الصّيام وآثاره في الفرد والمجتمع
الشيخ محمّد الطّاهر النّيفر المدرّس بجامع الزيتونة
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]
من أعظم منن الله تعلى على هاته الأمّة المحمّدية أن كتب عليها الصّيام كما كتبه على الّذين من قبلها، فكان أحد الأسس المتينة الّتي أقيم عليها الإسلام. وإحدی دعائمه المُحكمة الّتي لا يقوى على تخریبها تقادم العصور ومعاول الأيّام. فآثاره في تقويم النّفوس البشريّة أعظم من أن تحصى. وفوائده للمجتمع أكثر من أن تستقصی. وناهيك بعبادة ضمّت للتّقريب من الله زلفى تطهير النّفوس ممّا عسى أن يلتحق بها من خشونة الطّبع وضعف العاطفة نحو ذلك البائس الفقير، الّذي ترتبط معه بهاتيك الرّابطة العظمی، رابطة الإسلام الّتي لا تنفصم عراها. ومتى عملت هاته العبادة عملها في النّفوس بسطت بعضا من النّعم الّتي آثرها بها المتصرّف الحكيم على السّائل والمحروم، فتصبح سعادة البشر عامّة ولو إلى حين.
وإذ قد ألمحنا لك في هاته النّبذة لعظیم فوائده، وجلیل قلائده؛ فيجدر بنا أن نفصّل لك أيها القاري الكريم بعضا من هاتيك الفضائل الجمّة في الحال والمآل، والله الموفّق وعليه الاتّكال.
إنّ من نظر بعين الهداية والتّوفيق لِمَا سنّه الله لنا في هاته الشّريعة السّهلة المحكمة النّظام، وجده لا يخرج عن إصلاح مفردنا وجمهورنا، في دنيانا وبعد نشورنا، حتّى نكون في سعادة شاملة، وخیرات فضائلها متكاملة. وقد كانت عبادة الصّوم جامعة لهاته الفضائل الثّلاث أعني خير الآخرة وإصلاح الفرد والمجتمع. ولذا رأينا أنّ الحديث في هذا المقام يتناوله من ثلاث جهات: فضائله الأخروية – فوائده الفردية – آثاره الاجتماعية.
فضائله الأخروية: إنّ الله تبارك وتعالى أوجب الصّوم في شهره المبارك ورغّب فيه، ووعد بجزيل العطاء عليه، فقال: (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 184].
ونسبه الله لنفسه من بين سائر العبادات إظهارا لشريف مقداره، وجلائل آثاره، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عزّ وجلّ: “كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به. والصّيام جُنّة، فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إنّي صائم، إنّي صائم. والّذي نفس محمّد بيده لخلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصّائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربّه فرح بصومه”[efn_note]رواه البخاري وغيره واللّفظ له.[/efn_note]. والوجه في اختصاص هاتة العبادة بالانتساب للذّات العليّة أنّه لا يداخلها ما يمكن أن يصاحب العبادات العملية من رياء وتظاهر بالطاعة في العبادة الّتي لا يطّلع عليها سواه، ولا تكون إلاّ الله.
****وإظهارا لمزيد فضل الصّوم خصّ الله تبارك وتعالى باب الرّيان في الجنّة بالصّائمين، تمییزا لهم عن سائر عباده الّذين شملهم فضله وإحسانه، فكانوا من الفائزين.
كما وعد جلّ فضله بمحو جميع الخطايا والذّنوب لمن أتي صومه على الوجه المطلوب، وشفّعه في صاحبه يوم لا يغني مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: “الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيام، يقول الصّيام: أي ربّ، منعته الطّعام والشّهوة فشفّعني فيه. ويقول القرآن: منعته النّوم باللّيل فشفّعني فيه. قال: فيشفعان”[efn_note]رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.[/efn_note].
فإذا كانت هاته فضائله، وتلك مزایاه، فالعجب كلّ العجب ممّن عنه يعرضون، ويستبدلون هاتيك السّعادة الأبدية بإرضاء الشّهوة البهيمية، واتّباع ملذّاتهم الدّنيّه، فيخرجون بصفقة المغبون شأن من أضلّه الشّيطان واتّبع هواه، فانقلب على وجهه مذموما مدحورا، خسر الدّنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وليس صوم المؤمن بترك طعامه وشرابه والإعراض عن إرضاء الشّهوة الغريزية فقط، وإنّما الصّوم بترك ذلك كلّه مع الإعراض عن القيل والقال، وتجنب لغو الكلام وفواحشه، والابتعاد عن انتهاك الحرمات، والتعرّض لعيوب المخلوقات.
فقد ثبت في بعض الآثار أنّ جرم التّعرّض للغير بما لا يرضيه يساوي ما أعدّه الله من عظيم الجزاء على صومه، وعليه أن يتجنّب الرّفث والصّخب، وما يؤدّي لإيقاد العواطف وحجاب اللّعن والغضب. فإن سابّه أحد أو شاتمه فليقل: إنّي صائم، إنّي صائم. وفي الحديث الشّريف عن أبي هريرة رضي الله عنه: “من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”[efn_note]رأخرجه البخاري.[/efn_note].
وإذا كان الصّيام جنّة كما في حديث أبي هريرة المتقدّم، أي: ساترا من النّار، فكيف نجعله مطيّة للوقوع فيها، فإنّا أصبحنا نشاهد، ويا لهول ما نشاهد، في أغلب أوقات الصّيام، كثرة الخصام والسّباب، والإفراط في المواجهة ببذيء القول وفواحش الخطاب. ولربّما وصل بهم الأمر للخروج عن دائرة الإسلام وهم لا يشعرون، فإذا أنحيت على مرتكب ذلك باللّوم والتّعنيف اعتذر بأنه صائم، كأنّما صومه بذاك أغراه، وما درى المسكين أنّه عن مثل ما وقع فيه ينهاه، وأنّه جاء بما يوازي إحباط مسعاه؛ فالواجب المحافظة على اللّسان، فإنّه أصل كلّ بلية للإنسان، وتعمیر أوقاته بمختلف الطاعات، وذكر خالق الأرض والسّماوات، سبحانه الكبير المتعال.
فالطّاعة يعظم جزاؤها بزيادة فضل أوقاتها، وتتفاوت درجاتها بتفاوت أمكنتها في الشّرف والفضل، فعن سلمان رضی الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آخر يوم من شعبان، قال:”یا أیّها النّاس قد أضلّكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعا، من تقرّب فيه بخصلة كان كمن أدّی فريضة فيما سواه، ومن أدّى فريضة فيه كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصّبر، والصّبر ثوابه الجنّة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، من فطّر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النّار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شیء”[efn_note]رواه ابن خزيمة في صحيحة ثم قال: صحّ الخبر، ورواه من طريق البيهقي.[/efn_note].
وممّا أری لزاما التّعرّض له في هذا المقام، ما اعتاده غالب أهل إیالتنا من تعمير لياليه بألعاب اختلفت أنواعها، وتعدّدت أوضاعها، وجميعها لا يخرج عمّا كانت الشريعة تاباه، رأفة بنا وحرصا علينا من أن نضيع الوقت الثمين فيما لا نجني من ورائه فائدة بإحدی الدّارين. والأنكى من ذلك كلّه أنّ منّا من يقضي هاتيك اللّيالي الفضليات في الميسر أو غشيان الملاهي ودور الفسق والفجور، أین تهتك ستور الشّريعة الطّاهرة، ویداس الخلق النبيل، ولا يری أرباب هاتيك المحلاّت بأسا في الإعلان عن تلك الحفلات الجامعة لشتات المنكرات، فيكون عاملا على إنشاء الفاحشة في قومه، وتعميم الرّذيلة بينهم، كأنّما إسلامه عن ذلك لا ينهاه، والخلق الفاضل لا يأباه. وإني لأعجب من مثل هذا الخبّ اللّئیم كيف ارتضى لنفسه هاته المهانة، وتدلّى بها لدرك الحقارة والإدانة، وجعلها واسطة سوه بين فجّار بني آدم، والسّاقطات من بنات حوّاء، فجمع بينهما في محلّه طمعا في الاستحصال على بعض الدّريهمات الّتي تكون سحتا عليه، ولا تثمر بحمد الله لديه. فأعرضوا أيّها المؤمنون عن جميع ذلك، فإن من اتّبع هواه وجد الشيطان إلى قلبه سبيلا، فأضلّه طريق الرّشاد وأوشك أن يأخذه الله بما كسبت يداه، فيصبح من النّادمين، وهيهات أن يعود له ما فات، أو تفيده الحسرات والتأوّهات، واستبدلوا ذلك بإحياء لياليه بالعبادة، والتوبة من الذنوب والدّعاء بالإنابة.
فمن لياليه ليلة القدر الّتي هي خير من ألف شهر، ومن أحياها بما يرضي الرّبّ الكريم غفر له ما تقدّم من ذنبه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: “من قام ليلة القدر إیمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه. ومن صام رمضان إیمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه”[efn_note]أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.[/efn_note]. وقد أخفاها الله تعالى ترغيبا لنا في إحياء جميع لياليه حتى يعظم الزّاد ليوم اللّقاء والمعاد، فنكون من الّذين ابيضّت وجوههم فكانوا من الآمنين.
فوائده الفردية:
ـ أوّلها الصّحّة: فالصّوم رياضة تجفّف الرطوبات البدنية، وتفني المواد المنهكة للقوی الّتي كثيرا ما يتولّد عنها أمراض يصعب علاجها ويخفی سببها، فقد أثبت ابن سينا الحكيم أنّ هاته المواد تتولّد من الطعام، وتكثر حتى ينجم عنها أمراض معضلة يخفى عن الحكيم سببها في غالب الأحيان، ولا وقاية منها إلاّ بالإعراض عن كثرة الأكل زمنا في كلّ سنة. وتابعه فيما قرّره حكماء أوروبا من بعده.
إذا فالصّوم وإن تولّد عنه الضّعف والذّبول في بعض الأحيان، فعاقبته القوّة والنّموّ، ألا ترى إلى النّبات الّذي يُمنع في بعض الأحيان السّقي حتى يذبل، ثمّ يفاض عليه الماء فيعاوده نموه وزهوه بصفة أتمّ وأحسن ممّا لو استمرّ سقيه. والكثير من النّباتات استمرار سقيها يؤدّي لتلفها.
ـ ومنها كسر سورة الشّهوة وكبح جماعها، حتّى يصبح قیادها بيده، ولا يتمّ ذلك إلاّ بتسیيرها طبق رغبته لا طبق مرغوبها، ولا أری خطرا يقضي على كيان الإنسان في هاته الحياة، ويسلب سعادته بعد موته، كتغلب الشّهوة على العقل؛ فإن من طغت شهوته عليه أفرط في اتّباع هواه وانغمس في ملذّات هاته الحياة، وعندئذ تنطمس من نفسه أشعّة الصّفات الكريمة كالعفة، والقناعة، والحياء، والسّخاء، فتصبح الفضيلة وقد تهدّمت من نفسه أركانها، وتزعزع بنیانها، وفي ذلك البلاء العظيم لأمّته جمعاء فصلاح الأمّة بحسن تهذیب أفرادها.
ومن فوائده العظيمة توطين النّفس على المكاره، وتعويدها الصّبر وعدم الجزع، حتّى يتمكّن من تأديبها طبق ما يمليه الشّرع والعقل، ويقتضيه الشّرف وحسن الشّيم. ومن لم يوطّن نفسه على هاته الصّفات أصابه يوم يعضّه الدّهر بنابه. والزّمان ذو ألوان من جرّاء ذلك العذاب الأليم. فالّذي لا يملك نفسه عند الجزع والشّدّة لا يقدر على التخلّص منها، وفي ذلك هلاكه المحقّق وخسرانه المبين، ولذا كانت العرب تضرب للإبل الأخماس بالأسداس استعدادا بها للسّفر في الصّحاري والقفار، حتّى تتمكّن من قطع هاتيك المسافات الشاسعات، الّتي قلّ أن يظفر مجتازها بمرغوبه من زلال الماء.
ومن أعظم الأغراض الّتي يرمي إليها الإسلام توطين نفوس أهله على هاته الصّفات الجليلة التي بها سعادة البشر في جميع أطوار حياته.
ومن فوائده أيضا معرفة قيمة النّعم، حتّى يحسن التّصرّف فيها والاحتفاظ بها؛ فإنّ النّعم لا تدرك حقّ الإدراك إلا بزوالها، والأشياء تعرف بأضدادها.
آثاره الاجتماعية
أعظمها التّسوية بين الأغنياء والبائسين، وأهل الخصاصة والمترفين، في فقد دواعي اللّذّة وموجبات النّعم.
وفي هاته التّسوية تعميم الألفة بين أفراد الأمّة الواحدة، والإعراض عمّا يدعو للتّخالف النّاشئ عن ترفّع بعضهم عن بعض، ومتى صفت النّفوس من الأحقاد والتنافر حصلت السّعادة العامّة للجميع. والتّآلف بين أفراد الأمّة المحمّدية في مقدّمة الأمور الّتي جاء الإسلام داعيا إليها في كتابه الحكيم وعلى لسان الصّادق الأمين، قال عليه الصّلاة والسّلام: “ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى)[efn_note]أخرجه البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.[/efn_note].
ومنها تعدّي نعم ذوي اليسار لأهل الخصاصة والإعسار؛ لأنّ من تذوّق طعم المكاره حنّ قلبه لأهلها، فكان ذلك حاملا له على مواساتهم وإعانتهم على التخلّص من الشّدّة الّتي يتخبّطون فيها.
وفي هذا القدر كفاية وذكرى لمن ألقى السمع وهو شهید.