رسالة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور الرئيس الشرفي للاتحاد العام التونسي للشغل

إلى فرحات حشاد بعد حوادث صفاقس (أوت 1947)

محمد الحبيب الهيلة

كنت كتبتُ بحثا شاركتُ به في مؤتمرٍ سابقٍ تناولتُ فيه مكانة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور في الاتحاد العام التونس للشغل. ولم يكن ذلك إلّا لتوضيح مكانة الرجل في تأسيس هذه المنظمة العمالية العتيدة. وتبيّن لي من ذلك أن غالبية البحوث – جامعية كانت أو غيرها – صرفتْ نظرها عن الرجل بسبب ما يُتّهم به في حياته وبعد مماته بأنه يجمع بين أمريْن لا يجب أن يتوفّرا في نقابي زعيم؛ هما الانتساب إلى عائلة ماجدة لها بعض الثراء والانتساب إلى ثقافة عربية إسلامية، وهما التهمتان الكبيرتان اللتان وُجّهتا إليه من طرف الاستعمار وأذياله ومن الشيوعيين وغيرهم من الحزبيين كلما نشِطَ في حركة دينية أو سياسية أو قومية أو ثقافية.

وقد أشرتُ في ذلك البحث إلى رسالة كان قد كتبها الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور موجّهة إلى الزعيم النقابي فرحات حشاد عندما اختلفتْ بينهما السُّبل في سياسة الاتحاد واختلفتْ بينهما الآراء حول موقف الاتحاد الذي اتخذه من الأمين باي منذ جلسته التأسيسية الأولى (20 / 01 / 1946) حيث قرّر عدم الاعتراف بحق فرنسا في تنصيب ملك على تونس غير ملكها الشرعي. وبقي الاتحاد ” مُنصفيًا ” يعارض وجود الأمين باي ومُعبّرا عن ذلك في اجتماعاته وتحركاته ومظاهراته. إلّا أنّ حوادث صفاقس وسجن الزعيم النقابي الحبيب عاشور وتداخل الحزب الدستوري ومساومات الإقامة العامة الفرنسية والقصر الملكي دفعتْ بالاتحاد إلى الالتجاء للأمين باي لعله ينقذ المنظمة الشغيلة وزعماءها من شرّ كبير. فكان هذا الوضع هو الذي أبرز خلافا جوهريا بين الشيخ وفرحات فكتب له هذه الرسالة التي نقدم نصّها في هذا المقال.

لم نجد لهذه الرسالة ذكرًا في وثائق الاتحاد التي لم يبق منها غير النزر القليل ممّا لا تصل إليه أيدي أغلب الباحثين. إلّا أنه بقيت من الرسالة النسخة المسودة التي كتبها الشيخ بخطّه – الذي نعرفه – وأبقاها في مكتبته فضُمّتْ إلى وثائق آل ابن عاشور تحت عدد 10. وقد حصلت منها على نسخة من الدكتور حسن المناعي -مع شكري له- فرغبتُ في نشرها كاملة مع تعليقات أولية حولها، لاعتقادي أنها تقدّم وجهة نظر في سياسة الاتحاد العام التونس للشغل تجاه مختلف القوى السياسية وتسجّل مواقف كانت تحتاج إلى عرض وتوثيق، وتُبيّن جانبا هامّا من أسباب إبعاد الشيخ الفاضل من الرئاسة الشرفية للاتحاد، تلك الرئاسة التي كانت عُيّنتْ له بصفة دائمة دوام عمره. كما تؤرخ الرسالة ظروف تحول الاتحاد من ” منصفي ” إلى ” أميني ” بعد حوادث صفاقس (أوت 1947) التي استشهد فيها نقابيون كُثر وجرح آخرون، وبعد حدوث قضية الحبيب عاشور وسجنه مع زملائه من النقابيين.

وإذا كانت الرسالة تُبرز لنا جوانب من الخلاف الجذري بين الرجلين – الفاضل وفرحات – فإنها توضح لنا أيضا نوع العلاقة السابقة التي كانت تجمع بينهما خلال مرحلة تأسيس الاتحاد، أي كامل سنة 1946 وأغلب سنة 1947. فقد ذكر الشيخ أهم المميزات الأخلاقية والوطنية التي كان يتحلى بها الزعيم فرحات من عمق فكره السياسي وصموده في المهمات وحسن تصرفه في مواجهة المصاعب[1].

ثم تطرّقت الرسالة إلى تذكير فرحات بالجهود التي كان يبذلها الشيخ لبناء الاتحاد ومشاركته في إنشاء هذه القوة العمالية العتيدة، وأنهما كانا في تلك المرحلة أخويْ كفاح في خضم جهود ومواجهات ومعارك لتأسيس اتحاد عمالي مستقلّ عن كل أثر خارجي ، حزبيا كان أو حكوميا استعماريا .

أما جوانب الخلاف بينهما فقد عرضها الشيخ بكل لياقة وصراحة.

فهو يذكّرُه بنقاط أساسية أهمها:

1- أن الاتحاد قام على أساس معارضة الاستعمار في عزله ملك البلاد  الشرعي وتسمية ملك آخر، وعدم الاعتراف بما فرضه على الشعب التونسي من تنصيب الأمين باي . وقد قرر الاتحاد في مؤتمره القانوني الأول عدم الاعتراف بحق فرنسا في تنصيب ملك على تونس. وأن الطبقة العاملة لم تكن تثق في الأمين باي ولا في حاشيته لأنه قاصر عن حماية الملك والوطن، وأن العمال متفقون مع الحزبيين الذين أعلنوا عدم شرعية ملكه في مؤتمر ليلة القدر.

2-  أن أساس المبادئ النقابية تفرض أن يمتنع النقابيون من الاتصال بالملوك وأصحاب السلطة ، وأن لا يطالبوهم بالحماية والإعانة ولو كانت سلطات ديمقراطية، فما بالك بالسلطة الملكية. ويبدو أن رجال الاتحاد العام التونسي للشغل وعلى رأسهم فرحات شعروا بالخشية على مؤسستهم من الانحلال وعلى زملائهم المسجونين من العقاب الصارم. فقد أشيع أن الإقامة العامة أحضرت مرسوما ستعرضه على الباي يقضي بحل الاتحاد والحكم بعدم شرعيته. مع ما أشيع بأن العقاب الذي يترقب الاتحاديين بصفاقس ۔ وعلى رأسهم الزعيم الحبيب عاشور سيكون قاسيا وصارما[2] . فالتجؤوا إلى القصر الملكي رغم مواقفهم السابقة وطلبوا مقابلة الأمين باي فاقتبلهم مرّة أولى يوم 22 أوت 47 ثم مرّة ثانية يوم 6 سبتمبر 47 راغبين منه الامتناع عن إمضاء المرسوم والتداخل لدى السلطات الفرنسية للعفو عن المساجين وسراحهم الوقتي. وهي مواقف يعارضها الشيخ الفاضل معارضة تامة.

3- أن من أسس المبادئ النقابية أن تمتنع النقابات من قبول أي شيء من أموال الحكّام . ويوضّح ذلك بقوله ” إنّ المنظمات النقابية تمنع على نفسها قبول أي تبرع مالي من كائن مَن كان غير منخرطيها من الطبقة العاملة ، لأنها منظمات كفاح في وجه أقدر الناس على بذل المال. فإذا فتحت الطبقة العاملة هذا الباب أصبح لها ذريعة استجداء للطبقة الرأسمالية “.

وينتقد الشيخ الفاضل فرحات في مواقف أهمها:

1. صدور بلاغات عن الاتحاد العام التونسي للشغل فيها ثناء الطبقة الشغيلة على الأمين باي، في حين أنهم منذ عهد قريب جدا كانوا يرفضونه ويعارضون توليه غير الشرعي.[3]
2. التجاء الاتحاد إلى قصر الأمين باي في قضية الحبيب عاشور ” التجاء شكاية واستنجاد ” ليكون حَكمًا بين الاتحاد والإدارة العميلة. ومع ذلك فإن الباي لم يستجب للاستجداء بل أحال الأمر إلى الوزير الأول. [4]
3. إن طلب السراح الوقتي للحبيب عاشور ومن معه من الزعماء النقابيين كان عملا غير مصيب، وكان على الاتحاد أن يقف ثابتا ” وهو ما يفعله دائما المعتقلون السياسيون عندنا وعند غيرنا من الأمم “.
4.  وأشدّ نقد يوجهه الشيخ إلى فرحات هو قبوله مائة ألف فرنك من الأمين باي كإعانة لعائلات الضحايا والمسجونين من النقابيين، ووصف هذا القبول بأنه “الطامة الكبرى التي يندى لها جبين المروءة الإنسانية خجلاً ، وهو مدُّ يدكم لقبض مقدار مالي من الباي ، وهو الأمر الذي يقدح في شرفنا القومي كما يقدح في شرفنا النقابي “.

وفي نهاية الرسالة يطلب الشيخ الفاضل من فرحات حشاد أن يعرض هذه الرسالة على أفراد اللجنة العليا واللجنة الإدارية للاتحاد ويطلب منهم باسمه أن يردوا المائة ألف فرنك إلى الأمين باي وأن يصدروا بلاغا يرفضون فيه توسّط الباي في الخلاف بين الحكومة والاتحاد.

وإني وإن كنت لا أشك في أن فرحات حشاد قد عرض رسالة الشيخ الفاضل وموقفه على أعضاء اللجنة العليا واللجنة الإدارية للاتحاد إلا أننا لم نجد أحدا ذكرها من المعاصرين لها ۔ على عادة السياسيين في شهاداتهم على حوادث عصرهم ۔ وهو ما جعلنا لا نجد لها ذكرا عند الباحثين الذين اطلعوا على وثائق الاتحاد أو روايات أعضائه.

أما تاريخ الرسالة فإن الشيخ الفاضل لم يثبته في المسودة، وهو أمر عادي جدا في مثل هذه الحالات. فإنه إذا كان أعدها أيامًا قبل توجيهيها إلى فرحات يكتفي بوضع التاريخ على النسخة المبيضة الموجهة. إلاّ أن النظر في الحوادث التي ذُكرت فيها تدل على أنها كتب وأرسلت في شهر سبتمبر من سنة 1947 وذلك للأسباب التالية:

لأنها كُتبت بعد قبول فرحات للمائة ألف فرنك من الأمين باي. وبعد صدور بلاغ الاتحاد المؤرخ بيوم 9 سبتمبر 1947.

والملاحظ أن الشيخ ختم رسالته بذكر اسمه متبوعا بوظيفه في الاتحاد “الرئيس الشرفي للاتحاد العام التونسي للشغل ” وهو ما يشير إلى أن قرارات التحول في سياسة الاتحاد وقعت دون استشارة وعلم رئيسه الشرفي الذي وافقت على تسميته القاعدة العمالية. وما في الرسالة يدل أيضا على أنها كُتبت قبل شهر جانفي 1948 حيث انعقدت الجلسة العامة للاتحاد، تلك الجلسة التي لم يدع لها الشيخ الفاضل وتمّ بذلك إقصاؤه، بل دُعي لها الزعيم الدستوري صالح بن يوسف واعتبر عضوا شرفيا في الاتحاد.

أمّا نصّ مسودة الرسالة التي بين أيدينا صورتها فقد كُتبت بخط الشيخ الفاضل الذي نعرفه جيدا. والنص يقع في عشر صفحات، اشتملت على بعض التشطيبات والإصلاحات القليلة، وهو ما يقع عادة في المسودات.

الأخ العزيز فرحات حشاد

الكاتب العام للاتحاد العام التونسي للشغل

سلاما زكيا كَزكاء نفسك، ومشرقا كإشراق ذكائك، وتحية أخوة تنعش ما بيننا من روح التعاضد على العمل الصالح والتناصر في إعلاء كلمة الحق، وتبعث في نفسك الكريمة ذكريات الساعات الحرجة العذبة التي قضيتها معي بين حلّ وترحال، نضع النواة الأولى في هذه الشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، شجرة الاتحاد العام التونسي للشغل .

وفي هذه الذكريات ما يؤدّي إلى مداركك العالية أعظم ما أنا حريص على أدائه لها، فإن شواهد التكريم والإعجاب حين أستحضر لك المنزلة المجيدة لنبـني عليه أبرز مثل النجاح والنصر التي طَفح بها ماضيك.

وبعد: فلقد طالعت في هذه الأيام الأخيرة بين أخبار الصحف أخبارا تمسّ اتحادنا العزيز، وهي أخبار المقابلات التي جرت بين رجال في الاتحاد وبين حضرة صاحب السمو سيدي محمد الأمين باي . ولست بحاجة لأن أقول لك إن ذلك قد وقع في نفسي موقع الاستغراب التام. فمثلك من يدرك أن هذه الأخبار- في غرابتها- تقع وقع الصواعق على كل فكر ارتسمت فيه صور المبادئ التي قام عليها الاتحاد العام التونسي للشغل، كيفما كانت صلة ذلك الفكر بمؤسساتنا العتيدة.

فما ظنك بمن كان مثلي في صلته المتينة بالاتحاد وغيرته على نجاحه وحسن سمعته. وقد اندمج اسمي في اسم الاتحاد ودانت نفسي بين المـثـل العليا والمبادئ القويمة المقدسة التي طالما أمليتها في خطبي على إخواننا في الاتحاد من ساعة استهلاله حتى أصبحت دستور العمل وأسس المبادئ التي تكوّن عليها كيان الاتحاد، وأصبحت ذاتي عنوانا على الاتحاد، يمسها ما يمسّه من فخر، ويناله ما ينالها من وزر، من يوم نودي في المؤتمر التكويني للاتحاد (20 مارس 1946) نداء إجماع وإلحاح لأكون كاتبه العام، فمنعني من تلبية نداء الإخوان يقيني بأنّ وفرة تكليفي وتوزع أوقاتي يمنعاني من ذلك. وقبلت بعد لأْي الرئاسة الشرفية لتلك المؤسسة العزيزة شاعرا بما يقتضي ذلك عليّ من واجبات في تحديد مواقفي العامة والشخصية على نحو يحفظ كرامة الاتحاد الذي عُنون عليه باسمي أكثر مما يحفظ كرامتي الشخصية.

وإن فخَرَ مخلص بأعماله فإني َفخور بما استطعت أن أرد للاتحاد من الخدمات الجليلة بمجرد هذا الانتساب الأدبي، مما أعان على ازدهاره والإقبال عليه ونجاحه وثبات موقفه. ولعلّك لا تنسى أنّ كثيرا من الاجتماعات التكوينية للاتحادات المحلية والجهوية قد كان حضوري فيها ضرَبة لازب وشرطا أساسيا، ما كان يتم التكوين الجهوي بدونه. فكنت آتي من الحاضرة إلى مراكز الاجتماعات القاصية من الكاف إلى تطاوين لألقي خطابي في التشجٌع والتأييد، وأنقلبُ إلى الحاضرة في الحين وقد تم تأسيس اتحاد محلي أو اتحاد جهوي.

ولقد حمّلني كل ذلك أن أصبحت َدريئة لسهام الانتقادات المصوبة نحو حركتنا المباركة من أعداء القومية الذين كانوا  يمثلون الحركة النقابية من قَبْل لخدمة أهوائهم الحزبية ومصالحهم الاستعمارية، لشعورهم بأن الضربات القاضية لم تكن تأتيهم إلاّ من ِقبلي. فيكون من الواضح الجلي أنّ نفسا تكنّ للاتحاد بهذه الذكريات الطيبة بين أعماقها وتشعر بمسؤولتها العظمى في إنشاء هذا الجهاز القومي الصالح تكون أكثر إحساسا ِمن غيرها بفداحة الصدمات التي يلاقيها الاتحاد في سبيل كفاحه، في ما يرجع إلى سُمعته في الحاضر وأمله في المستقبل، وتكون مسؤولة عن مصارحة الإخوان بما يختلج في أعماقها من المشاعر التي تشيدها تلك الصدمات، وذلك ما أوجب علي أن لا أكتمك –يا أخي- ولا أكتم إخواني المسؤولين عن تسيير الاتحاد تسييرا عمليا ما يساور نفسي الآن من المخاوف الناشئة عن هذه المجازفة المتجلية في تردّد وفُود الاتحاد على ساحة سيدي الأمين باي.

فإنّ موقف الشعب نحو سموّه وإعراض طبقات العَملة عن الاتصال به، وقلّة ثقتهم فيه وفي حاشيته، وحْكمهم على مواقفه بالتقصير في الدفاع عن عرش هو أول من يُطالب بالدفاع عنه، لكون استسلامه للإدارة الأجنبة الاستعمارية خلافا لكل من يعمل للقضية الوطنية بإخلاص، أمورٌ يعلُمها الخاص والعام والعدو والصديق بعد أن برهنت عليها المظاهرات والإضرابات والعرائض والمواقف السلبية التي يلاقى بها ركابه في وسط الشعب التونسي، وبعد أن أوجبت  جميع منظماتنا السياسية القومية على كل وطني حُر التباعد عنه وعدم الاتصال به، حتى تعطلت في سبيل ذلك أكبر أعيادنا القومية. وبعد أن أعلن المؤتمر القومي في ليلة  القدر قراره في عدم شرعية ملكِه.

وقد كان اتحادنا من أعظم عناصر ذلك المؤتمر وقامت الطبقة العاملة في سبيل تأييده بمواقفها التي سجلها التاريخ بمداد الفخر، وبعد أن أعلن المؤتمر القانوني الأول لاتحادنا العام عدم الاعتراف بحق فرنسا في تنصيب ملك على تونس غير ملكها الشرعي وأيّدت ذلك الطبقة العاملة بإضراب 14 ماي 1947.

ولعل هذا يكفي مانعا للاتحاد- وهو رأس حياتنا القومية، وقلب شعورنا الشعبي، ولسان الطبقة العاملة – ِمن أن يتصل بسيدي الأمين باي كوليّ للأمر، فضلا عن أن تصدر بلاغات الاتحاد طافحة بثناء الطبقة العاملة عليه واعترافها بفضله، وما الطبقة العامة لو تمكنت من النطق إلا لسان واحد ناطق بعكس ذلك.

على أننا لو فرضنا أن سيدي الأمين لم يكن بهذه المنزلة وكانت ولايته على الطريقة المعتادة، ولم يكن في مواقفه ما حكم به عليه الرأي العام الوطني بما حكم، لكان مجرد كونه ملكا مطلقا يتصرف تصرفا لا يقوم على الشورى ولا على تحديد المسؤولية بما لا يقره الدين ولا تصادق عليه النظم الديمقراطية التي ترتبط بها القوانين النقابية، لكان ذلك وحده مانعا للاتحاد من أن يتـصل به، كما تمتنع جميع المنظمات النقابية في الدنيا من الاتصال بالملوك ولو كانوا دستوريين خاضعين للنظام الديمقراطي.

وأنا مؤمن بأن هذه الملاحظات ما كانت لتغيب عن مثل إدراكك وإدراك الإخوان المسؤولين ، ولكن ظهر لي أن تحرّج الموقف بعد حوادث صفاقس لم تزل جراحاتها تحز في قلوبنا هو الذي سول لكم هذا الصنيع. وكأني بكم وقد هالكم الأمر ودب إلى نفوسكم اليأس ذهلتم عن أن قوة الطبقة العاملة هي قوة الله المنضّدة عليها معها وقوة الحق الكامنة فيها، فانصرفتم تبحثون عن َسَند تتقوّون به في مقابلة الصولة العدوانية الخائبة الفاشلة التي صال بها علينا أعوان الاستعمار. فلاَح لكم قصر الإمارة وعظّمته في أعينكم دعاية خدّامه وقربت إليكم ما يستطيع أن يبذل في معونتكم من جهود لو أنتم التفتم إليه واستنجْدتُم به. ثم لاحت لكم جميع الحقائق الحالقة من هذا الاتحاد على نحو ما أسلفت تقريرها لكم، فوازنتُم بين المصلحة المرجوة وبين الشناعة الحاصلة، ورجح لكم هول الموقف أن تؤثروا جلب المصلحة للاتحاد وتضّحوا في سبيلها بالمعاني المانعة.

هذا هو الاحتمال الذي تتلقاه نفسي باطمئنان ليقيني بوطنيتك وصادق عملك وخالص موقفك في سبيل اتحادنا العزيز، والذي باطمئناني إليه أستطيع أن ألقي تحت قدميًّ وُدبّر أذني جميع التآويل والاحتمالات والإشاعات التي يتخرّص بها الناس في شأن هذه المقابلة، فأحبّ أن أصارحك على أني– مع تقديري لهذا الاحتمال- أرى أنه ما كان ليبرر المجازفة التي ارتكبتم في الالتجاء إلى هاته السلطة التي ما كان ينبغي لاتحاد الشغل أن يلتجئ إليها . وإن الذي يؤلمني من ذلك بصفة خاصة أن تكون أنت انت فرحات الذي وقفت في وجه أعظم صدمة صدمتنا في تاريخ كفاحنا يوم أجمعت جامعة النقابات العالمية فصم صميمها على عدم الاعتراف بنا، فتلقيت ذلك ثابتا ساخرا وقلت: إن قوتـنا فينا، وإن اتحادنا سينشئ جامعة عالمية أعظم من الجامعة التي لم تعترف بنا، يهولك اليوم موقف نذل من موظفي الاستعمار فتظن أنهم  يستطيعون حل الاتحاد أو إقصاءه حقا عن لجان الحل والعقد في شؤون العمال، وتغفل عما أكسبت اتحادنا من القوة دماء الشهداء الأبرار التي أريقت في ساحة المحطة بصفاقس أو الأبطال الصناديد من رجالنا الذين ألقُوا في ظلمات السجن حول زعيمهم وزعيمنا العظيم الحبيب عاشور:

ففي القتلى لأقوام حياة *** وفي الأسرى ِفدى لهم وعتْق

وللحرٌة الحمراء باب *** بكــل يد مــضرّجٍة يُدقّ

ولعلك لم تكن تغفل طرفة عين عمّا يكون للقصر ِمن فائدة في أن يقصده وفد العمال، ولا سيما يً هذه الظروف التي تحيط به والتي تدعوه إلى الحرص على التقوي في سبيل المقاومة الشخصية التي يقاومون بها وزارة الكعاك، فكان ذلك يفرض عليك أن لا ترضى لاتحادك العظيم بأن يكون وسيلةً لتحقيق مثل هذه الأغراض وأن تربأ به عن حلْف القصر ومسيّري وزارة الكعاك الاستعمارية.

ولعل الواقع قد كشف لك بعد المقابلة الثانية[5] على أن مآل المقابلتين قد كان إلى وقوف الذي توجه إليه الوفد موقف المحايد المرن ونقل المسألة إلى الوزير لالتزامه لكم بتحقيق المطالب:

فيا ليته قد كان في أول الهوى *** أراح عذولي واكتفينا من[6] ….

وهذا ما يكفي لأن يصور للناس أن القصر استفاد منّا ولم نستفد منه حيث رَدنا إلى مرحلة كنا مقتدرين على أن نصل إليها بدونه.

أما أن يكون القصر بتداخله يستطيع أن يدفع شيئا مما يدبّره الفرنسيون لاتحادنا من الكيد فهو ظن لا يستقر لحظة عند أبسط الأفكار وأكثرها بلَها. فمتى كان القصر الحالي يستطيع أن يقف وقفة حازمة في وجه الإرادات السياسية الفرنسية؟ وهو الذي لم يستطع أن يثبت في أكثر الأمور تعلقا به وأبعدها عن مقاصد الفرنسوية.

فإذا كان الفرنسيون يضمرون شرا للاتحاد فإنه لا يمنعهم ِمن إيصاله إليه إلا رهبتهم من قوته فيبقون منتظرين وقفة ضعف من طرف الاتحاد ليسلّطوا عليه ضربتهم، ولا يجدون مظهرا للضعف– بعد ما سبق في حل الأحزاب بتقهقر غير منتظر– إلا أن يسجل الاتحاد على نفسه الضعف إلى أقصى حد بالتجائه إلى الباب الذي كان رجاله يدعون عـلنا إلى صدّ الناس عن الالتجاء إليه.

وإذا كان المقيم قد اقتبل وفد الاتحاد بعد المقابلة الأمينية[7] فذلك لأنه أراد له رجال السياسة من بني قومه أن لا يتصل بالاتحاد إلّا والاتحاد على حالة من الضعف تجعل جانبه غير مخشي على المصالح الاستعمارية. وبعد أن تجد الأوساط الاستعمارية من مواقفنا ما تتناوله بتهّكم وتورك يشفيان غليل نفس الاستعمار فينا، وتحقق لدعايته الأثيمة ما كانت تتطاول به من أن سياسة اتحادنا سياسة مستمدة من ذوات خارجية عنه تتقلب بها تقلبات الظروف وعواطف الأطماع.

هذه هي الملاحظات التي ترجع إلى المقابلة باعتبار ذاتها وإلى فساد ما فيها من أصل الاتصال. أما ما اشتملت عليه المقابلة من الأمور المنافية لشرف الاتحاد ومبادئه فإني ألاحظ من ذلك ثلاثة أمور:

– الأمر الأول هو أننا بالتجائنا إلى القصر الأميني التجاء شكاية واستنجاد قد جعلناه حَكما بيننا وبين الإدارة، وهو قد وَعد بالتأمل في الأمر وَقبلنا ذلك منه. وَمن ذا الذي يضمن لنا أنه بعد انقضاء أيام يجيبنا بأنه تأمل وسأل ونظر ثم قرر أن الحق في جانب الإدارة وأّيد أعمالها وحمّل المسؤولية علينا كما فعل مجلس الوزراء أمام تصريحات المقيم. فكيف نستطيع لو وقع ذلك– لا قدر الله– أن نقدح في عدالة حُكم نحن الذين حكّمناه وَهرعنا إليه وأدخلناه في الأمر ورفعنا القضية إلى أنظاره.

– الأمر الثاني هو مسألة طلب السراح الوقتي للزعيم الحبيب عاشور ومعتقلي صفاقس، ومعلوم أن السراح الوقتي لا يطلبه إلّا أحد الرجلين: إما إنسان مقر بمسؤوليته القضائية معترف بعدالة القانون ونزاهة المحكمة يريد أن يتمتّع مؤقتا بحالة السراح حتى تحين ساعة القصاص الحق، وإما إنسان مطمئن إلى براءته واثق بعدالة المحكمة ونزاهتها يطلب السراح ليقينه بأنه إذا عرضت القضية على المحكمة فإنها ترفع عنه حالة الإيقاف وتطلق سبيله فيتعجل ذلك السراح بصفة وقتية تقررها المحكمة نهائيا في ما بعد.

ونحن نجزم بأن حالة معتقلينا الكرام مع المحكمة ليست حالة واحدة من هذين ليقيننا بأن أحكام المحكمة هي أحكام صورية قد أملِي مضمونها في البلاغات السفيرية وأن القوانين التي تستند إليها هي جاِئرة مختلـة وضعْت لتغلّ حريات الجنس العربي ولتضطهد الطبقة العاملة منه بصفة خاصة.

وإن موقف من كانت هذه حالته مع المحكمة وهذا اعتقاده فيها أن لا يطلب سراحا وقتيا ولا يلتجئ إلى استئناف ولا تعقيب، وأن يقف ثابتا غير متحرك أمام المهزلة الإنسانية التي يريد الظلم أن يجعله موضوعها، وذلك ما كان فعله دائما المعتقلون السياسيون عندنا وعند غيرنا من الأمم ولو صدر الحكم عليهم بالإعدام.

وإنه ليؤلمني جدا أن أتصور الحبيب عاشور ذلك البطل الوطني النقابي خارجا من السجن بشفاعة لم يخرج بها أحد من أهل وطنه قبله– إلا علي بن ضياف[8]–  فأودّ أن تصبح جدران السجن فُولاذية على شرف أخينا العزيز حتى لا نعابر بهذا الشعر :

يهون علينا أن تصاب جسومنا *** وتسلم أعراض لنا وعقول

– الأمر الثالث وهو الطامة الكبرى التي يندى لها جبين المروءة الإنسانية خجلا هو مد يدكم لقبض مقدار من الباي، وهو أمر يقدح في شرفنا النقابي.  فإنه لا يخفاكم أن المنظمات النقابية تمنع على نفسها قبول أي تبرع مالي من كائن من كان من غير منخرطيها من الطبقات العاملة، لأنّها منظمات كفاح في وجه أقدر الناس على بذل المال، فإذا فتحت هذا الباب أصبح لها ذريعة استجداء للطبقة الرأسمالية.

وما هو المقدار الزهيد الذي بذله لكم سيدي الأمين باي أمام المقادير الباهظة التي تستطيع أن تفيضها عليكم غدا الشركات الكبرى ومنظمات الدعايات الأجنبة– دولية وحزبية– بما يضخم صندوقنا بمائة مليون؟ ولكنه يجعل اتحـادنا “يحور رمادا بعد إذ هو ساطع”.

ولعل الحاجة والفاقة– وإن اشتدت بعائلات المنكوبين– لا تبيحان لها مد اليد إلى قبض مال معلوم أصله ومعلومة الغاية التي دفع في سبيلها. كما لم تُبح الحاجة والفاقة للطلبة المغتربين في أرض البرد والجوع أن يقبلوا التبرعات التي أتتْهم في الشتاء الماضي من تلك الجهة نفسها.

هذه هي ملاحظاتي أباِدر بتوجيهها إليك- يا أخي العزيز– قياما بواجب التناصح. وأنا أرجو منك أن تعرضها على إخواننا باللجنة العليا واللجنة الإدارية وأن تطلب منهم باسمي:

1- رد المائة ألف فرنك حالا إلى صاحبها.

2- إصدار بلاغ يقتضي أن الطبقة العاملة بموقفها هذا لم تضع ثقتها التحكيمية في أي شخص في أي مرجع.

وعليكم وعليهم جميعا سلام الأخوة الخالصة في الله.

لا زلتم ثابتين على أقوم طريق، يمّدكم من الله الصون والتوفيق

 

أخوكم محمد الفاضل ابن عاشور

 الرئيس الشرفي للاتحاد العام التونسي للشغل

 

[1]  يبدو أن العلاقة بين الرجلين كانت حميمة جدا، فقد ذكر لي الأستاذ عياض ابن عاشور أن خبر اغتيال فرحات وقع

موقعا كبيرا من والده وأنه بكى طويلا لذلك. كما أن فرحات يوم اغتياله وُجدتْ في محفظته الشخصية صورة للشيخ

الفاضل وهو يخطب في اجتماع نقابي وقد قام بتصويره فرحات نفسه بآلة تصويره الشخصية، وفي ذلك دلالة واضحة

على ما كان بين الرجلين.

[2] يلاحظ أن الحبيب عاشور هو ابن خالة فرحات حشاد .

[3] لعل الشيخ في رسالته يشير إلى البلاغ الذي صدر في الصحافة عن فرحات. فقد أصدرت جريدة النهضة بتاريخ 9/9/1947 بلاغا بإمضاء فرحات حشاد أهم ما فيه: تفضل جلالة مولانا محمد الأمين باشا باي بقبول اتحاد الجهوي بصفاقس بقيادة الكاتب العام للاتحاد يوم السبت 6 سبتمبر … فبسط الوفد لجلالته أ/ الحالة المضطربة بصفاقس ب/ المطالبة بالسراح الوقتي للحبيب عاشور والمعتقلين. وقد تفضلت الحضرة العلية فاستمعت للبسطة … وأعلمت معالي الوزير بإرادتها أن تحسم هاته المشاكل في أقرب وقت ممكن. فحقق معالي الوزير للوفد أمام جلالة سمو الباي بأنه سيهتم بكل عناية بهاته المسألة وذلك ابتداء من يوم الإثنين 8 الجاري. أما في ما يخص السراح الوقتي فسيقع درس المسألة بملء التفهم والتأمل وذلك سعيا وراء تهدئة الخواطر. وزاد جلالته فعبر عن رغبته في إعانة عائلات ضحايا عسف 5 أوت فافتتح الاكتتاب القومي بمائة ألف فرنك. فرفع الوفد شكره الكامل لجلالة سيدنا محمد الأمين باشا باي وخرج من لدنه شاكرا. الكاتب العام: فرحات حشاد.

[4] نلاحظ أن الزعيم النقابي الحبيب عاشور كان منصفي المنزع حتى أنه سمى أحد أبنائه الذي ولد في زمن إقصاء المنصف باي باسمه ” منصف ” فكيف يستقيم له أن يطلب الحماية من الأمين باي ؟ .

[5] وقعت المقابلة الثانية بين الأمين باي ووفد الاتحاد العام التونس للشغل صبيحة يوم السبت 6 سبتمبر بقرطاج . جريدة

. النهضة بتاريخ 7 سبتمبر 1947

[6] كذا وردت الكلمة الأخيرة من البيت ساقطة من الأصل

[7] اقتبل المقيم العام وفد الاتحاد العام التونس للشغل بقيادة فرحات يوم 9 سبتمبر 1947 . جريدة النهضة عدد 10 سبتمبر

. 1947

[8] علي بن ضياف: رجل تعامل مع الاستعمار فنصّبوه ” قايدا ” بالجنوب، ثم تعامل مع الألمان خلال استيلائهم على البلاد. وبعد انتصار الحلفاء اتّهمه الفرنسيون بالجوسسة فحكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام، وتداخل بعض المستعمرين فتحوّل الحكم إلى سجن، ثم جاء الأمر من الجنرال ديقول بالعفو عنه نهائيا. ومنذ ذلك الوقت أصبح من أكبر أنصار الأمين باي وأصدر جريدة “البيان” لنشر الدعاية “الأمينية” ولمهاجمة “المنصفيين “ومن بينهم الشيخ الفاضل اين عاشور

 

نشرت في مجلد الموارد