‌‌‌حكم ‌الإسلام ‌فيمن ‌بلغته ‌الدعوة[1]

فضيلة الإمام محمد الخضر حسين

سأل فريق من المثقفين عمن يؤمن بالله، ويعمل صالحاً، ولا يؤمن بالإسلام، هل ينجو من العذاب الخالد، وإن بلغته دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ ربما دعاهم إلى هذا السؤال قوله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].

وجواب ذلك: أنه انعقد إجماع علماء الإسلام على أن من بلغته الدعوة بلوغاً كافياً، ولم يؤمن برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلا ينجو من العذاب الخالد.

ومستند الإجماع فيما أجمعوا عليه: أن الله أرسل الرسل – عليهم السلام – بالمعجزات الواضحة، فمن لم يؤمن برسول، فقد جحد تصديق الله لرسوله في دعوة الرسالة، ومن جحد تصديق الله لرسوله، فكيف يكون مؤمناً بالله؟! فلهذا حكم الله على من لا يؤمن بالمعجزات البينات بأن لا يكون مؤمناً به حقيقة.

ومن هؤلاء الرسل الذين حكم الله على من لا يؤمن برسول الله منهم بالعذاب الخالد: محمد – عليه الصلاة والسلام -.

فقد أعطاه الله من المعجزات الواضحة ما خضعت له الفطر السليمة، والعقول المتمرنة على الأصول المنطقية، وأهمها الكتاب العزيز. فمن لم يؤمن به، لم يؤمن بالله الإيمان المعتد به؛ لأنه كذّب المعجزات التي أظهرها الله تأييداً لدعوته، ولأن من كذّب الرسول لا يؤمن بالهدى الذي أرسل ليبلغه إلى الأمة، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

فجعلهم في الآية غير مؤمنين إذا وجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضى به عليهم..

وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13].

فجعل عدم الإيمان بالرسول قاضياً عليهم بالكفر، ولا يتحقق الإيمان بالله إلا بتحقق الإيمان بالرسول، ولا يتحقق الإيمان بالرسول إلا بتحقق الإيمان بالكتاب الذي أرسل به، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} البقرة: 89].

ومن لم يؤمن بالقرآن، فقد جحد ما قام الدليل القاطع على أنه من عند الله، فيكون غير مؤمن بالله إيماناً صحيحاً، قال الله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

ولا يكون متبعاً للنور الذي أنزل معه إلا إذا اعتقد أن الحكمة فيما يأمر به، أو ينهى عنه.

فالإيمان بالرسول والكتاب الذي أرسل به أساس متين للإيمان بالله.

ومن لا يؤمن بالله، فلا يسمى عمله صالحاً، وإنما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.

والآيات دالة على أن الإيمان بالله لا يكون مقبولاً إذا تبعها الإيمان بالرسول والكتاب الذي أنزل معه هدايةً للمتقين.

وأما الآية – أعني قوله تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].

فالقرآن قد يورد الكلام مطلقاً، ويعتمد على تقييده في آية أخرى، فقيد المتفقهون الآية المطلقة بالآية الأخرى.

ولا يطلق القرآن، والمعنى قاض بالشرط، ما لم يكن الشرط مأخوذاً من قاعدة معروفة، أو لفظ صريح. والآيات الكثيرة تدل على أن من لا يؤمن بشريعة الإسلام، وقد بلغته دعوة الرسول – صلوات الله عليه -، فليس بمؤمن.

والمراد من {وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} في الآية: الذين انقرضوا، ولم تبلغهم دعوة الرسول الذي أرسل بالكتاب الحكيم.

فإذا بُينت الآية بهذا الوجه، كنا فهمنا القرآن على وجه يتفق مع الآيات الأخرى، وينسجم مع الإجماع الذي مشى عليه علماء الإسلام.

ويؤيد هذا الوجه من التفسير: ما ذكره السيوطي في أسباب نزول الآية؛ من أن سلمان الفارسي سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أصحابه الذين كان معهم، فنزلت الآية.

[1] مجلة “لواء الإسلام” – العدد الثالث من السنة الثامنة.

مقالات مقترحة