَزلِ كلّ مِن الوزير الأكبر ووزير العدل ومدير التشريفات. وبعد أَخْذٍ وَرَدٍّ تمكّنَ لوسيان سان مِن إقناعه بقبول حلّ وسط يتمثَّلُ في:

  • حمل الطيّب الجلُّولي على الاستقالة مِن الوزارة الكُبْرَى وتعويضه بوزير القلم والاستشارة مُصطفى دنقزلي.
  • تَعْيِينُ شيخ المدينة خليل بوحاجب – الذي كان يَحْظَى بعطفِ الأميرة قمر زوجة الناصر باي وزيرًا للقلم والاستشارة.
  • إبقاء وزير العدل الطاهر خير الدِّين -صديق فرنسا- في منصبه.
  • إنهاء مهام مدير التشريفات خير الله بن مصطفى وتعيينه مديرًا لجمعيّة الأوقاف بمُقْتَضَى قرار مُؤرّخ في 13 ماي .1922

فتفرّغ خير الله للقيام بمهَامِّه الجديدة بعيدًا عن الأضواء إلى أن أُحِيلَ على التقاعد في جانفي 1928.

  1. نشاطه السياسي

لقد استغَلَّ المترجم له صلته بالقصر الملكي في عهد الناصر باي لإبلاغه المطالب الوطنيّة التي تَبَنَّتْهَا “حركة الشباب التونسي” مُنذ مَطلع هذا القرن، وهي مطالب على غاية مِن الاعتدال، حيث كانت تَدْعُو إلى مُشاركة المُثقَّفِين التونسيِّين في تصريف شؤون بلادهم على قَدَمِ المُساواة مع الفرنسيِّين. ومع ذلك فقد تعرّضت الحركة لمقاومة المعمّرين وغُلاة الاستعمار، ومُضايقة حكومة الحماية، إلى أن تمّ القضاء عليها قضاءً مُبرمًا في سنة 1912 إثر حوادث مقاطعة الترامواي.

وقد كان خير الله بن مصطفى مِن المُثقَّفِين الأوائل المُنْضمِّينَ إلى حركة الشباب التونسي التي كانت تضمّ نخبة مِن خرِّيجي الصادقيّة ومعهد كارنو أمثال: علي باش حانية وحسن قلاتي والبشير صفر وعلي بوشوشة ومحمّد الأصرم وخير الله بن مصطفى ومحمّد نعمان وعبد الجليل الزاوش ومحمّد بن الخوجة والصادق الزمرلي. كما شارك خير الله في جميع المشاريع التي بعثَتْها تلك الحركة، حيث ساهم في إنشاء النادي التونسي وجمعيّة قُدماء تلامذة المدرسة الصادقيّة في سنة 1905، وكان أحد الأعضاء الخمسة[2] الذين أصدروا في سنة 1907 جريدة “التونسي” الناطقة بالفرنسيّة. كما شارك مع مجموعة مِن أعضاء الحركة في مؤتمر شمال أفريقيا المُنعَقد بباريس من 6 إلى 10 أكتوبر 1908 لعرض مطالب الحركة الوطنيّة التونسيّة على الرأي العام الفرنسيّ.

وقد قدّم بحثًا حول التعليم الإبتدائي بالبلاد التونسية. وإثر رجوعه إلى تونس واصل نضاله مِن أجل نشر التعليم ومساعدة المتفوّقين مِن التلامذة التونسيِّين على مزاولة دراستهم العليا بالخارج. ولكنّه اضطرَّ مع بقيّة رفقائه إلى التخلّي عن أي نشاط سياسي إثر المحنة التي تعرض لها زعماء حركة الشباب التونسي في سنة 1912 وبعد اندلاع الحرب العالميّة الأولى وركود الحركة الوطنية مِن سنة 1914 إلى سنة 1918.

ولمّا وضعت الحرب أوزارها اسْتَأْنَفَ خير الله نشاطه السياسي وواصله حتى بعد تَعْيِينِه مُديرًا للتشريفات. فقد أشرف على الاجتماعات التي عقدها الوطنيُّون إثر الحرب وأفضت إلى تأسيس الحزب الحرّ الدستوري التونسي بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي في مارس 1920. إلاّ أنّه ما لَبِثَ أن انفَصَل عن الحزب إثر إنهاء مهامّه في القصر الملكي وتعيِينه مُديرًا لجمعيّة الأوقاف في ماي 1922. ولكنّه لم يُخْفِ تعاطفه مع الحزب الإصلاحي الذي بعثه صديقه حسن قلاتي لمعارضة الحزب الحرّ الدستوري التونسي وزعيمه الشيخ عبد العزيز الثعالبي.

على أنّ صاحبنا لم يبرز على الساحة الوطنيّة مِن خلال نشاطه السياسي إنما اشتهر بمساهمته الفعّالة في بعث مشروعَيْن جلِيلَيْنِ هُمَا: جمعيّة قُدماء تلامذة المدرسة الصادقيّة في سنة 1905 والمدرسة القرآنيّة العصريّة في سنة 1906.

  1. مساهمته في تأسيس جمعيّة قُدماء الصادقيّة

لقد ساهم خير الله بن مصطفى أوّلاً في بعث الجمعيّة الخَلْدونِيّة في ديسمبر 1896، وتمّ انتخابه عُضوًا في هيئتِها المُديرة الأُولى. ثُمّ ساهم في تأسيس جمعيّة قُدماء تلامذة المدرسة الصادقيّة، وقد انتخبه زُمَلاَؤُه رئِيسًا لها خلال الجلسة العامّة التأسيسيّة المُنعقدة يوم الأحد 3 ديسمبر 1905، وتمّت المُصادَقَة على قانونها الأساسي في 24 ديسمبر 1905. وكانت الهيئة المُديرة الأولى مُتركّبة على النحو التالي:

  • الرئيس: خير الله بن مصطفى
  • نائب الرئيس: أحمد الغطّاس
  • الكاتب الأوّل: الهادي الأخوة
  • الكاتب الثاني: الدكتور حسين بوحاجب
  • أمين المال: محمّد الشعبيني

الأعضاء: محمّد الأصرم، محمّد بن الخوجة، عمر بوحاجب، رشید بن مصطفى، محمّد الجنّادي، الطيّب رضوان، محمّد بن عودة.

والجدير بالملاحظة أنّ ثلاثة مِن أعضاء هذه الهيئة هم في نفس الوقت أعضاء في هيئة الجمعيّة الخَلْدُونِيّة، وهم أحمد الغطّاس ومحمّد الأصرم ورشيد بن مصطفى.

كما أنّ عُضوَيْن مِن الأعضاء لم يَكُونَا مِن خرِّجَيْ الصادقيّة وهُمَا أحمد الغطّاس (وهو مِن قُدماء تلامذة معهد كارنو وأوّل محامٍ تونسي مُتخرّج مِن كُلِّيّة فرنسيّة) والشّيخ الطيّب رضوان (وهو مِن خرّيجي جامع الزيتونة).

وإثر الجلسة العامة الثانية المُنعقدة في 28 أكتوبر 1906 انضمّ إلى الهيئة البشير صفر وعلي باش حانبة وعبد العزيز الحيّوني والهادي بن الطاهر (وكلهم مِن قُدماء تلامذة المدرسة الصادقيّة).

وقد تحدّث الشيخ محمّد النّخلي أحد أركان الحركة الإصلاحيّة بجامع الزيتونة المعمور في سيرته الذاتيّة عن ظروف تأسيس هذه الجمعيّة، فقال:

«أسَّس قُدماء تلامذة المدرسة الصادقيّة جمعيّة قصَدُوا منها ما يَقصِدُه الأورُوبيُّون مِن جمعيّاتهم المتنوّعة، وانتخَبُوا لرئاستها السيّد خير الله بن مصطفى المترجم بالمجلس المختلط. وقد تَوَسّم النّاس فيه خيرًا لِمَا يُظْهِرُه الرَّجُل مِن إقامة شعائر الإسلام والغَيْرة على اللغة العربيّة والسعي في تنظيم المدارس القرآنيّة. وقد أراد أن يُبرْهِن على هذا القصد الشريف في طالعة أعماله، فبَذَلَ مَبْلَغًا مِن المال على وجه القرض لتأسِيسِ هذه الجمعيّة واجتهد لَدَى إدارة المدرسة الصادقيّة في إعطاء مساحة مِن أملاكها لتشيِيد بناء يكون مُنْتَدَى لهذه الجمعيّة. وقد طفح قلبي سُرُورًا لهذه النّهضة، وهي الضَّالّة المَنْشُودَة التي كُنتُ أَدْعُو الله أن يَمُنّ بظهورها على البلاد التونسيّة…».

ومِن القرارات التي اتَّخَذَتْها هيئة الجمعيّة تَنْظِيم محاضرات بالعربيّة والفرنسيّة. وقد أراد خير الله بن مصطفى أن يُبَرْهِنَ على عناية الجمعيّة باللغة العربيّة، فقرَّرَ أن تُفتَح المُحاضرات باللغة العربيّة بمُسامرة يُلْقِيها أحدُ مُدرِّسِي الجامع الأعظم المَعْرُوفِين بأفكارهم الإصلاحيّة. وَوَقَع اختياره على الشّيخ محمّد النّخلي الذي أَلْقَى على مِنبر الجمعيّة يوم 31 مارس أوّل محاضرة بعنوان “نضارة التمَدّن الإسلامي”. ثُمّ أَلْقَى الشّيخ الطّاهر بن عاشور في شهر ماي 1906 مُحاضرة ثانية حول نفس الموضوع، عنوانها “أصول التمَدّن الإسلامي”. وتَلاَهُ الشّيخ أحمد النّيفر الذي خَصّص مُحاضرته لتفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ…﴾. وأخيرًا ألقَى الشّيخ محمّد الخضر حسين في شهر جوان 1906 مُحاضرة بعنوان “الحريّة في الإسلام”. وقد بَقِيَ خير الله على رأس جمعيّة قدماء الصادقيّة حتى سنة 1914.

  1. قضيّة المدرسة القرآنيّة العصريّة

لقد فكّر خير الله بن مصطفى منذ أن كان مُعلِّمًا بفرع المدرسة العَلَويّة في إمكانيّة إصلاح الكتاتيب التي أصبحت غير مُتمَاشِيَة مع مُقتضَيَات العصر. ولكنّه تَيَقَّنَ بعد الدرس والتمحيص أنّه مِن المُستحِيلِ إدخَال أيّ تحسينٍ على نظام الكتاتيب لأنّ المُؤدّبين غير مُؤَهّلِين لذلك. فخامرته فكرة إنشاء مدرسة ابتدائيّة حُرّة تَسعَى إلى تطبيق الطُّرُقِ البيداغوجيّة الحديثة مع المحافظة على تلقين التلامذة مبادىء اللغة العربيّة والعلوم الإسلاميّة إلى جانب اللغة الفرنسيّة والمواد العلميّة، قَصْدَ تهيِئَتِهم للالْتِحاقِ بجامع الزيتونة أو بالمدرسة الصادقيّة.

وقد تحدّث فيما بعد في فصلٍ نشرَه بالمجلّة الزيتونيّة (في أفريل 1938) عن الجهود المُضْنِيَة التي بَذَلَها لإدخال تلك الفكرة حيّز التطبِيق، وما تَعَرّض له مِن شَتّى العراقيل. فذكر أنّه عَرَضَ مَشرُوعَه على الكاتب العام للحكومة “برنار روا” الذي لم يُبْدِ في أوّل الأمر أيّ اهتمامٍ بالموضوعِ. ثُمّ أشار عليه بعد مُدّة بالاتِّصال بالأستاذ البشير صفر رئيس جمعيّة الأوقاف لمساعدته على إنجاز هذا المشروع الذي لا تَرَى الحُكومة أيّ مانع في تحقيقه. فاسْتَبْشَرَ صاحب المشروع بهذا الاقتراح، نَظَرًا إلى ما كان يربط بينه وبين البشير صفر مِن علاقات الودّ والاحترام منذ عهد الدراسة. ولكن ما إن اتَّصَل بصديقه في مقر جمعيّة الأوقاف حتى خاب ظنّه. وقد وصف المُقابلة التي جرت بينهما على النحو التالي:

«توجَّهت إلى الجمعيّة ووجَدتُ رئيسها سيّدي البشير صفر على عِلْمٍ مِن المسألة وهو يُرعد ويُبرق ويُهدِّدُنِي بسوءِ العاقبة في الدَّارَيْن إذا تَمَادَيْتُ على فكري هذا. وقد كنتُ مُلازمًا السُّكُوتَ لِمَا كان بيني وبينه مِن الأُخُوّة الصَّادِقَة المَبْنِيّةِ على الاحترام والإخلاص مِن طرفي وعلى الودّ مِن طرفه، ولِعِلْمِي مَتَانة وَطَنِيَّته وتَيَقُّنِي أنّه لم يتصوّر مرمى المشروع وأنّه متى تَصَوّره لا يلبثُ أن يَمُدّ إليه المساعدة قلبًا وقالِبًا. وخَرَجْتُ مِن الجمعيّة بخفّي حنين غير غَضبان وغير يَائس مِن رجوع الرئيس إلى الصّواب طال الزمن أم قصر».

والواقع أنّ البشير صفر كان مُتَّفِقًا مع أغلب أعضاء جمعيّة قُدماء الصادقيّة وفي مقدِّمتهم علي باش حانبة على مُقاومَة مشروع خیر الله، وقد رَأَوْا فيه مُؤامرة استعماريّة تَرْمِي إلى إيصادِ أبوابِ المدارس الابتدائيّة الحكوميّة في وجه الأطفال التونسيِّين، وتشجيع أوليائهم على توجيههم نحو ما سمَّوْه “بالكتاتيب  المُجَدَّدة”(Les Kouttebs Réformés).

وبعد مُدّة قليلة استدعَى البشير صفر صاحب المشروع -استجابة لطلب الكاتب العام للحكومة- وأعلَمَهُ بأنّه قد قرّر أن تتولَّى جمعيّة الأوقاف دفع معلوم كراء المحلّ الذي سيَحْتَضِنُ المدرسة المُزمَع إنشاؤُها، وهو يقعُ بالعاصمة بنهج سيدي بن عروس عدد 58 وتسديد نفقات تأثيثه ومُرتّب مُعلّم اللغة الفرنسيّة.

وعندئذ شرع خير الله بن مصطفى في إنجاز المشروع. فَعيّن مجلسًا لوضع برنامج المدرسة يضمّ عددًا مِن مُدَرِّسي جامع الزيتونة مِن بينهم الشّيخ عثمان بن الخوجة والشّيخ الصادق بن القاضي وبعض سامي الموظَّفين. كما عيّن على رأس إدارة المدرسة أحد خرِّيجي مدرسة ترشيح المُعلِّمين، وهو السيّد محمّد صفر الذي أقبلَ على الاضطلاع بمهمَّتِه الجديدة بكلّ حماسٍ، وانتدب مجموعة مِن المُعلِّمين التُّونسيِّين مِن ذَوِي الكفاءة وقامَ بتدريبِهم على الطرُق البيداغوجيّة الحديثة. وبعد ما تهيّأت الأسبابُ وزالت الموانع فتَحت المدرسة أبوابها يوم أوّل ديسمبر 1906، وقد أطلق عليها اسم “المدرسة القرآنيّة العصريّة”. وكان برنامَجُها يَنُصّ على تخصيص غالب الوقت لحفظِ نصيبٍ مِن القرآن الكريم ومبادىء اللغة العربيّة وتَلْقِين كافّة الموادِّ الأُخرى باللغة العربيّة، مع تخصيص ساعة كلّ يوم لتعليم اللغة الفرنسيّة.

وقد رحَّبت جميع الصّحف العربيّة بهذا المشروع، في حين ناصَبَتْه العِداء جريدة “التونسي” الناطقة بالفرنسيّة، رَغم أنّ خير الله بن مصطفى كان مِن أبرزِ مُؤسِّسِيها كمَا أَسْلَفْنَا.

وبفضلِ حماس المُدير وأعضاء هيئة التدريس سارت المدرسة الجديدة سَيْرًا مُطّرِدًا في طريق النّجاح وظهرت نتائجُها الباهرة للعيان وأقبل عليها التلامذة المُنتمون إلى سائر الطبقات الشّعبيّة.

وفي الأثناء سافر البشير صفر إلى مصر[3] للقيام برحلة، ويومَ رُجُوعه استَقْبَله خير الله في مِيناء تونس، وقد وصف هذا الاستقبال في الفصل المنشور في المجلّة الزيتونيّة قائلاً بالخصوص:

«كُنت في مقدّمة مَنْ وَفَدد لتهنئته بسلامة القدوم. وبمُجَرّد نُزُوله مِن الباخرة أقبل عليَّ وجَذَبَنِي إليه وقَبّلنِي يَمِينًا وشِمالاً وقال بأعلى صوته: سِرْ في طريقك، فإنّي مِن اليوم في إعانتك بجميع ما في وسعي لأنّي رأيتُ المدارس الابتدائية بالقاهرة وأقسم أنّها دون مشروعك بمراحل».

أمّا علي باش حانبة وزُمَلاؤُه عبد الجليل الزاوش وحسن فلاتي ومحمّد نعمان، فقد وَاصَلُوا حَمْلَتَهُم على خير الله بن مصطفى طوال ثلاث سنين مُتَّهِمِينَه بالجبن والرجعيّة. وقد توقّع علي باش حانبة فشل المشروع طال الزّمان أو قصر، قائلاً بالخصوص:

«لا يوجد أحدٌ على حدّ علمنا يُرَاوِده الأمل الخيالي في أن يكون في تونس في يوم من الأيام معهد يتلقَّى فيه أبناؤُنا تعلّمهم باللغة العربيّة». (التونسي 11/2/1909)..

وبالعكس مِن ذلك كان خير الله بن مصطفى يَرَى “أنّ التعليم في مدارسنا ينبغي أن يُلَقّنَ بالعربيّة، لأنّ التونسي يَعتَبرها عُنصرًا مُكَمِّلاً لشخصيَّتِه التي يصرّ على عدم التفريط فيها. ووسيلة لمُمارسة دِينه الذي يُريد أن يَبْقَى مُتشبِّثًا به، ويعتبرها أخيرًا أداةً للاستمرار داخل الوسط الذي ينتمي إليه منذ ثلاثة عشر قرنًا، والذي لا يمكنه أن ينفصل عنه دون المُخاطرة بأن يظلّ منفصمًا ومُوَزّعًا بين مجتمعين اثنين: العربي والفرنسي، هذا يحذره وذاك يحتقره”. (التقرير المُقدم إلى مؤتمر باريس في 16/10/1908).

وخلافًا لتوقّعات المُعارضين فقد أحرز مشروع المدرسة القرآنيّة نجاحًا مُنقطع النَّظير. وأقبلَ الشّعبُ التونسي على تأسيس مدارس مِن هذا القبيل فى سائر أنحاء البلاد. فأسّست الجمعيّة الخيريّة الإسلاميّة في سنة 1908 المدرسة “العرفانيّة” بالعاصمة، وهي ثاني مدرسة قرآنيّة عصريّة. ثم تأسّست مدرسة ثالثة، وأخرى بصفاقس إلى أن انتشرت المدارس القرآنيّة شيئًا فشيئًا في كامل البلاد بفضل نجاح مشروع خير الله بن مصطفى، رغم شتّى العراقيل وقلّة الموارد.

ولمّا شاهد علي باش حانبة وجماعته تشبّث الشعب التونسي بهُويّته العربيّة الإسلاميّة، ولاحظوا مِن ناحية أخرى فشل سياسة المشاركة، اضْطُرُّوا إلى تغيير مَوْقِفهم تُجاه اللّغة العربيّة وسعوا إلى التقرّب مِن العناصر الزيتونيّة، فأصدر علي باش حانبة نشرة عربيّة مِن جريدة “التونسي” في نوفمبر 1909 وعهد بإدارتها إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي أحد خرِّيجي الجامع الأعظم المُتنوّرين. وقد ساندت الجريدة الإضراب الذي شنّه طلبة جامع الزيتونة في 15 أفريل 1910 للمطالبة بإصلاح التعليم في معهدهم. كما فتحت جمعيّة قدماء الصادقيّة أبوابها مِن جديد في وجه الزيتونيِّين، ونظّمت محاضرات باللغة العربيّة وزوّدت مكتبتها بأمّهات الكتب العربيّة، ونظّمت دروسًا عموميّة في الأحياء الشعبيّة مِن مدينة تونس لتَمْكِين المُثقّفين مِن الاتِّصال أكثر فأكثر بالجماهير.

وقد اعتبر الشيخ الفاضل بن عاشور هذا التحوّل إعلانًا عن اتّحاد الشبيبة الزيتونيّة والمدرسيّة، واتّجاه الحركة الوطنيّة التونسيّة اتّجاهًا قوميًّا إسلاميًّا.

  1. نشاط خير الله بن مصطفى بعد التقاعد

إنّ صاحبنا قد تخلّى عن أيّ نشاط سياسي منذ أزمة أفريل 1922، وبالخصوص بعد إحالته على التقاعد في سنة 1928. فكان يلاحظ مِن بعيد ما تشهده بلاده مِن أحداث جسام في كافة الميادين اعتبارًا مِن مطلع الثلاثينات، دون أيّ ردّ فعل، مُكتفِيًا بما يقوم به ابنه الشاذلي خير الله من نشاط سياسي أوّلاً في إطار الحزب الدستوري القديم ثم في صلب الحزب الدستوري الجديد إثر المِحْنَة التي تعرّض لها الدِّيوان السياسي في سبتمبر 1934، وإِلْقاءِ القبض على أعضائه ومع ذلك فقد حاول خير الله التقرّب مِن القصر في عهد الأمير أحمد باي الثاني (1929 – 1942)، وتَحسِين علاقَاته مع المُقيم العام بيروطون (1933 – 1936) الذي كان يُلقّبه “بحكيم قرطاج”. كما سعى دون جَدْوَى إلى تأسيس رابطة تونسيّة لحقوق الإنسان على غِرار الرابطة الفرنسيّة.

وإثرَ دُخول الحلفاء إلى تونس في 7 ماي 1943 عاوده الحنين إلى النشاط السياسي. فسلّم إلى المُقيم العام الجديد الجنرال ماسط (1943 – 1947) تقريرًا مُؤرّخًا في 15 ديسمبر 1943 بعنوان “تقرير عن النزاع القائم بين الفرنسيِّين والتونسيِّين”، راجيًا منه إبلاغه إلى الجنرال كاترو المكلّف بالشؤون الإسلاميّة في لجنة التحرير الوطني بالجزائر.

وقد انتقد فيه السلطة الفرنسيّة التي لم تُحسن التصرّف مع التونسيِّين إثر دخول الحلفاء إلى تونس، “فعمدَت -حسب قوله- إلى خَلْعِ المُنصف باي، وعزلت عددًا مِن الأشخاص التونسيِّين المَرمُوقِين وسجَنَت بعضهم، بل إنّها ذهبت إلى أبعد مِن ذلك، فأطْلَقَت النّار على بعضِ الأعرابِ الرُّحَّل وحتّى على بعض أعيانِ البلاد دون مُحاكَمة، إلى درجة أنّنا أصبحنا لا نسمعُ في كلّ مكانٍ إلا تهديدات تبعث الهَلَعَ في نفوس المسلمين في هذه الرّبوع”.

وبعدما وجّه أصْبَع الاتّهام إلى المعمّرين والموظّفين الفرنسيِّين الذين اعتَبرهم مَسؤولين عن سوء العلاقات القائمة بين التونسيِّين والفرنسيِّين، اقترح خير الله بن مصطفى على حكومة الحماية تركيز سياستها الجديدة تُجاه المسلمين على المبادىء التالية:

  • احترام الذات البشريّة بغضِّ النّظر عن الجنسيّة والدِّين.
  • التحلِّي باللُّطفِ الذي هو مِن شِيَم الشّعب الفرنسي.
  • مُراعاة آداب الاحترام المَعْهُود لدَى المُسلمين.
  • إقامة جسور الحوار بين التونسيِّين والفرنسيِّين على أساس الاحترام المتبادل.

ثمّ قدّم إلى السّلطة الفرنسيّة جُملة مِن المطالب المستعجلة والمتمثّلة حسب رأيه فيما يلي:

  • تشجيع الفلاحة وتطويرها بالعمل على مُقاومة النُّزُوح.
  • إنشاء مراكز لإقامة الأعراب الرُّحَّل وتوجيه الشبّان التونسيِّين نَحو القطاع الزراعي.
  • تعميم التعليم.
  • تشجيع التعاون بين التونسيِّين والفرنسيِّين في الميدان الصناعي وحثُّهم على إنجاز مشاريع مشتركة.
  • توجيه الشبّان التونسيِّين نحو الصناعة والتجارة.
  • فتح أبواب الوظيفة العموميّة في وجه المثقّفين التونسيِّين على قدم المساواة مع الفرنسيِّين.
  • تمكين أصحاب الشهائد مِن التونسيِّين مِن الانخراط في سلك الجنديّة.

ورغم اعتدال هذه المطالب التي تُذكّرنا بمطالب حركة الشباب التونسي في أوّل عهدها، حين كانت تُنادِي بسياسة المُشاركة، فإنّ حكومة الحماية لم تُعِرْ أيّ اهتمام باعتبارها صادرة عن رجل طاعن في السنّ قد تَجاوَزَتْه الأحداث.

فتخلَّى خير الله بن مصطفى نهائيًّا عن أيّ نشاط عامٍّ على غرار صديقه حسن قلاتي، وبقيَ في عزلة تامّة إلى أن أدركته المنيّة سنة 1965 في سنّ تناهز المائة عام.

 

المراجع:

  1. آثار الشيخ محمّد النّخلي: سيرة ذاتيّة وأفكار إصلاحيّة، تحقيق حمّادي السّاحلي، بيروت 1995.
  2. الفاضل بن عاشور، الحركة الأدبيّة والفكريّة بتونس، تونس .1972
  3. الشاذلي خير الله، حركة الشباب التونسي (باللغة الفرنسيّة).
  4. الصادق الزمرلي، أعلام تونسيّون، تعريب حمّادي السّاحلي، دار الغرب الإسلامی، بیروت، 1986.
  5. هشام بوقمرة، القضيّة اللغويّة في تونس، تونس 1985.

[1] المجلّة الصادقيّة، ع 2/ 1996/، ص 38 – 46.

[2] وهم علي باش حانبة وخير الله بن مصطفى وعبد الجليل الزاوش والشاذلي درغوث ومحمّد العزيز الحيّوني.

 

[3] دامت هذه الرحلة مِن آخر ديسمبر 1907 إلى أوائل جانفي 1908 وكان البشير صفر مرفقًا بصديقه خليل بوحاجب وزوجته المصريّة الأميرة نازلي.

مقالات مقترحة