التّشريع في عهد الرّسول وأصحابه[efn_note]مجلة الهداية،ج2، عدد3، سنة 1395هجري، ص47.[/efn_note]
الشّيخ محمد الطّاهر النّيفر
كان صلّى الله عليه وسلم هو المصدر الأعلى للتّشريع، بما ينزل عليه من وحى إلهيّ، وسنّتُه هى مبّينة له، متمّمة لما أجمل فيه؛ لأنّه (لا ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحي يوحى)[ النجم 3 ـ 4] .
لذا لم يبق مجال لاجتهاد الرّسول إلاّ إذا لم ينزل الوحي. وقد وقع ذلك منه صلّى الله عليه وسلّم نادرا، في قضايا جزئيّة قليلة لم يرد فيه نصّ قرآني، كما في أسرى بدر.
فقد اختلف الصّحابة في قتلهم أو إطلاقهم، فمنهم من حكم بالقتل ومنهم من حكم بإطلاقهم. فتوسّط النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحكم بأن يخرج الأسير إلى أهله ليقدّموا له فداءه.
وقد صوّبه الله تعالى بأنّ أسرى بدر لا ينبغي أن يطلقوا، ما دامت الحرب قائمة لم تنته، ومعركة بدر دائمة حتى تنتهي بالصلح المبين. وهذا التّصويب هو الّذي أشار له الله تعالى بقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[ الأنفال: 67].
وقد كان عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مدرسة تخرّج منها أصحابه، حتى يؤدّوا الأمانة المكتوبة عليهم؛ لذا كان صلّى الله عليه وسلّم يأمرهم بالاجتهاد عندما يسكنون بعيدين عنه. فقد أمر معاذ بن جبل – لما بعثه قاضيا لليمن – بالاجتهاد وإعمال الرّأى، إذا لم يجد نصّا في كتاب الله، ولا في سنّة رسوله.
وهكذا كان الاجتهاد في هذا العصر محدودا في نفسه، محدودا في ميدانه. بمعنى أنّه لم يستطع في هذا العهد الخروج من نطاق الحقوق الخاصّة إلى نطاق الحقوق العامة، بل بقي في نطاق محدود لا يتجاوزه إلى العقود والالتزامات إلاّ نادرا.
فقد روى أحمد في مسنده: أنّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا بعث عليّا قاضيا إلى اليمن، عرضت عليه قضية في تداعي ثلاثة أفراد في ولد جاءت به مملوكة للجميع، ولم تقم بيّنة لأحد، فلجأ إلى القرعة، فمن خرجت عليه القرعة أخذ الولد، و يأخذ الرجلان اللّذان لم تخرج لهما القرعة ثلثى قيمة أمّ الولد، التي أصبحت ملكا له وحده بموجب ذلك.
وبعد انتقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى، تمّت السّنّة، كما انتهى نزول القرآن، وأصبح النّاس أمام حادث جديد إذا لم يجدوا نصّا في الكتاب ولا في السنّة، وحينئذ فلا مناصّ لهم من الاجتهاد، معتمدين على ما ترك لهم الكتاب والسّنة من أمثال، وعلى ما تذوّقوه فيهما من روح، وعلى ما رسخت في قلوبهم من فكرة إسلاميّة تشريعيّة، منها: أنّ المصلحة حيثما وجدت فثمّ شرع الله تعالى.
وكان موت الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أعظم العوامل التي جعلت الاجتهاد يدخل طورا أعظم اهتماما من قبل، وزاد انتشاره وازدهاه بسرعة الفتح في قسم عظيم جدا من العالم، واحتكاك العرب بأمم فيها بعض الاختلاف، في أوضاعها الاجتماعية والاقتصاديّة، عمّا ألفوه في جزيرة العرب؛ ولذا أصبح المسلمون أمام حقوق جديدة لم تتناولها أحكام القرآن والسنّة بصراحة، الأمر الذي يوجب على علمائهم تخريجها على نمط الأحكام الشّرعيّة المنصوص عليها من قبل؛ ولذا تناول الاجتهاد الكثير من الحقوق العامّة، كما تناول قبل جميع الحقوق الخاصّة .
وقد ضرب الخلفاء الرّاشدون في هذا الميدان أمثالا أصبحت خالدة في تاريخ البشريّة، وليس اليوم في المجتمع الرّاقي ما يدانيها.
فقد ضربوا المثل في الحريّة والمساواة وغيرهما، كالحقوق السياسيّة والاجتماعيّة. وهاته هي الحقوق الأصليّة لإقامة الدّول.
ومن هذا ما قاله عمر بن الخطّاب لما رفعت إليه قضيّة : (متى استعبدتم النّاس وقد ولدتكم أمهاتهم أحرارا؟) و قد ذهبت هذه الكلمة مثلا رائعا في الخلود.
وقد نبغ ممّن عرفوا بملازمة الرّسول وكثرة الأخذ عنه، جماعة في الإفتاء والقضاء، أنهاهم بعضهم إلى مائة و ثلاثين بين رجال و نساء.
وبعد هؤلاء، قسّمت الصّحابة إلى طبقتين:
الأولى: وبها عشرون شخصا. وبعدهم البقية: وهم المقلّون في الفتوى .
وكان قضاء الخلفاء الراشدين على النحو الآتي:
فقد كان أبو بكر الصدّيق إذا وردت عليه قضيّة نظر في كتاب الله، فإن وجد فيها ما يقضي به فذاك، وإن لم يجد سأل النّاس: هل علمتم أنّ رسول الله قضى فيها بقضاء؟ فربما قام إليه بعضهم فقال: قضى صلّى الله عليه وسلّم فيها بكذا. فإن لم يجد سنّة سنّها النّبي صلى الله عليه وسلّم جمع رؤساء النّاس فاستشارهم، فإذا أجمعوا رأيهم على شيء قضى به.
وعلى هاته الطّريقة سار عمر من بعده، فإذا أعياه الأمر، ولم يجد في كتاب الله ولا في سنّة رسوله شيئا، سأل: هل كان لأبي بكر قضاء فيه؟ فإذا كان قضى به، وإلاّ جمع علماء النّاس واستشارهم. فإذا أجمعوا رأيهم على شيء قضى به.
وطريقة عمر في القضاء هي التي أفصح عنها في كتابه إلى شريح القاضي. وهو الذي يقول فيه: إذا حضرك أمر لا بد منه فانظر ما في كتاب الله فاقض به، فإن لم يكن، ففيما قضى به رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، فإن لم يكن ففيما قضى به الصالحون وأيمّة العدل، فإن لم يكن فأنت بالخيار، فإن شئت أن تجتهد رأيك، وإن شئت أن تؤامرنى، ولا أرى مؤامرتك إيّاي إلاّ خيرا، والسّلام .
وسار بقية الصّحابة على هذا النحو، وبذلك أصبح رأى الشّيخين أبي بكر وعمر يُعمل به بعد الكتاب والسنّة، ولا يلتجئ المفتي إلى الاجتهاد إلاّ إذا لم يجد في رأيهما شيئا.
وبهذا استمر أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يفتون، ويجتهدون، ويقيسون كلّما عرضت لهم قضيّة.