أغراض القصص والأخبار في القرآن
الأستاذ المحقّق الشيخ محمد البشير النيفر
القصص والأخبار من علوم القرآن الحكيم، ولذكرها فيه فوائد:
منها قيام الحجّة على أهل الجحود والعناد في رسالة النّبيء صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه لم يكن يتلو كتابا، ولا يصاحب من يتلو، ثم جاء النّاس بكتاب يقصّ عليهم أنباء الأوّلين وسيرهم بالحق، ويهدي مع هذا إلى ما فيها من ضروب العظة والاعتبار وسنن الله تعالى، وغير ذلك من القواعد الصّحيحة للعمران والاجتماع. وقد يشير إلى هذه الفائدة بعض آیات القصص كقوله تعالى بعد قصّة طالوت وجالوت: (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [البقرة: 252]، فتذييل القصّة بهذه الجملة: (وإنّك لمن المرسلين) إشارة ـ والله اعلم ـ إلى أنّ ذكر مثل هذه القصّة آية بيّنة على رسالته صلّى الله عليه وسلّم.
وأظهر من هذه الآية في تنبيه الأذهان إلى هذه الفائدة، قوله تعالى بعد قصّة مريم عليها السّلام: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)[آل عمران: 44]، وقوله تعالى بعد أن قصّ ما قصّ من نبأ موسى عليه الصّلاة والسّلام: (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)[القصص: 44 ـ 45].
ومنها الاعتبار بما فيها من ضروب الهداية والإرشاد الإلهي. وممّا ينتظم في هذا السّلك تأسّي نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم بالرسل الذين من قبله كيف كان شأنهم مع الأمم وشأن الأمم معهم، ثم كانت العاقبة لهم، وحقّت كلمة الله عزّ وجلّ على من كذّبهم وناوأهم، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].
وقد ختم الله سورة يوسف عليه الصّلاة والسّلام بقوله: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ) الآية [يوسف: 111]. فهدانا إلى الاعتبار بهذا القصص الصّادق.
حسبنا ما ذكرنا من الفائدتين للقصص القرآنية. وبعد هذا نأخذ في التنبيه على شأن من شؤونها في القرآن الحكيم.
ذلك أنّ منها ما يكرّر فيه، ومنها ما لا يُذكر إلاّ مرة واحدة.
فمن الأوّل: قصّة آدم عليه الصّلاة والسّلام، ذكرت في القرآن سبع مرات، وقصّة موسى عليه الصّلاة والسّلام مع فرعون كرّرت فيه أيضا.
ومن الثّاني: قصّة طالوت وجالوت، وقصّة ابني آدم، وقصّة موسى والخضر عليهما السّلام.
ألا لا تُضِلّك الأوهام الباطلة، فتذهب إلى أنّ ما كُرّر في القرآن من القصص كرّر لغير فائدة، فإنّ الله وعظ بهذه القصص وذَكّر، والشّيء كلّما تكرّر تقرّر.
أليس في تكرار قصّة آدم عليه الصّلاة والسّلام ما يبعث التّالي ـ بتوفيق الله وعنايته ـ على أخذ الحذر من إبليس وقبيله؟
أليس في تكرار قصّة موسى عليه الصّلاة والسّلام مع فرعون ما يثبّت فؤادك على الاعتقاد بما له عزّ وجلّ من العناية بالحقّ وأهله، وأنّ دولة الباطل وإن طال عمرها إلى زوال.
أمّا قصّة موسى والخضر، فليس لموضوعها من الخطارة مثل ما لقصّة آدم أو قصّة موسی وفرعون، فلذا لم تذكر إلاّ مرّة وان جاء فيها من ضروب العظة والاعتبار ما سنمرّ ببعضه[efn_note]هذا المقال مقدمة للمؤلف في شرح حديث موسى والخضر عليهما السّلام.[/efn_note] إن شاء الله تعالى. وتلك سنّة القرآن في كلّ قصة، وقد سبقت الإشارة إليه.
ولك أن تنتزع ممّا ذكرنا في فائدة تكرار القصة الواحدة بالكتاب العزيز فائدة تكرار الحديث الواحد في كتاب من كتب الحديث الشّريف، كالحديث الوارد في قصّة موسى والخضر عليهما السّلام، أخرج هذا الحديث الإمام البخاري في أكثر من عشرة مواضع في صحيحه، منها موضعان في كتاب العلم:
ترجم أولهما بقوله: “باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام” وهو يشير بهذه التّرجمة إلى أن من فوائد الحديث الرّحلة في طاب العلم.
وترجم الثاني بـ”باب ما يستحبّ للعالم إذا سئل أيّ النّاس أعلم فيكل العلم إلى الله” وهو يشير بهذه الترجمة إلى ما ينبغي أن يكون عليه العالم من ردّ العلم إلى الله تعلى.
وأخرجه في كتاب التّفسير، وكتاب قصص الأنبياء، وغيرهما.
وذلك كلّه لما تهبه لك هذه القصّة من الفوائد المختلفة، الّتي أحلتها من عناية الإمام البخاري بالمكان المكين، فكان يذكرها مرّة بعد أخرى. ولقد كان له في كتاب الله أسوة حسنة.
المجلّة الزيتونية، م1، ج1، ص21.