أصول نظام سياسة الأمة[1]
القيم الأخلاقية (جزء1)
الإمام الشيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور
عندما تقوّمت الجامعة الإسلامية والتأم المجتمع الإسلامـي بسبب الهجرة إلى المدينة كما تقدم وتأصّلت فيهم الأخوّة بينهم، حان أن تخطّط الشّريعة للمسلمين النظم للمجتمع الإسلامي الكامل بعد أن تقوّمت فيهم حالة كـاملة من الصّلاح الفردي.
وهذه النظم ترعوي إلى فنّين أصليين: الفنّ الأوّل: فنّ القوانين الضابطة لتصرفات النّاس في معاملاتهم. والفنّ الثانـي: فنّ القوانين التـي بها رعاية الأمّة في مرابع الـكـمال، والذود عنها أسباب الاختلال.
فأمّا الفنّ الأول فعماده: مكارم الأخلاق، والعدالة، والإنصاف، والاتحاد، والمواساة (من تحابب ونصح وحسن معاشرة وسماحة).
وأما الفنّ الثانـي فعماده: المساواة، والحرية، وتعيين الحق، والعدل، وحفظ مال الأمّة، وتوفير الأموال، وحماية البيضة (الجهاد والتجارة إلى أرض العدو، والصلح، والجزية) والتسامح، ونشر الدين.
والفنّ الأوّل موكول إلى الوازع الديني النفساني الذي تقدم الكلام عليه في المقال السابق.
والفنّ الثاني موكول إلى تدبير ساسة الأمّة بإجرائهم النّاس على صراط الاستقامة في مقاصد الشريعة بالرغبة والرهبة مثل أكثر الزواجر، ومتى عُلم الاعتداء على الوازع الدينـي وغشيته ضلالة الأهواء أقيمت التعازير لمنتهـكـيه. والرقابة عليهم بالاحتساب، وقد قال عثمان بن عفان:«إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».
[الأصل الأوّل: القيم الأخلاقية للنّظام السياسي في الإسلام][2]
أعمدة هذا الفن حقائق هي واسطة بين ما يـُطلب من المسلم الاتسام به في خاصته ليكون جزءا صالحا من تركـيب مجموع الأمة وتلك مباحث القسم الأول، وبين ما تتولى وُلاة الأمور تسييره وتحقيقه لصلاح الجمهور، وتلك مباحث الفن الثاني الموالي لهذا فكانت حقائق هذا الفن مما يقوم به الناس، ولـكن يشرف على تحقيقها ولاة الأمور إشرافا بطريق الاحتساب والمراقبة.
فمباحث هذا الفن تبحث عن حقائق من حسن السلوك والسيرة في معاملة أفراد المسلمين بعضهم بعضا من قريب وبعيد. ومعاملتهم من لا غنى لهم عن مخالطتهم من أهل الأديان الأخرى من الأمم الممتزجة بهم أو المجـاورة أو المعاصرة.
وكـلها نتائج منبثقة من الحقائق التي تقدمت مباحثها في القسم الأول وممهدة للحقائق الآتية في مباحث الفن الثانـي عقب هذا.
مكارم الأخلاق[3]
لا يكاد ينتظم أمر الاجتماع كمال انتظامه، ولا ترى الأمة عقدها مأمونا من انفصامه، ما لم تكن مكارم الأخلاق غالبة على جمهورها، وسائدة في معظم تصاريفها وأمورها؛ لأن ملاك مكـارم الأخلاق هو تزكية النفس الإنسانية؛ أعنـي ارتياض العقل على إدراك الفضائل وتمييزها عن الرذائل الملتبسة بها، وارتياضه أيضا على إرادة التحلي بتلك الفضائل وعدم التفريط في شيء منها لاعتقاده أن بلوغ أوج الكمال لا يحصل إلا بذلك التحـلي، وارتياضه على العزم على تسيير آلات العمل الإنسانية عـلى مقتضيـات ذلك الإدراك وتلك الإرادة وذلك العزم، وعلى أن يأمر تلك الآلات المسماة بالجوارح فتكون اندفاعاتها إلى وظائفها العملية عـلى نحو ذلك الإدراك وتلك الإرادة وذلك العزم.
هذا الارتياض هو أدب النفس الإنسانية وبلوغها إلى أقصى الفضائل المكنونة في فطرتها كما أن سياسة الفرس ورياضته هي بلوغه أقصى المحاسن التي يبلغها نوعه.
وهذه الفضائل غايتها إبلاغ النفس الإنسانية إلى أرقى ما خلقت له فأودع الله فيها العقل لأجل بلوغ ذلك الارتقاء. وهذه الغاية هي إبعاد تصرف نفس الإنسان عن همج الحيوان؛ ولذلك لما ذم الله تعالى الذين لم يتخلقوا بخلق الإنسان قال: {لَهُم قُلوبٌ لا يَفقَهونَ بِها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسمَعونَ بِها أُولـئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولـئِكَ هُمُ الغافِلونَ} [الأعراف: 179]. وقال في آية أخرى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] فـكونهم كالأنعام ظاهر في ما يصدر عنهم من المساوئ، وكونهم أضل سبيلا يظهر في أنهم يستطيعون بلوغ مساو لا يبلغ إليها الأنعام بما يقدر عليه الإنسان من حيلة لإتقان باطله وترويجه، وبأنّ لهم عقولا من شأنها أن تصدهم عن المساوئ ولم تكسبهم ذلك الصد. فكان الحيوان معذورا فيما يصدر عنه بالجبلة والإنسان غير معذور في صدور مثل ذلك منه.
ثم إن الحيوان نفسه يفوق بعض أنواعه بعضا بمقدار قربها من الإنسان في التعقل والفهم أو في حسن الأثر بما فطر عليه بعض أنواع الحيوان من الذكـاء مثل: الفرس والفيل والكلب والبازي، أو بما فطر عليه بعض أنواعه من البساطة التـي أفادته حسن عمل مثمر مثل: الشاة والبعير.
فالمقصود من مكارم الأخلاق حصول الدربة بالتدريج على ملاحظة الوصايا والإدراكات بالفضائل ملاحظة مستمرة في كل الأعمال والأحوال والأكوان حتى يحصل في تلك الدربة إلف بها وجفاء لأضدادها. بحيث إذا عرضت للمتخلق بها شهوة وميل إلى فعل أضدادها لم يطاوعه إلفه القديم بتلك، وجفاؤه القديم أضدادها على إتيان تلك الأضداد، وعسر عليه إتيانها فترك شهوته العارضة لشهوته المتأصّلة وذلك هو حكم المحبة.
ولنضرب لك مثلا في ذلك بخلق الحياء وهو أكثر أصناف مكارم الأخلاق انتشارا بين البشر المتمدن؛ فإنه يصرف المتخلق به عن لذات كثيرة مشتهاة صرفا ملاكه عدم استطاعته خرق معتاد الحياء فلا جرم أنه في حالة إعراضه وانصرافه عن المشتهيات قد آثر ما يأمر به الحياء على ما تأمر به الشهوة مع أن الشهوة أقوى دوافع الإنسان إلى العمل، وقد أشار إلى هذا ما روي في الموطأ وصحيح البخاري عن أبـي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ ممّا أدرك النّاس من كـلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فـاصنع ما شئت». وفي الموطأ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لـكلّ دين خلق وخلق الإسلام الحياء».
فإذا علمت هذا علمت أن ذلك الإدراك الذي أشرت إليه هو العلم الصحيح وقوامه صحة التفكير كما قدمته. وإن الإرادة والعزم والأمر بالسير على مقتضاها يتـكـون من مجموع ثلاثتها إصلاح العمل. ولنا أن نأخذ هذا الترتيب من قوله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿8﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10]([4]).
فإذا بلغت الأمة إلى غاية حلبة مكـارم الأخلاق على جمهورها. وسادت تلك المكارم في معظم تصاريفها زكت نفوسها، وأثمرت غروسها، وزال موحشها وبدا مأنوسها. فحينئذ يسود فيها الأمن وتنصرف عقولها إلى الأعمال النافعة وتسهل الألفة بين جماعاتها فتكون عاقبة ذلك كله تعقلا ورفـاهية وإنصافا من الأنفس فينتظم المعاش. ولم يُخَفْ تلاش.
إذ لا تغني القوانين المسطورة والزواجر الموقورة غَناء مكارم الأخـلاق، إذ الأمة التـي لا تتهذب أخلاقها يلاقي ولاة أمرها في سياستها عرق القربة([5]).
ويضجرهم سهر عيونهم على إقامة تلك القـوانين وتتبعها في مكامن أحوال الاجتماع وكـفى بذلك صارفا لعقول أرباب العقول من قادة الأمة عن الجولان في أنحاء مصالحها بشواغل العلاج لأمراضها الاجتماعية، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إحدى خطبه يخاطب الجيش الذي معه([6]) «لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيظا وجرّعتمونـي نُغَب التَّهْمام أنفاسا([7])، وأفسدتم عليّ رأيـي بالعصيان والخذلان».
وبمقدار تكاثر الحاجة إلى إنفاذ الزواجر والتعازير تتبرم العامة من ولاة أمورها، ويحدث في نفوسها كراهية الحكم والحـكـام، وتمتلئ السجون بالمردة وتصرف آراء القادة عن جلب المصالح بما يضيع من أوقاتهم في درء المفاسد وربما كانت عاقبة ذلك ثورات داخلية مثلما ظهر في الدولة اللمتونية بالأندلس والدولة العبيدية بالقيروان.
وإن تساوي الأمة في الاتصاف بمكارم الأخلاق واتسامها بميسم الفضائل النفسانية الحقة في معظم أحوالها أو سائرها هو مكون عظمة الأمة وانتشار سمعتها وتحديق عيون الأمم إلى الاقتداء بها والأخذ من آدابها وفضائلها؛ فإن الفضائل مغبوطة وللناس انحياز إليها بدافع من أنفسها لا تستطيع معاكسته. وذلك يكسب الأمة عظمة السلطان ويجر كثيرا من الأمم التي ترى أنفسها دونها إلى الاغتباط بالانتماء إليها وأخذ تعاليمها، وذلك يجعل لها سلطانا نفسانيا على من يتعرف بها من الأمم لا يلبث أن ينقلب الى سلطان جثمانـي وأن يذيب بقوته سلطان الذين انحازوا إليها في سلطانها، على أنه يلين لها الأمم المعادية قال الله تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿٣٤﴾ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35،34].
وإذ قد كـان مراد الله تعالى أن يعم دين الإسلام جميع البشر في كل قطر وكل عصر وأن يكون الوسيلة الأخيرة لإصلاح البشر في جميع أحواله إصلاحا يمكن دوامه واطراده. وأن يكون الذين يتلقونه ابتداء حملة هذا الإصلاح ودعاته إلى سائر الأمم، لا جرم كان مراده تعالى أن يتسم المسلمون بميسم مكارم الأخلاق لتكون أقوالهم وسيلة إلى قبول دعوته لدى غير المسلمين، ولتكون مظاهر أعمالهم في مرأى أعنين المدعوين قدوة صالحة، قال الله تعالى مخاطبا رسوله صاحب الدعوة ومنبها لدعاة أمته:{ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ} [النحل: 125] وهل يكون ذلك إلا من حسن الخلق، وقال مخاطبا لعموم دعاة الأمة:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] لذلك كان تهذيب الأخلاق من أصول نظام الاجتماع في الإسلام؛ لأن به تهيئة أفراد الأمة لأن تكون منهم جامعة صالحة، ألا ترى أن مثال تمام مكارم الأخلاق وهو رسول الله الذي قال الله تعالى في خطابه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4] . لما سئلت عائشة عن خلقه قـالت: «كـان خلقه القرآن» وهي كلمة جامعة يؤول معناها إلى أنك إذا عرضت أيّة آيـة من آي القرآن الواردة في خلق حسن وعمل صالح وتأملت من سيرة رسول الله في الناحية الوارد فيها القرآن، وجدت سيرة رسول الله مطابقة لما تضمنه القرآن. فالقرآن إذن هو جامع مكارم الأخلاق والرسول هو مظهر تلك المكارم، والقرآن ورد آمرا الأمة تفصيلا أن تعمل به وآمرا لها إجمالا أن تقتدي برسولها،إذ قـال الله تعالى:{لّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21] فلا جرم علمنا أن الإسلام هومكارم الأخلاق، وجماع مكـارم الأخلاق يعود إلى التقوى ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
ويؤيد هذا المعنى ما في الموطأ: قال مالك: إنه بلغه أن رسول الله قال:«بعثت لأتمم حسن الأخلاق» (وبلاغات الموطأ لها حكم الأحاديث المرفوعة. وقد رواه أحمد والحاكم في المستدرك والبيهقـي في السنن بلفظ:«بعثت لأتمم صالح الأخلاق» بأسانيدهم عن أبـي هريرة مرفوعا).
ثم لقد عُرف الإسلام بـكـونه آمرا بمكارم الأخلاق ومؤثرا في أخلاق أتباعه تهذيبا وكرما وحسنا من أول أزمان ظهوره، ومن شواهد ذلك ما جاء في حديث هرقل قيصر الروم مع أبـي سفيان ومن معه من قريش أيام كانوا تـجارا بايلياء، وقد وفد هرقل إليها فسأل هرقل أبا سفيان عن رسول الله وما يأمر به فقال أبو سفيان: يأمرنا بالصدق والعفاف والصلة – فقال له هرقل – إن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين. ومن شواهد ذلك أن المسلمين الأولين لما هاجروا إلى الحبشة وأرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبـي ربيعة في طلبهم من عند النجاشي سلطان الحبشة، أحضر النجاشي من عنده من المسلمين وسألهم عما يدعوهم إليه رسول الله فتكلم جعفر بن أبـي طالب فقال: «وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والـكـف عن المحارم وقول الزور» وعدّد له أمور الإسلام.
ومن شواهد ذلك أنه قد تسامع به العرب في باديتهم وعلموا أن الإسلام هو كـمال الأنفس وصفاء الأخلاق، وقده أفصح عن ذلك أبو خراش الهذلي([8])بعد أن أسلم بقـوله:
فليـس كعهـد الـدار يـا أمّ مالك ولـكـن أحاطـت بالرقاب السلاسل
وعـاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
فـكنى بقوله «أحاطت بالرقاب السلاسل» عن تقيد المسلمين بأحكـام الإسلام؛ لأنها تكفهم عن الاسترسال مع الهوى وبذلك فسره الشيخ عبد الحق بن عطية ويؤيده البيت الثاني.
إن أعظم ما بنـي عليه الإسلام دعوته إلى مكـارم الأخلاق وتهذيبها هو العناية بتربية النفس وإكمالها وتدريبها على متابعة الهدى والإرشاد الذي يشهد العقل السليم بحقيقته وصلاحه ونفعه؛ فذلك الإرشاد يتلقاه المسلم من الهدى الديني المعرب عن الإرشاد المعصوم عن الخطأ. والمبدأ في هذا هو حكم الفطرة والتجرد عن الضلالات الملصقة بأحوال البشر في عصور الظلمات والتـي جاهد الرسل والأنبياء والحـكـماء نفوس مريديهم لاقتلاعها فاقتلعوا منها ما ساعدت أحوال الجامعة البشرية على اقتلاعه بحسب خصوص الدعوة وتباعد التعارف وتعاصـي المدعوين وعدم استتباب وسائل نفوذ الدعوة. وبقي متعلقا بها كثير من الضلالات، والحجب عن الرشد كانت كالحبة الحمقاء لا تلبث قليلا حتى تعود إلى الاستيلاء على البذور الصالحة فتذويها وتمتلك مواقعها. إلى أن جاء الإسلام وتهيأ له من التيسير الإلهي ما أزال الموانع المعترضة في وجوه الدعاة الصالحين من قبله فاجتثت بقايا تلك الضلالة من أعراقها. ومزق تلك الحجب وفصلها عن أعلاقها، فذلك مصداق الإتمام الواقع في قول رسول الله: «بعثت لأتمّم حسن الأخلاق».
وإذا تأملت التربية الشرعية وجدتها جاثمة حول التنبيه على الفضائل الحقة متميزة عما يخامرها من المساوئ المستترات في أشكال الفضائل حتى لا يكون الخير الملائم الذي في بعض الرذائل ملبسا إياها لدى الأوهام الضئيلة بخيرات الفضائل، وهذا التنبيه قد يكون بوجه إجمالي وهو النهي والوعيد وقد يكون بوجه تفصيلي وهو إظهار ما في الأعمال من المفاسد الملحقة مضارَّ بجُـناتها، كما في قوله تعالى في شأن إبطال الثارات: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 179] أو إظهار ما في تلك الخيرات التي تلوح في بعض الأفعال محفوفة بشرور عظيمة كما في قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}[البقرة: 219]وقوله تعالى في الرد على المشركين حين أنكروا على المسلمين مقاتلتهم في الشهر الحرام:{وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّـهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}[البقرة: 217].
وللإعانة على اندفاع النفوس إلى الخير وعلى تسلي أصحاب الخير فيما تجره مخالفة تلك الفضائل من فوات لذات كثيرة تحصل للمتلبسين بأضداد خيراتهم، أقام الله بحكمته نظام الجزاء في العالم الأخروي ونبه عليه بالوعد والوعيد كما قال الله تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد: 10]– أي: طريقي الخير والشر- {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11]أي: لم يجتشم الإنسان سلوك سبيل الهدى الذي هو لصعوبة إتيانه يشبه عقبة يعسر السير فيها لتوصل إلى المبتغى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿12﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿13﴾ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿14﴾ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿15﴾ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿16﴾ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴿17﴾ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿18﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴿19﴾ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} [البلد: 12-20].
فالإسلام يفضُل ما سواه من الشرائع والدعايات بأنه أقام مبانيه على أساس جميع الفضائل الحقة دون الوهمية، وبأنه سعى إلى بث تلك المبانـي بين جميع الأمم سواء كان بثه ذلك بتعليم متبعيه أم كمان بإبلاغه إلى غير متبعيه بدعوته للأمم المخالطة، وبسمعته فيما بين الأمم البعيدة، وبكيفية إلقائه تلك الفضائل في نفوس الأمة كما وصفنا.
وبمبانيه الفاضلة وسرعة اعتلاقها بالنفوس لما أنها حقائق تشهد بها الفطرة السليمة أصلح العرب الذين كانت دعوته بينهم ابتداء فيهيئهم إلى المسير بدعوته في أنحاء العالم المتمدن وامتزاجهم بها في أممهم فأصبح العرب أمّة سياسة وسلطان وتعمير في الأرض، وغطّى تخلقهم بأخلاق الإسلام على ما كان فيهم قبل الإسلام من المساوئ التي لم تخوّلهم – وما كانت لتخوّلهم – سياسة الأمم بله سيادتها فكان لهم بذلك النفوذ العظيم على الأمم أن صاروا زعماء الأمم التـي أدخلوها في الإسلام من فرس وروم وبربر وأصبحوا إكـليلا للجـامعـة الإسلامية ودام لهم ذلك ما كانوا دائبين على إقامة تلك الأخلاق الإسلامية الخالصة، فلما دبّ إليهم تحريف تلك الفضائل واقتنعوا من الإسلام بالصورة الظاهرة دب إليهم الانسلاخ عن تلك الأهلية التـي نالوها في الإسلام وأخذت حمأة بعض المذمات القديمة تنبع فيهم بمقدار ما نزعوا من إسداد الأخلاق الإسلامية السادّة لتلك المنابع الحمئة.
جعل الإسلام الاتصاف بمكارم الأخلاق حقّا على الولاة والهداة والرعايا كل فيما يخصه من الأفعال المتعلقة بالإسلام أو بمعاشرة المسلمين أو بمعاشرة غير المسلمين من الأمم، أو بالتصرف في الحيوان المسخر للبشر.
فعلى أمره ولاة الأمور بذلك شواهد: منها قوله تعالى خطابا لرسوله عليه الصلاة والسلام: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر» فمنّ على المسلمين بلين خلـق رسوله الذي هو ولي جميع أمورهم وجعل ذلك سببا لسرعة نفوذ أمره فيهم ولاجتماعهم حوله، وأمره بمعاملتهم بالعفو والدعاء بالصلاح واستجلاب خواطرهم بالشورى أي: التشريك بالرأي في مهمّ الأمور.
إن مظهر مكارم الأخلاق ومحامد الخلال هو تصرف المرء في أفعاله وسلوكه ومعاملته الناس وفي حسن أقواله ومجادلاته. وقد جاءت آيات كثيرة وأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها تحث على محامد السجايا ومحاسن الأفعال والأقوال، والنهي عن مساويهما وجلافتهما، وتـكريه مذام أفعال الجاهلية وجهالة أقوالهم وفي تفصيلها تطويل وهـي طوع المُراجع المتدبر.
روى مالك في الموطأ عن معاذ بن جبل قال: آخر ما أوصانـي به رسول الله حين وضعت رجلي في الغرز([9]) أن قال: «أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل».
وأما أمره بذلك لهداة الأمة فشاهده الآية المتقدمة وقوله تعالى:{وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ}[النحل: 125] وقوله تعالى فيما قص على المسلمين في حديث موسى وهارون:{اذهَبا إِلى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغى ﴿43﴾ فَقولالَهُ قَولًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشى} [طه: 43-44].
وأما أمره بذلك للرعية فشواهده كثيرة منتشرة وأوضحها حديث معاذ بن جبل أن رسول الله قال له: «اتق الله حيث ما كـنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» وفي الحـديث «إن أحبكم إليّ وأقربـكـم منـي مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويُؤلفون([10])» وفي الحديث عن أبـي هريرة أن رسول الله قال:«إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولـكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق([11])».
وأما أمره بذلك في معاشرة غير المسلمين فذلك ما نسميه بالتسامح وسنؤخر الكلام عليه في مبحث خاص، وأما أمره بذلك في معاملة الحيوان، فقد قال ابن العربـي في القبس على موطأ مالك بن أنس: الإحسان إلى البهائم أصل في الدين حتى في ذبحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة». وفي جامع الموطأ عن أبـي هريرة أن رسول الله قال: «بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب وخرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الـكـلب من العطش مثل الذي بلغ منـي فنزل في البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له» فقالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا؟ فقال: «في كـل ذي كبد أجر». وفي حديث الصحيحين: أن امرأة دخلت النار لأجل هرّة حبستها حتى ماتت جوعا لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، وفي الحديث الصحيـح النهـي عن قتل البهائم صبرا.
أمّا ما يروى من الأمر بقتل الكلاب فهو منسوخ على الصحيح أو هو في كلاب مصابة بداء الكلب. وقد أذن في اتّخاذ كلاب الحراسة والصيد.
[1] ) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 114 ـ 115.
[2] ) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام (القوانين الضابطة لتصرفات الناس في معاملاتهم): 116 ـ 124.
[3] ) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 115 ـ 116.
([4]) معنى زكاها أنماها وأكملها أي: أبلغها الكمال بالعلم الصحيح والعمل الصالح الجاري على مقتضى العلم؛ فإن التزكية مشتقة من الزكاء وهو النماء، ثم أريد بالتزكية تطهير النفس من الرذائـل؛ لأن ذلـك التطهير تطهير معنوي لا يحصل إلا بمجموع الإنماء بالعلم والعمل، ومعنىدساها ضد معنى زكاها أي: نقصها وأصله من الدس وهو الإدخال؛ لأن غالب التنقيص في المحسوسات يكون بإدخال آلة لعلاج انقطاع الأمر المنقوص.
([5]) هذا من الكنايات المشهورة يكنى بها عند الشدة والمشقة حتى جرت مجرى المثل يقال: لقيت من كذا عرق القربة بكسر القاف: المزادة التي يجلب فيها الماء، والمراد عرق حامل القربة.
([6]) هي الخطبة المذكورة في صفحة 44 من نهج البلاغة بتعليق الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده طبع المطبعة الأدبية في بيروت سنة 1307هـ.
([7]) النغب جمع نغبة كجرعه وزنًا، ومعنى التهمام بفتح المثناة الفوقية مصدربمعنى الهم وأنفاسا جمع نفس بفتح الفاء أي:جرعتمونيها مع الأنفاس.
([8]) هو خويلد بن مرة الهذلي فارس شجاع وعداء وشاعر فحل صحابي أسلم وهو شيخ كبير وتوفي في خلافة عمر بن الحطاب وشعره مثبوت في دواوين الأدب وديوان الحماسة وديوان الهذليين.
([9]) الغرز بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعدها زاي وهو ركاب من جلد يعلق في رجل البعير ليرتقي به الراكب فهو بمنزلة الركاب من السرج، وذلك عندما ركب معاذ ليرحل إلى اليمن حين عينه رسول الله أميرا وقاضيا لليمن.
([10]) في هذا الحديث روايات إحداها: الاقتصار على قوله «أحاسنكم أخلاقا» رواها ابن حيان وأحمد بن حنبل والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي ثعلبة الخشني والطبراني أيضا عن ابن مسعود. الثانية: «إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا الموطئون..» إلخ رواها ابن أبي الدنيا عن أبى هريرة. الثالثة: «ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم خلقا» رواه أحمد بن حنبل عن عبد الله بن عمر وله بقية في الرواية الثانية التي اعتمدتها لم أذكرها هنا لعدم تعلقها بمبحثنا وهو حديث حسن في قوة الصحيح.