إسلامية البيئة وحضارة العصر حتميتان لسلامة هذا الجيل

الشيخ عبد الرحمان خليف[1]

 

من خصائص الإنسان أنّه يتأثّر ويؤثّر، وبمقدار انجذابه إلى المؤثر يشتدّ تأثرُه به، وما عهد الناسُ انجذابا أعظم من انجذاب الوليد إلى أبويه، ولا أشدَّ تأثيرا منهما فيه.

ومهما يكن تأثر الولد بغير أبويه، ومهما تتكاثف روافد المؤثرات فيه على مدى حياته، فإنّ كثيرا من تصرفاته تبقى مطبوعة بطابع أبويه حتى يفارق الحياة. فالولد نسخة من أبيه ما في ذلك شكّ؛ إذ إنّه ينظر إلى الكثير من بواطن الأمور بنظرته، ويقدرها بتقديره، ويترسّم الكثيرَ من خطواته في دروب الحياة، تقليدا موروثا لا عن وعي ولا تفكير.

(ويَنشَأ ناشئ الفتيان فينا   على ما كان عوّده أبوه)

والولد يولد على الفطرة، وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه”.[2]

ثمّ إنّ الولد قد يعمد- لسبب ما – إلى تعديل ما ورِثه من عقائدَ أبويه أو أفكارِهما أو ميولِهما، ولكن بصمات ما ورِثه عنهما تبقى شاهد إثبات لصلته المكينة بأبويه، ولو أنّ تلك البصمات قد تخفَى على من لا قدرة له على الإدراك الحصيف.

والمدرسة وما تفتحه للناشئ من آفاق المعرفة ونوافذ الاستبصار، تأتي في المرتبة الثانية بعد البيت، إذ كان البيت حريصا على تثبيت قيم معينة في أعماق شخصية الناشئ وبنائه نفسيا.

وبمقدار تخلّي البيت عن هذه المهمة يكون استئثار المدرسة بإعداده وتكوين شخصيته على النحو الذي تريده.

وقد يقوم كل من البيت والمدرسة بصياغة شخصية الناشئ على صورة معينة، ويتفقان على نفس الشكل وأبعاده المختارة لتلك الصورة، ولكن هذا الاتفاق قلّما يتحقق الآن، لأنّ كلاًّ من البيت والمدرسة أصبح عرضة لوابل من التيارات التي تتميز في هذا العصر بكثرة تنوعها، وقوة تأثيرها، وخفاء نتائجها، إلى حدٍّ يجعل النتائج الضارة لا يكاد يتبينها الكثيرون إلا بعد استفحال ضرَرِها وتعذُّر تلافيه.

ولا شكّ في أنّ الخطر يتفاقم بمقدار التخلخل الحاصل في القوة الروحية لكل من البيت والمدرسة.

فإن عجز البيت عن أداء مهمته أو تغافل عنها، وأصبحت المدرسة تفيض بالمتناقضات، فقدَ الناشئ ما يميّز شخصيته من الملامح الثابتة، وعاش على التمزّق النفسي، ودفَعه الضعف والتمزق إلى التيارات الوضيعة خارج البيت والمدرسة توهّمًا أنّ تلك التيارات هي المجال الأوفق لاغتنام فرص الاستمتاع بالحياة، وإشباع الرغبات، وتحقيق الأحلام بكل ما تمليه الأنانية الطاغية، مستعينا في كل ذلك بما قدمت له المدرسة من المعارف الآلية، ومستغلا ما يوافق هواه من متناقض النظريات.

إنّ النسبة الهائلة من النشء الإسلامي اليوم تراخى تمسّكُها بالقيم الإسلامية في معظم الشعوب التي تدين الآن بالإسلام، وأعتقد أنّ ذلك ناشئ عن عدة عوامل، في طليعتها: تخلّي البيت عن أوكد واجباته، وتحوّل المدرسة عن مهمتها الأولى كليا أو جزئيا، إلى جانب غفلتها عن تسرّب ما يكيد في داخلها للقِيم العالية تسرّبا وقع التخطيط له خارج بلاد المسلمين بعناية، ومع مرور الزمن تضافرت على تحقيق أهدافه الجهود من داخل البلاد الإسلامية ومن خارجها، وإنّ أعجب ما في هذا التخطيط هو تنوع ما اعتمده المخططون من وسائل الكيد للإسلام، وارتفاع الخطوط البيانية لفائدتهم باطّراد، وبراعتهم في استغلال جميع نقط الضعف التي تلوح لهم في الناشئة المسلمة، وهكذا سقطت الأفواج المتلاحقة من النّشْء الإسلامي فريسة بين يدي من أضلوه ، وعجز عن تخليصه من أضاعوه.

إنّ أخطر ما يمزّق الناشئة المسلمة الآن هو ما انطبع في أذهانهم من تصورات خاطئة عن الإسلام. وهذه التصورات المشوّهة رسَم خطوطَها دهاةُ الحاقدين على الإسلام، فنشرها بين ناشئتنا كل عميل مفتون، وأعلن عنها كل ببغاء أحمق، واقتبسها كل جاهل تبيع.

وإنّ الموقف يدعو ـ ولو مع تحسين الظن- إلى استغراب حال المساهمين في عرض الصورة المشوهة للإسلام والإعلان عنها، فَهُم إلى جانب تقصيرهم في البحث عن الصورة الحقيقية للإسلام، يتمسكون بتَرداد ما يسمعون عنه من أعدائه، حتى إذا كان ما سمعوه مدفوعا بأدنى قدْر من الانتباه، ولا تستسيغه أضعف العقول.

إنّما يعرضه أولئك المزيِّفون لحقيقة الإسلام يتمثل في مجموعة من المغالطات، ومن أكثرها دَورانا على ألسنتهم أنّ الإسلام لا يواكب هذا العصر، ولكن هذه الدعوى لا تنهض لأصحابها بحال، لأنّهم يحكمون على الإسلام ولا يتصوّرون تعاليمه، وليست لهم أدنى صلة بمعرفتها وإنما يرددون ما قاله بعض قدماء المستشرقين وأحفادهم، ولأنّ أي نظام لا يُحكم عليه بالفشل إلا عند تجربته. ولقد قام الإسلام بدور هو أنبل وأسمى أدوار تاريخ الإنسانية، عندما برزت تجربته الشاملة لكافة جوانب الحياة، ولمّا تخلّى المسلمون شيئا فشيئا عن الكثير من تعاليمه اختل توازن مجتمعاتهم، وبدا عليها الشحوب والضمور والوَهَن، وكأنه هذا الاختلال أمرا محتوما عليها، لأنّ كل جهاز ـ ذي دواليبَ تفاعليةٍ ـ لا يؤدي مهمته على أكمل الوجوه إذا تعطلت بعض دواليبه، كذلك الشأن في تعاليم الإسلام إذا أزيح بعضها عن حياة المسلمين، فكيف نتّهمه بالتقصير في إصلاح المجتمعات الإسلامية وعجزِه عن مواكبة حضارة العصر ما دام الكثير من تعاليمه معطًّلا عن قصد أو عن غفلة أو جهل، وما أصدق “معروف الرصافي” رحمه الله إذ يقول: ( يقولون في الإسلام ظلما بأنّه يصدّ ذويه عن طريق التقدم، فإن كان ذا حقا، فكيف تقدمت أوائلُه في عهدها المتقدم). وما من شكّ في أنّ ناشئتنا مظلومة في قسوة أحكامنا عليها وإدانتِها إدانة مطلقة، لأنّ ارتياب قسمٍ منها في ملائمة تعاليم الإسلام لروح العصر، إنّما انجرَّ له ممّا عانته من إهمال وإضلال.

… ثم ماذا؟

ماذا ينبغي للعودة بالنشء إلى تذوق حلاوة هذا الدين، على غرار ما تذوّقه منه مصعب بن عمير، وعمار بن ياسر، ومعاذ بن عفراء[3]، وأخوه معوّذ، ونظراؤهم من طلائع شباب الإسلام؟

إنّ هذا الأمل كثيرا ما يقال ماهو إلا ضربا من الخيال، لأنّ اليد التي صاغت تلك النفوس كانت تتميز بأنّها لا تحرّكها الأغراض الذاتية ولا تصدها عن تلك الصياغة العالية أيّةُ مخاوف، ولا تتردّد في تقدير قيمة النتائج، وهي مع كل هذا لا نساء يصنعها الضنون. صحيح أنّ خيرَ القرون قرنُه صلى الله عليه وسلّم ثم الذين يلُونهم ثم الذين يلونهم.

ولكن خَيريّة القرون الأولى لا تصدّ المخلِصين للإسلام أن يبحثوا عما يقرّب النشء من الكمال الإسلامي بقدْر ما تتسع له الطاقات، وأن يبصِّروه بتعاليم الإسلام على صورتها الحقيقية المضيئة، وبأهدافه النبيلة الرائعة، ليدرك من وراء ذلك أنّ سعادته في الدارين تتوقف على شيء واحد، هو أن يصوغ حياته على منهاج هذا الدين.

إنّ إدراك النشء لتعاليم الإسلام إدراكا واعيا لا بدّ أن يحمله على إكبار مبادئه، وعلى اعتزازه بالتمسك بها، وعلى صموده وتصدّيه لكل محاولةٍ ترمي إلى زحزحته عنها، ذلك لأنّ أروع ما في مبادئ الإسلام أنها تؤهل الإنسان إلى أعلى مراتب الكمال الإنساني، إذ إنّ نبي الإسلام يوجه المسلمين إلى أعلى مراتب الكمال الإنساني، إذ إنّ نبي الإسلام يوجه المسلمين إلى أعلى الكمالات، فيقول صلى الله عليه وسلم:

” ليس شيءٌ خيرا من ألفٍ مثلِه إلا الإنسانَ” [4] ولا نعجب من الطموح الإسلامي في هذا التوجيه الرائع ما دام الخالق سبحانه قد أعدّ في الإنسان استعدادا عجيبا لمواصلة الارتقاء، فلو تعلقت همة الإنسان بما في السماء لناله، وبمقدار تفاوت همم البشر تفاوتت قيَمهم ومراتبهم تفاوتا شاسعا جدا، مع أنّ سائر الموجودات الأخرى يتضايق ما بين مراتبها من التباعد والقيم، إذ ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان.

ومن هنا نرى الإسلام يتميز بأنه يضع المسلمين على طريق الطموح الذي لا حدود لأبعاده، ويدفعهم -بتحريك ضمائرهم تحريكا مستديما- إلى التقدم المطّرد الواعي، إذ إنّ الله تعالى يحمد على الكَيْس، ويلوم على العجز.

والإسلام إلى جانب حرص تعاليمه على توفير أروع المؤهلات النفسية، يفتح العيون على حقيقةٍ من أعظم حقائق الوجود، وهي أنّ الله تعالى استخلف الإنسان في الأرض، وسخّر له هذا الكون كلَّه، ليستغل ما في سماواته كاستغلاله ما في أرضه؛ ألم يقل سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[5].

وما ذنب الإسلام إذا كان المنتسبون إليه لا يفكّرون؟ ثم ما ذنب الإسلام إذا طوى المنتسبون إليه كتابَ الله وأخذوا يلتمسون طريقَ الهدى في غيره من تعاليم البشر؟ إنّ الفرق بين هداية الله وهداية البشر هو نفس الفرق بين كمال الله ونَقص البشر.

وبعد، كيف نعود بالنشْءِ إلى الاعتزاز بهذا الدين، وتنشيطِه إلى المساهمة في بناء الحضارة المعاصرة؟ وكيف يتدرج نشؤنا في هذه المساهمة من الاحتذاء والمنافسة إلى التقدم والتفوق، كما قام أوائل المسلمين بمثل هذا الدور حين استوعبوا تعاليم الإسلام؟ وكيف يتجنب الكوارث التي تعاني منها حضارة القرن؟

إنّي أعتقد أنّ ذلك يتطلب وجودَ المناخ الطيب، وهو الذي تتوفر فيه بيئة مسلمة، وعقيدة راسخة، وبناء خُلُقي متين، ومعرفةُ جيدة بتعاليم الإسلام، واستبصارٌ بمقاصده.

وإنّ أولى هذه العواملِ بالإعداد الحصيف والرعايةِ المتواصلة هو البيت، وليس شيء أعظمَ تأثيرا في البيت من الإذاعة المرئية ثم المسموعة، على أن ينقّى هذان الجهازان من كل ما يتناقض مع هذا الإعداد وأهدافِه تنقيةً شاملة غامرة.

ولتوفير مقومات المناخ الطيب ومتطلباته الأخرى، لا بدّ من تظافر الجهود، وتجنيد الإمكانيات، ليساهم في توفيرها – بمنتهى الحرص والنزاهة والإخلاص ـ قادةُ الفكر، وأجهزة الثقافة، ومختلفُ وسائل الإعلام ترسيخا وتوسيعا لما يتحتم أن يقوم به في نفس الإتجاه كل من المدرسة والمعهد والجامعة في تسلسل وانسجام.

ويا للهول من بعثرة الجهود، ومن تشعُّب النزاعات وثَوران الأغراض.

ويا لَلغباء المحزن من الأمل العريض في استقامة الأوضاع مع انحراف المقاصد واعوجاج قوالب البناء، وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟

[1] مجلة الهداية -العدد 3 السنة 5- صفر 1398 = جانفي 1978

[2] رواه البخاري،باب ما قيل في أولاد المشركين، رقم 1330، ولفظه: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء). ومسلم، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، رقم4932.

[3] معاذ بن الحارث الأنصاري معروف بابن عفراء نسبة إلى أمه

[4]أخرج هذا الحديث ضياء الدين المقدسي في (المختارة) بسند صحيح.

[5] أية : 13 سورة الجاثية

مقالات مقترحة