الجانب الأخلاقي في التّشريع الإسلامي[1]
الدكتور التهامي نقرة
في شهر جويلية من سنة 1915 انعقد في باريس مؤتمر ( أسبوع الفقه الإسلامي ) في كلية الحقوق لجامعة السربون ، بدعوة من لجنة الحقوق في المجمع الدولي للقانون المقارن.
وفي هذا المؤتمر ألقى عدد من الأعضاء المشاركين دراسات في الفقه الإسلامي ، وتبيّن من خلالها أصالة التشريع الإسلامي ، ومسايرته للمنطق الحكيم ، وللفطرة السليمة ولأصول الأخلاق ؛ واشتماله على ثروة حقوقيّة ، ونظريّات قانونيّة خالدة . وممّا جاء في قرار المؤتمر.
(( إنّ مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقيّة تشريعيّة لا يمارى فيها ، وإنّ اختلاف المذاهب الفقهيّة في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ، ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات والأصول الحقوقية ن هي مثار الإعجاب ، وبها يستطيع الفقه الإسلامي أن يستجيب لمطالب الحياة الحديثة ، والتوفيق بين حاجاتها[2] )).
وقال (( شيرل )) عميد كليّة الحقوق بجامعة ( فيينا ) في مؤتمر الحقوقيين لسنة 1927 :
(( إنّ الشّريعة لتفخر بانتساب رجل كمحمّد إليها . فقد استطاع – رغم أمّيته -أن يأتي قبل أربعة عشر قرنا ، بتشريع سنكون- نحن الأوروبيين – أسعد ما نكون لو وصلنا الى قمته بعد ألفى عام )) .
والمقام هنا لا يسمح بعرض ما جاء في أقوال علماء القانون ، والحقوقيين الغربيين، من إبراز جوانب الكمال في التشريع الإسلامي ، وهي الجانب الأخلاقي فيها.
ويتمثل في ثلاث نقاط أساسية، وهي الحكمة، والإنصاف، والتأثير.
(1)الحكمة
وهي هنا: ما يترتب على ربط الحكم بعلته أو سببه، من جلب مصلحة أو دفع مضرة.
ذلك أنّ الأحكام تناط بعللها و أسبابها ، و تدور معها وجودا وعدما .فالعلّة الشرعيّة للقصاص من القاتل مثلا، كون القتل عمدا وعدوانا.
وربط الحكم بهذه العلة يترتب عليه – بحكم العقل – تحقق المصلحة المقصودة من الحكم ، وهي المحافظة على حياة الإنسان. فهي وصف مناسب لهذا الحكم .
وعلّة حرمان القاتل من إرث المقتول ارتكاب جريمة قتل محرّمة ، لاستعجال منفعة قبل أوانها . و ربط الحرمان بهذا المعنى يترتب عليه – في نظر العقل – تحقق المصلحة المقصودة من الحكم ، وهي المحافظة على النّفوس بمنع الورثة من قتل مورثيهم؛ لأنّهم إنّما يقتلونهم استعجالا لإرثهم .
فارتكاب الوارث لتلك الجريمة وصف مناسب لحرمانه مما استعجله. وقد ذاع في هذا قول الفقهاء : (( من استعجل شيئا قبل أوانه ، عوقب بحرمانه))[3]
ثم إنّ الأصل في تعليل الأحكام أن تعلل المصالح المترتبة عليها ، لأّنها تلك المصالح هي البواعث على وضع هذه الأحكام ، وهي المقصودة منها .
وقد علم بالاستقراء أنّ المصالح المقصودة من الشّرع ثلاثة أنواع :
1- مصالح ضروريّة وهى :
التي تتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية ، بحيث إذا فقدت اختلت الحياة الإنسانيّة في الدنيا والدين ، وهي الكليات الخمس التي قام عليها نظام هذا التشريع لتحقيق مصالح البشر الدينية و الدنيوية ، وهي : الدين والنفس والنسل والعقل والمال .
2- مصالح حاجيّة وهي :
قال الغزالي: (( جميع المحرمات تباح بالضرورة . وجاء في القواعد الكليّة : الضرورات تبيح المحظورات )).
والأمثلة على تطبيق هذه القاعدة عديدة منها الأعذار التي تسقط التّكاليف الشرعيّة ، كصغر السن ، والجنون ، والمرض ، والإكراه ، والنسيان ، والجهل. ومنها التّرخيص بشرب الخمر للعطشان … وبأكل لحم الميتة للجوعان. و كذلك ما جوّزه بعض الفقهاء من التداوي بالخمر[4]
ومنها التيسير، للعسر وعموم البلوى . ومثاله : إذا تحقق عسر المديون عن أداء دينه جاز تقسيط الدفع عليه.
فالأحكام الشرعيّة لا تنظر إلى حالة من الحالات ، ولا إلى فرد من الأفراد، بل تنظر إلى جميع الحالات و إلى جميع الأفراد. إلا أنّ هذه الصفة تجعل من تطبيق الأحكام في بعض الأحيان حرجا على النّاس ، و تجعل الإفراط في الّتمسك بالقانون ينقلب إلى ظلم و ضرر . وقد جاء في المثل اللاتيني : ((منتهى العدل منتهى الظلم )) لذلك اقتضى التيسير على الناس عدم مراعاة الأحكام العامّة في بعض الأحوال الاستثنائيّة رفعا للضرر والمشقة .
وقد استند الفقهاء الحنفية بذلك إلى الاستحسان ، واستند المالكيّة إلى التعليل بالمصالح المرسلة
والأصل في ذلك قوله تعالى: ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج )[5]
( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإنّ الله غفور رحيم )[6]
وقوله صلّى الله عليه و سلّم: (( الدين يسر )) _ (( أحب الدّين عند الله الحنفيّة السّمحة ))[7]
وعلى هذا كله بنى الفقهاء القاعدة العامّة: (( المشقة تجلب التّيسير ))
3- مصالح تحسينية وهي :
ما يكون من قبيل الأخذ بمحاسن العادات ، وما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق ، كتحريم أكل الخبائث ، وكراهة أكل كل ذي رائحة كريهة ، واستحباب لبس الجديد من الثياب في العيد … الخ
هذه المصالح هي المقاصد و الغايات الشرعية ، وهي ثابتة لا تتغير ما دام الإنسان إنسانا بفطرته التي فطره الله عليها .
ثم إنّ الإسلام في تشريعه لا ينظر إلى المصلحة الفرديّة مجردة ، بل يقيدها بما ينفي الضرر الخفي عن الفرد ذاته أو عن غيره . لذلك ألغى مصلحة الجبان في عدم خوض المعركة حفاظا على النّفس ، ومصلحة المعاملة بالربا في زيادة الثروة ، ومصلحة المريض الميئوس من شفائه ، أو من ضاقت به سبل العيش في الموت والانتحار .
وما لا يدخل في المصالح الشرعية ويظنه بعض الناس مصلحة ، يكون إلاّ من باب متابعة الهوى ، و مجارات الشهوات . لأنّ الله تعالى أمر بكل خير ومعروف، ونهى عن كل شر ومنكر.
قال الغزالي : (( كل مصلحة لا ترجع الى حفظ مقصود فهم من الكتاب أو السنة أو الإجماع ، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشارع ، فهي باطلة مطروحة ، ومن صار إليها فقد ابتدع))[8]
إنّ قابلية الّتطور في التّشريع الإسلامي ليست بتغيير النصوص والأحكام ، ولكن بالقدرة على وضع الحدود الصحيحة للتطور الإنساني السليم . أمّا التطور النابع من بيئات مذمومة ، و ظروف خاصة ، وعرف متحلل من القيود الأخلاقية، وسيطرة الجنس على الحياة الاجتماعية باسم التطور ، أو باسم التحرر ، أو باسم الفنّ فهل من الحكمة أن يتطور أولو الرأي من رجال التشريع الإسلامي مع هذه الحالات المرضيّة التي تحتاج إلى علاج ،’ أو مع العرف المتحلل من الفضيلة ليضعوا القوانين الملائمة له ؟
إنّ الإسلام حين يواجه بتشريعه واقع الناس ، لا يواجهه ليعترف به، ويلتمس له من شريعته سندا يؤيده ، بل يواجهه ليطبق عليه أحكامه ، فيقر منه ما يوافق مبادئه ، و يمنع منه ما انحرف عنها. [9]
ومثال ذلك أنّ بعض الدول وجدت نفسها مضطرة – لعوامل مختلفة – إلى إباحة أنواع محرمة في الأديان و الأخلاق من العلاقات الجنسية الشاذة ، على الرغم من ضجة رجال الدّين ، واحتجاج رجال القانون .
فهل يعنى ذلك أنّ الأصول و المبادئ التي جاءت بها الأديان السماويّة قد تجاوزها الزمن، فأصبحت عديمة الجدوى لدى الأمم المتحضرة الراقية ؟
(2) الإنصاف
لم تكتف الشريعة الإسلاميّة بتكليف الإنسان بظاهر القانون و القضاء ، بل كلفته أن ينصف غيره من نفسه ، ولو حكم له القاضي بمدعاه حسب الظاهر ، وهو يعلم أنّه لا حق له عند خصمه ، لأنّ القضاء لا يحلل حراما و لا يحرّم حلالا، وذلك ما يشير إليه التوجيه النبوي : (( إنّكم تختصمون إلى ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنّما قضيت له بقطعة من النّار ))
ولذلك يفرق الفقهاء بين جانب القضاء و جانب الدّين. و بهذه الديانة التي تلزم القاضين والمتقاضين ما نسميّه ( الضمير ) امتاز التّشريع الإسلامي دون تشريعات العالم قديمها و حديثها .
كما أنّ مزايا التشريع الإسلامي المساواة بين المتقاضين . فلا فرق بين أبيض وأسود، ولا فضل لمخدوم على خادم . قال صلى الله عليه و سلم : ((إنّما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. وايم الله ؟ لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )) .
أمّا التّشريع الروماني فأساسه التمييز العنصري بين المتحاكمين ، فهو يفرق بين من هو من أصل روماني و من لم يمت إلى الرومانيين بنسب . كما يفضل الخاصة على العامة ، إذا يجعل للأولين الزعامة والقيادة والحماية ، ويفرض على الآخرين الخضوع والانقياد والطاعة.
جاء في مدونة (( جوستيان )) القانونية :
(( من يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء فعقوبته مصادرة أمواله إن كان من عائلة كريمة و ان كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد و النفي من الأرض ))[10]
وفي الشريعة الإسلاميّة لا يقبل الصلح بين المتخاصمين إلاّ على أساس العدل. و الصلح العادل هو الذي أمر الله رسوله به حين قال : ( فأصلحوا بينهما بالعدل)[11]: أما الصلح الذي يجرى على حساب أحد الغريمين ، فهو الظلم بعينه .
وكم من ظالمين يصلحون بين القادر الظالم ، والضعيف المظلوم ، بما يرضى القادر صاحب الجاه ، ويكون له فيه الحظ ، بينما يكون الغبن والحيف على الضعيف ، ويظن أنّه بهذا الصنيع قد أصلح .
صحيح أنّ الصلح مرغب فيه ، كما روى عن عمر : (( ردّوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن الصلح آثر للصدق وأقل للخيانة . وأنّ فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن ))[12] .
وقال صلى الله عليه و سلم : (( الصلح جائز بين المسلمين ، إلاّ صلحا حرّم حلالا أو أحلّ حراما )) [13]
فالصلح الذي دعت إليه الشريعة الإسلامية هو الذي يعتمد فيه رضا الله سبحانه ، ورضا الخصمين . وهو يعتمد العدل والعلم. فيكون المصلح عالما بالوقائع، عارفا بالواجب.
(3) _ التأثير
أحكام الشريعة الإسلاميّة لم تشرع للدنيا فقط أو للآخرة وحدها، وإنّما شرعت للاثنين معا. وهذا هو منطق الشريعة ، حيث تعتبر الدنيا جسرا للآخرة. وإنّ جزاء الإنسان في الآخرة مرتهن بنتائج أعماله في الأولى ، فهما صنوان لا يفترقان . ومن هنا كان الولاء الكامل لأحكام الشريعة ، وكانت الطّاعة المتناهية لأوامر الشرع الحنيف طاعة في السر والعلن ، يوجهها ضمير يقظ يؤمن بان الله مطلع على أفعال عباده ، ما خفي منها أو ظهر : ( يعلم خائنة الأعين و ما تخفى الصدور ) .
والمسلم يعلم يقينا أنّ من ورائه رقيبا لا تخفى عليه خافية . وإيمانه بذلك أكبر وازع على أن يعيش دائما في حدود أحكام الشرع ، ظاهره كباطنه ، وسره كعلنه ، مع استقرار يقينه بأنه أن أفلت من سطوة القانون في الدنيا فانه لن يفلت من عقاب ينتظره في الآخرة.
وقد عجز القانون الحديث عن تحريم الخمر، لأنّه يؤمن بان الأكل و الشرب حق من الحقوق الطبيعية إلاّ إذا اعتدى شارب الخمر على غيره . فالجريمة ليست في شرب الخمر، بل فيما ورائه ، رغم إن الخمر يضر بالصحة، ويبدد الأموال، ويساعد على الإجرام، ويضعف الشعور الأخلاقي .
ثم إنّه لا بد من الإشارة هنا إلى أن جل الدساتير – التي هي من وضع الإنسان – تعتبر: أن الجريمة كل عمل يضر بالأمن العام، أو نظام الحكم القائم. و قد دفع هذا الأساس إلى إخراج بعض الجرائم كالزّنا من حدود الجريمة .
إنّ سمة الشرّ المميزة في الإسلام أنّه : أذى للنفس، أو عدوان على الغير . فلا يكون إحجام المؤمنين بالإسلام عن اقتراف الشرور والآثام بسبب الخوف دائما من سلطة القانون بل لإيمانهم بأن الديان يقظان ، وكما ندين ندان . ولن يكون حصاد الشر سوى العاصفة .
سئل صلى الله عليه و سلم عن البر والإثم فقال : (( البرّ: ما اطمأنت إليه النفس ، ورضي عنه القلب ، والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطّلع عليه الناس )).
بين القانون الإلهي و القانون الوضعي
ولعلّ أهم ما يمتاز به القانون الإلهي أنّه يسد ثلمات تتمثّل في خلق الشعور الفردي والجماعي بشناعة كل جريمة تحار الأمن والفضيلة و الأمانة . وما دام الحاكم في القانون هو الله سبحانه ، والمحكومون هم سائر أفراد المجتمع ، دون أدنى تمييز ،فقد تحقق العدل الكامل في ظل العدالة الإلهيّة ، حيث يكون كل إنسان مساويا للآخرين إمامها .
وإذا كان مصدر التّشريع هو الله الذي أحكم قوانين الطبّيعة وهو العليم بعباده ، وبما يليق بهم من دستور، ينظم حياتهم أجل تنظيم ، ويوجه سلوكهم نحو الخير و الفضيلة ، و يفصل في قضاياهم بالحق و العدل ، فقد استراح أهل الذكر في التّشريع في عناء النّظر، وحيرة الاختيار بين العديد من النظريات التي لا حلّ من ورائها ، والتي كثيرا ما يضرب بعضها بعضا.
وإذا كان التشريع العلماني أكثر ملائمة لروح العصر – كما يزعمون – فأين نجد أساس القيم المتفق عليها ؟
إنّ كثيرا من القوانين المدنية اليوم في أوروبا مدينة للتشريع الإسلامي لما يمتاز به من حكمة وعدل واستيعاب ، وقد أكدت التجارب العديدة في هذا المضمار، أن القانون لا يستطيع أن يستقل بذاته ، بل لا بد أن يقترن بالعقيدة الدينية ، ولا بد من قانون آخر وراء القانون يحمل الناس على الإدلاء في المحاكم بالبيانات الصادقة للوصول إلى العدل .
وقد اعترفت جميع محاكم العالم بهذا المبدأ ، حتى إنّها تلزم كل شاهد أن يقسم بالله أن يقول الحق قبل الإدلاء بشهادته. وهو دليل واضح يؤكد أهمية العقائد الدينية لصون حرمة القانون .
بيد أنّ أكثر المجتمعات الجديدة على أهميّة المعتقدات الدينية حتى أصبحت إيمان المحاكم أضحوكة وتقليدا .
إنّ الذي يسئ إلى القرآن و يفقده حرمته و قدسيته أن نجعل الشريعة التي بنيت عليه زمنية ، متطورة مع تطور الأزمان ، فنعمد إلى تغيير أحكامه أو تجميدها ، في حين أن هذه الأحكام تتفق مع حكم العقل والمصلحة والأخلاق .
لا تطوير للأصول
ثم إنّه لا بد من التمييز في الشريعة الإسلاميّة بين القواعد العامة التي لا تقبل التبديل ، وبين التطبيقات للأحكام التفصيليّة المبنيّة عليها ، وهي وحدها التي قد تتغير فيها الأحكام تبعا لتغيرات المصالح والأزمان، أمّا القواعد العامّة فقد تضمنها القرآن.
و من هنا نعتبر القرآن دستورنا و نظامنا الأساسي في الشريعة الإسلاميّة ، و نبنى عليها كل أحكام شريعتنا التفصيلية ، كما هو مفهوم في الشرائع الوضعيّة حيث يكون لها دستور في قواعده العامة ، من ناحية الحقوق الأساسيّة ، فلا تغيير فيه. ثم يكون لها أحكام قانونية تفصيليّة، تطبيقا لها على قواعد الدستور العامة.
ومن ناحية أخرى، فإنّ القيم التي يحاول المشرعون رعايتها واعتبارها في دساتيرهم و قوانينهم ، ليست محل اتفاق حتى توضع في ميزان واحد ، وذلك لاختلاف البيئات ، والظروف ، والحضارات ، والعادات ، والإيديولوجيات .
وتكمن الحيرة هنا في معرفة المصالح التي لا بد للدستور المحترم أن يحافظ عليها ، والأهداف التي لا بد أن يعمل على تحقيقها .
وبعبارة أوضح : معرفة ميزان صحيح للقيم التي يجب إدخالها في فلسفة التّشريع ، واعتبارها أساسا عند تطويره.
وإذا لم يكن بد من وجود عنصر دائم في أي تشريع ، مع عناصر إضافيّة أخرى تتسم بالمرونة و قابلية التغيير عند الاقتضاء ، فإنّ افتقار الكثير من القوانين إلى هذا العنصر الدائم إلي تستمر صلاحيته مع الزمن ، أو إلى هذا العنصر الإضافي الذي ينفي الروتينية و الجمود ، ويترك الباب مفتوحا للاجتهاد بحسب الزمان و المكان ، هو علة الخلل و مصدر الشقاء.
لكن ما هي العناصر الصالحة للدوام ؟ و ما هي العناصر القابلة للتطور؟ ذلك ما يختلط على الناس أمره . وهيهات أن يخلص التشريع من التحكم ، فكل عنصر يدعى صلاحيته للدوام يلزمه الدليل على ذلك ، وهو عاجز عن الإتيان به.
فقد نرى اليوم عنصرا من الدستور صالحا للدوام ثم يأتي من يعلن الاستغناء عنه و ما دام الدستور يصاغ وفقا لرغبات الشعب ممثلا في نوابه ، فقد لا يعجبهم ذلك ، أن يرونه قد فقد صلاحيته بمضي الزمن ، فضلا عن الدساتير المفروضة التي قال فيها بعضهم :
(( من الإجحاف بحقوق الإنسان أن يتصدى حاكم للتشريع ، فيزن الأمور بميزانه الخاص ، وينظر إلى الأشياء من زاوية مصالحة الشخصية )) .
وقال آخر : (( إنّ تشريعنا اليوم في حاجة إلى أن نصوغ له فلسفة ، للتوفيق بين شتى النزاعات المتباينة ، والاتجاهات المختلفة . ولكن كيف يكون ذلك ؟ تلك هي المعضلة ؟ )) .
يتضح بعد دراسة مختلف هذه الجهود أنّه لا بد من هداية الدين لتقييم المعيار الحقيقي للعدل والأخلاق. والأساس الذي يحمله الدين لإعطاء العدل العدل والأخلاق صورة عملية يتفرد هو بها في بساطته وسموه وتأثيره.
قال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله . إن يتبعون إلا الظن ، وإن هم إلا يخرصون )[14]
مجلة الهداية، ج3، عدد1، سنة 1395، ص31 ([1])
(2) مفتريات على الاسلام – أحمد محمد جمال : 57 (ط. دار الفكر بيروت )
[3] (3) أصول التشريع الاسلامي _ على حسب الله : 140(ط . مصر 1971)
[4] (4)بداية المجتهد _ابن رشد (الحفيد).ج : 1/381(ط: 1_ مصر )
[5] سورة المائدة : 7 (5)
[7] رواهما البخارى (7)
[8] المستصفى : ج .1/310 (8)
[9]أصول التشريع الاسلامي : 187 (9)
[10] مفتريات على الاسلام :55 (10)
[11] سورة الحجرات : 9 (11)
[12] اعلام الموقعين _ لابن قيم الجوزية : ج . 1/108 ( ط. مصر _ 1955 ) (12)
[13] رواه الترمذي (13)
[14] سورة الانعام : 116 (14)