آداب الخطابة

بقلم الشيخ علي ابن الخوجة

الحمد الله الذي جعل الوعظ والإرشاد هداية لأولي الألباب وقرب إليه سبحانه من أطاع وأناب. نحمده تعالى على ما حقق لنا من نعمة الإيمان ونشكره جلّ جلاله على ما زيّن به ألسنتنا من منحة البيان ونشهد أن لا إله إلا الله الملك الحقّ المبين القائل في عزيز كتابه: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات:55]. ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله من جاء بالحكمة وجوامع الكلم الفصيحة القائل في أحاديثه الشريفة الصحيحة: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وعترته الطاهرة والأصحاب ما ذكر الله ذاكر وشكر شاكر.

أما بعد فممّا جاءت به الشريعة الإسلاميّة وسنّة خير البريّة الخطابة الجُمعيّة وهي درس أسبوعي يتلقّاه المسلمون فيُحيي منهم النفوس ويوقظ منهم المشاعر ويذكّرهم بآيات الله ويجلي عن قلوبهم صدأ الغفلة. ويرشدهم لما ينفعهم في حالهم ومآلهم.

وبما أنّي قد مارست الخطابة الجُمعيّة وقمت بأعبائها زمنا ليس بالقصير فسبرت أغوارها واطّلعت على نواحيها وأسرارها من فحول رجالها. وحبّرت جانبا لا بأس به من الخطب المنبرية في مختلف المواضيع وشتّى المقاصد فقد رأيت جمع ما اختبرته منها في ديوانٍ رجاءَ أن ينفع به من يريد ذلك. ويكون لديه أنموذجا صالحا للقياس عليه والنسج على منواله. وصدّرته بالكلمة الآتية فيما يتعلّق بآداب الخطابة وما يجب أن يتحلّى به الخطيب من شروط وصفات ليؤدّي مهمّته على الوجه الأكمل وليكون قدوة حسنة لغيره وخطابه أوقعَ في النفوس وأرجى للاذعان والإتباع. ذلك أنّ الخطيب والواعظ الموفّق قد تلقّى أمانة كبرى عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم وعن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعن أصحابه الكرام الميامين ورضي الله عمّن اهتدى بهديهم أجمعين.

فالواجب على كل من تقلّد هذه الأمانة أن يقدّرها حق قدرها ويراعي واجباتها وآدابها وسننها وأحكامها.

واجبات الخطيب:

  • أوّلا أن يكون عالما فقيها حكيما فيما يلقيه من ترغيب وترهيب من غير إفراط ولا تفريط أي في غير تشديد يؤدّي للتحجّر أو تساهل يؤدّي للتهاون المفضي إلى الانحلال حتّى يؤدّي وعظه إلى الاتّكال أو التنفير.
  • ثانيا أن يخاطب الناس بما يفهمون في لغة سهلة يعيها الخاصّ والعامّ وتدرِك مدلولها الأفهام حتّى لا يفهم المستمع إليها غير ما أراد القائل إذ بهذا تكون الحقيقة قد ضاعت بين القائل والمقول إليه.
  • ثالثا أن يراعي حاجة النّاس وما يقتضيه حالهم فإنّ لكلّ مقام مقالا. ولكلّ زمان مقاصد وآمالا. ولكلّ قوم أحوالا من غير خروج عن أصول الدّين الصحيحة والمقاصد الشرعيّة الواضحة. وأن يستغلّ الأحداث فيجعل منها موضوعا لخطبته.
  • رابعا أن لا يطيل الخطبة في غير مناسبة داعية لذلك اقتداء بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنّ الكلام إذا طال أنسى آخره أوّله خصوصا بين العامّة.

هذا ومن نظر بعين البصيرة إلى مقاماته عليه الصّلاة والسّلام في خطبه الغرّاء علم ما للخطابة من السيادة القعساء والمرتبة العليا. وحيث أنّ الحالة التي عليها الخطابة المنبريّة اليوم تدعو إلى الاهتمام. وأنّ الواجب يدعو إلى إرجاعها إلى مركزها السامي في الإسلام وإلى قيامها برسالة الإصلاح الأخلاقي بأن يمعن في ذكر الفضائل النفيسة ويطوي ما استطاع ذكر المساوي الخلقيّة ويتباعد عن ذكر التّرهات والتحايل حتّى لا تنزع النفوس الضعيفة إلى التعرّف عليهما بعد أن كانتا مجهولتين لا تجولان في خلد السامع من قبل. وتخليص الأرواح مما يضايقها من شُبه وأوهام ويكاد يكون من المتحتّم أن يجزم الخطباء أمرهم ويوحّدوا المناهج والأساليب لإصلاح الخطابة وجعلها متمشّية مع ما تقتضيه الظروف الراهنة من وجوب فتح البصائر ونشر الفضائل وإفهام الحقائق الدينيّة في نطاق التشريع الصحيح. وتجنب الخرافات الباعثة على الجمود والأحاديث الموضوعة. والتعرّض إلى ما لا فائدة فيه للمجتمع البشريّ لا دنيا ولا أُخْرَى. فإنّ التساهل في نقل الموضوع خطره عظيم وفي الأصول الستّة وجوامعِها غنية وهي بحمد الله ميسورة الوجود كالتاج للأصول تأليف الشيخ منصور علي ناصف وتيسير الوصول للشيخ عبد الرحمان بن الربيع الزبيدي ومن أراد النقل عن الجامع الصغير للسيوطي فيراجع شرطه بترك ما يغلب عليه الضعف كالمخرج عن نوادر الأصول والفردوس ونحوهما مما نبّه عليه في مقدّمته وكذلك الإحياء للغزالي على عظيم شأنه لا يُعتمد حديثه وللحافظ زين الدين العراقي مصنَّف حافل في ذلك. ومن المتأكِّد الإكثار من ذكر رحمة الله بعباده وإحاطتهم علما بلطفه حتّى تنفتح القلوب لمناجاة خالقها والتِماس الخير والفضل منه وحده والتوكّل عليه حقّ التوكّل مع تعاطي الأسباب.

والخلاصة أنّ من تصدّر لهذا المنصب العظيم يجب عليه أن يوطن النفس على الأخوة الإسلامية ومعرفة نظام سياسة الأمّة ومكارم الأخلاق والإنصاف من النفس والإخلاص في العمل والوفاء والقيام بالواجب الديني والوطني على أكمل وجه حتّى تحصل الفائدة المقصودة من جمع المسلمين أيّام الجمع وفي المواسم ودعوتهم من أجلها. وقد قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:104].

قال ناصر الدّين البيضاوي «من» للتبعيض لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية. ولأنّه لا يصلح لكلّ أحد. إذ للمتصدّي لذلك شروط لا يشترك فيها جميع الأمّة كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب والدعاء إلى الخير يعمّ الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني ودنيوي.

﴿وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ المخصوصون بكمال الفلاح. ومن خصوصيات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالما بأنّ ذلك المعروف مُجمَع على معروفيّته وأنّ المنكر مُجمَع على إنكاره وإلّا فإنّه قد يفسد الأمر على نفسه وعلى سامعه.

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب:45-47]

وقال تعالى: ﴿وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾[النساء:63]. وقال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء:114]. وقال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ [المائدة:78-79].

والخطيب الواعظ هو القائم بهذا الواجب الديني والخطّة الإسلاميّة السامية والله وليّ الإعانة والمرتجى للتوفيق والسداد والمستعان على إصلاح العباد والبلاد.

 

المصدر: مجلة الهداية، تونس السنة العاشرة، العدد الأول، بتاريخ ذو الحجة 1402/سبتمبر 1982، ص95

 

مقالات مقترحة