المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده[1]
الشيخ علي ابن الخوجة
وبه قال حدثنا آدم ابن أبى إياس قال أخبرنا شعبة عن عبد الله ابن أبى السفر وإسماعيل عن الشعبيّ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
هذا الحديث المفرد في بابه، الثالث من فرائد كتابه، الذي رواه الإمام البخاري مصدقا لما بين يديه، ممّا أسلف ادعاءه من أن الإيمان قول وعمل وأنّه يزيد وينقص، ولقد تسابقت فيه أقلام ذوي التبيان، وفجروا ينابيع حكمته من كل مكان، وكانوا على مورد واحد حائمين، وبكشف القناع عنه مستفتحين. ذلك هو إبداء أحسن وجوه الاستنباط، المعرف عن كمال الارتباط، بين السابق واللاحق من فرائده المنضدة، وإتيانها لما أسلفه المصنف مؤيدة، وقبل الإفاضة في شرح ما به قاموا، والورود من الينابيع التي حولها حاموا، نرى أن لا بأس بالتنبيه إلى وجه اختيار هذا الموضوع، والمناسبة التي دعتنا لجعله قلبا يلتف عليه هذا المجموع، ذلك بأنه قد تقرر في نفوس الخاص والعام، خطر حلة الأنعام، بسربال الإسلام، ناهيك بحرز يقينا، مواقف السخط يقينا، ودين أتم به الإنعام علينا ربنا ورضيه لنا دينا.
فمن تجمّل بهاته الحلّة الشريفة كان حقيقا عليه أن يبذل في استبقائها ما عز وهان ولا يجعلها معرضة للسلب بطاعة الشيطان. فإنّ الأذى من الغضب والغضب من شيطان وعباد الله ليس له عليهم سلطان، وأعظم سخرية له من ازلقة من باب العبادة، وزيّن له السوء فأعطاه مقاده، كمن يتّخذ الصوم ذريعة للاستهلال الأذى، والفحش والبذا. أولئك الذين أضروا من حيث أرادوا نفعا، وأتوا أنواع المنكر وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولاتقاء حالتهم وعقابها، أتينا بهذا الحديث تبصرة للنفس بهداها، وترغيبا في تزكيتها وقد أفلح من زكاها.
أما استكشاف معانيه، واستجلاء محاسنه من بين ثنايا مبانيه فذلك مقصد يتحصل بالتئام أمرين، ومهيع يتقسم في سبيلين.
الأوّل، الكلام على الحديث الشريف من حيث الرواية سندا ومتنا، والثاني توضيح ما أشتمل عليه من سر التشريع ووجوه البديع معنى ومبنى.
أما المهيع الأوّل فقد ورد مثل هذا الحديث عند بعض الرواة مضروبا عليه باب من لفظه الشريف أعنى قول المصنف باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وليس للأصل فيه تبويب، وإنّما قصر التبويب على الجملة الأولى من الحديث، ولم يشرك الثانية أعني قوله: والمهاجر الخ لأن الكتاب الذي يحوي هذه الأبواب مضاف إلى الإيمان الذي هو مرادف للإسلام في سياق المصنف، أمّا الهجرة فإنّها من أمور الإسلام، فالاعتناء إنّما يكون بذكر لفظ فيه مادة الإسلام حتى يتبين دخول المبوّب له في التبويب.
وقد ساق المصنف هذا الحديث ضمن كتاب الإيمان وبعد الحديث المبين لشعبه، فله من المقامات مقام التفصيل بعد الإجمال كما أنّه يشير بتقديمه بين يدي غيره من أمور الإيمان أنّه له مقام التخلية قبل التحلية.
ورجال هذا الحديث ستّة على شرط الستّة إلاّ آدم فإنّه ليس من شرط مسلم وأبي داود، وقد انفرد البخاري بإخراج جملته هنا وفي الرقاق، وأخرج مسلم بعضه في صحيحه عن جابر مرفوعا «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» مقتصرا عليه وزاد ابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث أنس صحيحا «والمؤمن من أمّنه الناس». وأخرج أبو داود والنسائي أيضا مثل البخاري من حديث عيد الله بن عمر إلا أن لفظ النسائي «من هجر ما حرّم الله عليه». وفيه التحديث والعنعنة والتدبيج، وهي رواية القرين عن قرينه، ونهاية سلسلته الذهبية سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص أحد العبادلة الفقهاء من الصحابة رضي الله عنهم، وكان أكثر رواية من أبي هريرة حيث كان يكتب وأبو هريرة لا يكتب، وليس بينه وبين والده في السن سوى أحد عشر سنة وتقدم إسلامه على إسلام أبيه تلك جملة صالحة تنقع غلة الصادي وتفي بمراده، وتعلة تزيح العلة عن وجه إسناده. أمّا لفظه الشريف فقد استهل بجملة معرفة الجزئين وهي قوله المسلم من سلم المسلمون الخ والجمل التي من هذا النوع ترد لأحد معنيين إمّا للحصر بأن يكون المعنى: المسلم من اتصف بذلك لا سواه، أو يكون المراد التنبيه على أن المسند فيها هو الجزء الأهم، وهو نصاب الكمال، وأنّه بدون ذلك في حيز العدم فلا ينبغي أن تعلق على وجوده آمال، فيكون المعنى في الحديث أن أهم ما يتصف به المسلم سلامة المسلمين من لسانه و يده وربّما شهد لصحة هذا الحمل و التفسير الحديث التالي: «أي الإسلام أفضل؟ قال من سلم المسلمون من لسانه و يده ».
وعليه فأل في المسلم مشيرة للكمال ومن قواعدها أنّ الماهية إذا كانت تثبت بعدة أشياء متفاوتة، ونبهنا على أن الكمال في أعلاها فلا يفيد ذلك سلب الماهية عن أدناها كما تقول: المال الإبل، فإن ذلك لا يفيد سلب المالية عمّا سواها من المكتسبات، فلا يقال: إنّ هذه الجملة سالبة وصف المالية عن نحو الزرع والعقار، كما أنّ جملة الحديث الشريف لا تسلب وصف الإسلام عمّن لم يتخلّ عن الإيذاء، وإنما تفيد حصر الكلام في ذاك كما أن من قواعدها أيضا أنه إذا أنيط الحكم بوصف الكمال فلا ينبغي غض الطرف والإعراض عمّا لا تتقوم الماهية إلا به . فإذا قيل المصلى هو الخاشع فلا ينبغي الإعراض عما لا تتحقق الصلاة إلاّ به من شروط وأركان وأن ذلك مطوي لم يفترق للتنبيه عليه لمعلوميته من العموم وكذلك ما هنا في أن المراد أن ترك الإيذاء هو نصاب الكمال في الإسلام مع مراعاة ما لا يتحقق الإسلام إلاّ به من حقوق المولى جل وعلا.
فمن سلم الناس من يده ولسانه وأدى حق ربه بجنانه وأركانه فهو البالغ غاية الكمال، وهو الرجل الذي يفوق الرجال.
وبذلك يتبين رد ما أوردوه على الجناح الأول من إنّ من لم يسلم منه الناس فليس بمسلم ولو دخل في عقد الإسلام، وما أوردوه على الجناح الثاني، من أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملا أي ولو لم يعقد قبله على التوحيد هذان الوجهان أحكم ما خرج عليه هذا الإسناد، ويليهما حسنا أنّ الحديث من باب وضع العلامة كقولنا الاسم القابل للتنوين ونظيره الحديث المعرف علامات المنافق فليكن هذا الحديث معرفا لعلامة المسلم بأنه الذي يقصر لسانه ويده عن أذية اخوانه. وإذا ورد علينا من لم تتحقق فيه هذه العلامة سهل علينا التقصي بأنّها يجب اطرادها ولا يجب انعكاسها وذكر ابن حجر وجها آخر في التخريج وهو أنه من باب التنبيه بالأدنى على إلاّ على والمراد بذلك الإشارة إلى حسن المعاملة العبد مع ربه لأنه إذا حسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه وقد نقل هذا التخريج العلامة العينى وتعقبه بالنظر والخدش من وجهين:
الوجه الأوّل في جعل ذلك من دليل الإشارة حيث أن ضابطها لا يتحقق هنا إذ الثابت بالإشارة ما ثبت بنظم الكلام وتركيبه غير أنه لم يكن مقصودا من الكلام ولا الكلام مسوقا له وهذا الفرق بينه وبين العبارة قال فانظر هل تجد فيه هذا المعنى؟
الوجه الثاني في دعوى الأولوية أعنى قوله لأنّه إذا أحسن معاملة اخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه فأنه أنكر تلك الأولوية قائلا إنها موقوفة على تحقق المدعى، والدعوى غير صحيحة، لأنّا نجد كثيرا من الناس يسلم الناس من ألسنتهم وأيديهم ومع هذا لا يحسنون المعاملة مع الله.
ولعلّ خدش العيني ليس بذي أثر مؤلم، فإنّا نسلم له ما فكك به بين دليل الإشارة والعبارة، غير أنّ هذا القائل لم يقل أنّ هذا المعنى مستفاد من باب الإشارة، وإنّما أراد الإشارة للغاية التي معناها التنبيه حسبما يدل عليه قوله من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. وأمّا الأولوية التي نفاها مستندا على وجود ما يخالفها فإنها شأنية، وما كان بالشأن لا يقدح فيه التخلف.
وتوضيحه أن المرء إذا قصر جوارحه عن أذية إخوانه رعاية لحق الله فقد أحسن معاملة الله بواسطة إحسانه لعباده، وإذا كان موصى على إحسان معاملته مع ربه بواسطة هذا الأسلوب فتوصيته بإحسان المعاملة معه مباشرة بلا شك تكون أولى، وتخلف هذا الأمر في بعض العباد لا يقدح في تلك الأولوية ومن أمعن النظر في معنى السلامة ووجوه استعمالها في اللسان عرف أنها لا تقل إلا بإزاء ضرر لم يكتسب بجرم فيقال سلم الرجل من العاهات ولا يقال سلم المجرم من العقوبات.
إذا عرفت هذا عرفت حسن موقع التعبير بقوله: من سلم المسلمون ودخول من كان شأنه إقامة الحدود والتعازيز في ضمن من سلم المسلمون من ألسنتهم وأيديهم، إذ ما يقوم به ليس بأذية حتى توصف النجاة منها بالسلامة، وإنما هي تطهير لم خرج من حدود الاستقامة، وما هي إلا كجرحات الطبيب تشتبه في الألم بالأذى وتختلف عنه مغبة وابتد. فلا يليق إيرادها هنا مورد الاعتراض.
والمسلمون جمع لمن اتصف بذلك الوصف الشريف وصيغته الظاهرة قاصرة على الذكور منهم والحكم عام بالنسبة لذكورهم وإناثهم كما أنه شامل لم أجرى مجراهم كاهل الذمة وعليه فالمسلم من لم يؤذ بلسانه ولا بيد مسلما ولا مسلمة ولا مستظلا بذمة مسلم، غير أن إدخال الذميين وحملهم على المسلمين بحكم القاعدة المشهورة ((لهم مالنا وعليهم ما علينا)) والذمّة أحرزت لهم ما أحرز الإسلام لأهله من الدماء والأموال والأعراض. وأمّا دخول المسلمات فقد مال بعضهم إلى أن فيه حذف الواو مع ما عطفت، فأقحم والمسلمات بعد قوله المسلمون ولا احتياج لهذا الإقحام، فإن جمع الذكور يتناول الإناث. أمّا تبعا وأمّا من باب التغليب وعلى التغليب درج الأصوليون، و صححه الفقهاء ففي المنار للحافظ النفسي: والجمع المذكور بالعلامة الذكور يتناول الذكور والإناث عند الاختلاط ولا يتناول الإناث المنفردات و قال هلال لو قال أرضى صدقة موقوفة على إخوتي و له أخوة وأخوات فهم جميعا سواء في الوقف و هذا بمنزلة بنى فلان فالبنون والبنات فيه سواء والمحرر من كلام القدوري في شرح مختصر الكرخي أنّ أبا حنيفة لا يقول بالتناول خلافا لهما، وقولهما قول الأوّل وإنّ محل ذلك كله ما إذا كانت الإضافة إلى رجل يعرف، أما اذا كان أبا قبيلة كما في بنى تميم فلا خلاف، واختلاف رواية في دخول البنات حتى لو لم يكن إلا بنات يدخلن و بهذا تبين خطأ من وفق بين الروايتين بأن ما روى من الدخول محمول على ما إذا كان أبا قبيلة ؛لأنها لا اختلاف فيها، وإنما ذلك فيما إذا كان رجلا معروفا كما عرفت والصحيح قولهما لتصريح قاضى خان بتصحيحه و لتأخير القدورى بدليله وهو إمارة الترجيح على المعروف الصناعي بين الأصحاب و لتفريع الأصوليين عليه كما أسلفناه عن المنار .
والقول بالتغليب نفوذ إلى فسحة المجال كما صرح به المحقق التفتازانى في مطوله، على أنه في شرحه للمفتاح صرح بأنه لم ير أحد حام حول بيان مجازيته وعلاقته و من أي نوع هي وظاهر كلام الفاضل السيلكوتى أنّ العلاقة لم تظهر وذلك غير قادح في المجازية حيث قال وظاهر أن ذلك الاستعمال يكون لعلاقة فيكون مجازا، وإن لم تعلم خصوصية العلاقة، والفرق بين التغليب الذي نقبله والجمع بين الحقيقة والمجاز الذي نرده ما أبداه السعد التفتازانى، وأيّده السيد الجرجاني بأنّ الجمع أنّ يراد بالفظ كل منهما، وفي التغليب أريد باللفظ معنى واحد تركب من المعنى الحقيقي والمجازي و لم يستعمل اللفظ في كل واحد منهما بل في المجموع مجازا والذي لا نقبله من الجمع بين الحقيقة والمجاز نرده إلى عموم المجاز، وهو كما في التلويح استعمال اللفظ في معنى مجازي يكون المعنى الحقيقي من إفراده و اللسان المشترط السلامة من أذيته سبع صغير الجرم ، كبير الجرم بيّن القصر بعيد الأثر ينطلق بلا عنان و يجرح بغير سنان:
جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان وأظهر خواص اللسان النطق والبيان واستعماله في ذلك شائع ذائع لا يتطلب إقامة برهان.
والأذية من حيث هي إنّما تتحقق بمنع حق أو إلحاق نقص ومن حيث تعلقها بالأشخاص منها ما يقصر ضرره ومنها ما أثره.
فاللسان يبسط الأذية بالنكاية والتعبير والتنقيص بحق أو بغير حق وعام التعلق فسهامه تطيش على الحاضرين والماضين والآتين.
واليد أذيتها تكون بمنع الحق وبانتهاك الحرمة، غير أنّها خاصة الأذى بالحاضرين فقدم التحذير من أذى اللسان لمرارة ضرره وعموم أثره ثم ترقى منه إلى التحذير من الأذى اليد لعظم خطره بالنظر إلى ما يترتب عليه من انتهاك حرمات النفوس وإن كان اللسان في ذلك غير مقصر أيضا فقد قال عليه الصلاة والسلام لشاعره المؤيد بروح القدس اهج المشركين فإّنه أشق عليهم من رشق النبل.
واختلف الناظرون في المراد من التعبير باللسان واليد هل المراد خصوص الجارحة أو كنى باليد عن سائر الجوارح؟ قال بعض شرّاح المشكاة: أنّ الأيدي واليدين يوضعان موضع الأنفس لأنّ أكثر الأفعال يزاول بهما، ولا يعرف استعمال اليد المفردة بهذا المعنى وهذا كاف بالرد على من زعم أنه كنى باليد هنا عن سائر الجوارح لان تلك الكناية غير مسلمة إذا كان لفظ اليد مفردا وإنما تسلم تلك الكناية إذا ثنيت اليد أو جمعت.
وتوارد الشرّاح على أن في التعبير باللسان دون القول، إشارة إلى أنّ اللسان لا تقتصر أذيته على القول بل يؤذى بالمقال وبالحال، كمن يخرج لسانه استهزاء بغيره ولعمري إنّ ما توافقوا عليه و توفقوا إليه ليس له لدينا إلا القبول، و إن كان الوجه الذي بدا غير غزير الفائدة، فإنّ الاستهزاء باللسان يتبعه الاستهزاء بالفم، وعليه فيكون التعبير به أولى على أن لا نتسب للتجرؤ إذا ضممنا لما قالوا وجها آخر، وهو أن اللسان بمثابة السلاح الرامي والقول بمثابة النبال المتطايرة منه والمرء مسؤول عمن يوجه إليه سلاحه لا عمن يصيبه بغير عمد فإناطة الإيذاء بالجارح الذي هو اللسان ادل على العمد من إناطته بالقول الذي ربما أصاب من لم يكن مقصودا و حمل الشارح القسطلاني اليد في الحديث على معنييها الحقيقي والمجازي إذ جعلها دالة على الجارحة المؤذية حسا والمستولية على حق الغير بغير حق والمؤذية معنى و ذلك بناء على ما يتسع له مذهبه من جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز و لنا في التقصي عنه طريقان أحدهما التعلق بعموم المجاز الذي تقدم تبيانه و الثاني استفادة حكم اليد المعنوية من دلالة النص المعبر عنها عند الشافعية بمفهوم الموافقة المقسم إلى فحوى الخطاب إن كان المفهوم أولى بالحكم ، ولحنه إن كان مساويا وما نحن بصدده ينطبق عليه إذ كل عالم باللغة يهتدى إلى أن تحريم الضرب باليد مثلا إنما هو لما اشتمل عليه من الإذاية، وذلك موجود في الاستيلاء على حق الغير .
و قوله عليه الصلاة و السلام: “والمهاجر” مشتق من صيغة مفاعلة يحتمل أن تكون على بابها كما قاله الحافظ حيث إنّ من هجر وطنه فهو مهجور منه لا محالة كما يحتمل أن تكون من باب المسافرة والمسارعة والهجرة الاسم منه وهى ضربان ظاهرة وباطنه والظاهرة أثر للباطنه؛ إذ الباطنة ترك السوء الذي تدعو إليه النفس الأمّارة والظاهرة الفرار بالدين من الفتن، وكان هذا خطاب للمهاجرين لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه فهو لهم بهذا المعنى خطاب ترهيب كما يصح أن يوجه للذين لم يقدر لهم أن يدركوا الهجرة و فضلها فتأخر إسلامهم أو وجودهم عن فتح مكة خوطبوا بذلك تطييبا لقلوبهم وأنّ الهجرة الحقيقية هي هجرة ما نهى الله عنه أمر ميسر الأسباب ولا ينقطع على ممر الأحقاب .
هذا ما اقتضاه المقام من الإلمام بالمهيع الأول من الكلام على هذا الحديث الشريف أما المهيع الثاني وهو استكشاف بدائعه و استجلاء روائعه فقد أطبقت كلمة الناظرين فيه انه من جوامع كلمة عليه الصلاة و السلام و انه اشتمل على ما يبعد غوره من اللطائف و المحاسن و أنا بحمد الله شارحون بعض ما كشف الله لنا من أنواره ذلك بأن الحديث هذا الحديث يدل على استيفاء خصال الإسلام كلها و تبيين حقيقة الهجرة و محلها فهو يرشد بلفظه إلى خصال عدمية، وصفات سلبية وهي ترك الإيذاء وهجر المنهيات وهي المعبر عنها بالتخلية وعدم حصولها خطر على الصفات الايجابية لا يؤمن معه عليها التزعزع .
ثانيا إنّ المعاصي والطاعات كل منهما تارة يتساند فيه داعي الطبع ودليل الشرع، ففي المعاصي كمباشرة النجاسات وفي الطاعات كالتزيين للعيد فهذه يأتي المرء ما يأتى منها وينتهي عمّا ينتهى منها لا يجد في ذلك حرجا ولا مشقة تكليف، وإنما يجد الشدة كل الشدة إذا اختلف المقتضى بين دليل الشرع وداعي الطبع، وأعظم ما يكون ذلك إذا دعى لمخالفة الشرع داعي الغضب أو داعى الشهوة و لذلك أوصى عليه عليه الصلاة والسلام بالعدل في الرضى والغضب والقصد في الغنى والفقر وطول اللسان بالأذية يوقده شيطان الغضب وطول اليد بغمط حق، أو انتهاكه ينشأ أيضا عن الشره كما ينشأ عن الغضب فمن قدر على مسك زمام نفسه في هذه المواقف الصعبة، فهو على مسك زمامه في غيرها أقدر .
فالحديث مرشد إلى مراقبة الله في أشدّ أحوال الغفلة وذلك يستلزم دوام المراقبة في سواها كما أنه يرشد إلى أن من كف أذاه عن أخيه وهو نظير له متمكن من القدرة عليه لم يقبض عنه كفه ولا لسانه إلّا خوف الله تعالى فإنه يكون أكثر استشعارا واستحضارا إذا كان بين واجب يؤديه وحرام يتقيه.
وما قلناه من أنّ الطاعات تثقل إذا عارضها داعي الطبع، وتخف إذا أيدها، ذلك أمر مشهور، وبين العلماء مأثور، يشهد له قولهم: الحق ثقيل مر، فإنه لا يكون كذلك إلا على ما ينتهكه، ويصعب عليه تداركه.
وأنظر إلى التوحيد حيث كان هو الفطرة التي فطر الناس عليها، تجد العبد يخف إليه، إلاّ بذكر الله تطمئن القلوب، ولذا اتصفت كلمتا التنزيه بالخفة على اللسان مع الثقل في الميزان، إلاّ وهي سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
[1] – مجلة الهداية، ج4، عدد1،ص23