بيئتنا في المجال الثقافي والاجتماعي
الدكتور التهامي نقرة[1]
إنّ الضعف التدريجي في التفكير الإسلامي، وما يتبع هذا الضعف من تناقض واضطراب سوف يقضي بعد انتشاره إلى انحلال الروح الديني من أساسه، لا إلى نشأة خصائص أخرى بشكل جديد.
وليس من التشاؤم أو المبالغة أن نقول: إنّ المسلمين اليوم -حيثما كانوا- يعيشون في أزمات خانقة، وعقد نفسية مريرة، لم يقتصر خطرها على حملات الغزو الفكري الهدّامة للكيان والشخصية، بل شملت مظاهر التّخلف العلمي والحضاري الذي أصبنا به، وضعفنا في الوسائل التقنية التي بها تزدهر الصناعة، وتنمو الزراعة، ويرتفع الإنتاج كمّا وكيفا، ويتحقق الاكتفاء الذاتي، ويتحسّن المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
ومعظم البلاد الإسلامية عجزت عن أن تبني على أساس القيم الإسلامية ومبادئه نظما عملية في الحياة، تواجه بها التحديات، وتحلّ المشاكل، وتسير مع تطورات العصر ومتطلباته، والثورة المالية وحدها لا تكفي إن لم تتصرف فيها حاجيات التعليم والبناء والتصنيع والتقنية العصرية.
وقديما كان العالم المسلم يجمع بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية، أعني بين المادة والروح، دون أن يحدّ بينها أي تناقض أو تصادم، مثل البيروني وابن الهيثم.
ولعلّه من الموضوعية أن نكتفي اليوم بقيام تعاون متين بين الدول الإسلامية في شتى المجالات، يخضع لنفس القواعد التي يقوم عليها التعاون بينها وبين الدول الأجنبية، لأنّا نرى العلاقات بينها أقّل وأضعف من علاقات بعضها مع هذه الدول التي تربطها بها مصالح حيوية.
أما التبعية السياسية والاقتصادية التي اضطرت إليها بعض الدول الإسلامية اضطرارا بحكم أوضاعها، فمن المغالطة والديماغوجية أن نزيلها بالخطب الحماسية، أو بالتهجمات الإعلامية، أو بالمواقف السياسية، لأنّ العوامل أعمق جذورا من ذلك، وهي تتطلب عملا جذريا من الأساس، وخطة محكمة طويلة النفس، ونضالا متواصلا على مختلف جبهات الحياة.
المجال الثقافي: ففي المجال الثقافي ينبغي اعتبار ما للثقافة من أثر قوي في تحديد اتجاه الأمّة، ومعرفة مميزاتها التي يجب الإبقاء عليها حفاظا على ذاتيتها وقوميتها، ذلك أن الثقافة في حياة الأمم، ليست علوما وآدابا وفنونا فحسب، ولكنّها قبل ذلك وبعده مناهج فكر وأخلاق، تصبغ الأمّة بصبغتها في مختلف فروع النشاط، إنّها تربية متواصلة، تهذّب الوجدان، وتغرس المبادئ، وتكون الذوق الحضاري الرفيع، وتسمو بالأخلاق، وتدعم العقيدة، وتحفظ القيم والتراث الأصيل! إنها التوعية المتواصلة، والتنمية الشاملة، والحركية الذاتية الهادفة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الدين ليس عرقلة للفنّ، ولا قيدا للفكر، ولا حجر عثرة في طريق التطوّر، ومن يدّعي ذلك فهو جاهل لحقيقة هذا الدين الذي له قواعد وضوابط تعصم من التردي في حضيض الرذيلة ومهاوي الإباحية والإلحاد، كما تعصم قوانين الفكر التي لا يعتبر التزامها حدا له، ولكنها تنير أمامها السبيل وكذلك الدستور الذي لا يعتبر حاجزا يمنع التجديد والاجتهاد في مسيرة البلاد ولكنه ضمان لها من الانحراف عن الاختيارات الكبرى، ومن الزيغ عن الخطوط العامة للنظام.
ونحن إذا نظرنا اليوم إلى بعض الفلسفات المعاصرة كيف تصاغ في قالب قصي جذاب يوفر الأجواء الحاملة للشباب خاصة عرفنا مدى تأثيرها عليه، لأنها تثير فيه أحط الغرائز لأنها تعبر عن أمراض النفوس، وحيرة الشباب وقلقهم، في فترة معينة من حياتهم، فتصور له الحياة عابثة، وكل ما فيها مزيفا، والناس يركضون بلا هدف، ويسعون إلى غير غاية، وتتوالى نداءات محمومة تدعو إلى حريّة الجنس، والتحرر من كلّ قيد، حتى قيد التقاليد المرعية في المجتمع، وقيد الفضيلة، والثورة على كل القيم الروحية، ورفض كل شعار إلا شعار الرفض!
كتب أحد الأدباء المعاصرين إلى صديقه رسائل يتذمر فيها من هذا العبث الذي جعل الإنسان يعيش في عزلة واغتراب:
” إنّ الذي استفزني للكتابة هذه المرة هو العبث، لا بمفهومه الفكري كما يحلو لرواد الفكر الوجودي أن يكتبوا، ولا بمفهومه التراجيدي كما يبدو في كثير من الأعمال الدرامية المعاصرة التي تنتزع الدموع من مآقي المشاهدين، ولن أتكلم عن العبث من حيث هو اعتقاد بخطأ ما تقوم عليه بنية الكون ونظام العالم… لأنّ هذه لعبة سخيفة لا تصمد أمام أوضع البديهيات وأبسط الحقائق، ولكني أتكلم عن العبث الذي يصدم الإنسان المعاصر بوجوده كل يوم، ويضغط على أعصابنا، بما ينفخ في أعماقنا من سأم وتهافت، وشعور حاد باللاجدوى. هذا العبث الذي أخذ يطغى على كل عوالمنا: عالم النفس، عالم الأخلاق، عالم الاجتماع.”
إنّ هذا اللون الوجودي الذي يقدم في المقالة والقصّة والقصيد، ويتقمص أثوابا من الفنون الجميلة لا يمكن أن ينصهر في بوتقة الثقافة الإسلامية التي يكونها في نفس المسلم انفعالاته، واستجاباته، وتصوره الشامل لجوانب الكون والنفس، وعلاقتهما بخالق هذا الوجود وبخاصة تصوره لحقيقة الإنسان: منزلته في الحياة، وغاية وجوده، ورسالته ومصيره. والتصور الإسلامي يعمل على دعم ركائز الإسلام في القلوب وفي المجتمعات أن يتساءل: هل إنّ الإسلام -كعقيدة ومنهج عملي في الحياة- يتفاعل مع مشاعرنا؟ وهل أنّ اتجاهنا وتفكيرنا ترجمة حيّة له؟
والحقّ أنّ هذا التمزق الداخلي الذي يحسه كل مسلم هو مأساتان في هذا العصر. لأنّ التناقض الملحوظ في عالم المسلمين اليوم بين النظر والتطبيق، وبين الإيمان والعمل، وبين الدين والحياة جعلنا في مكاننا دون أن نتجاوز معركة الحدود الدقيقة التي يحتد فيها الخصام ويشتد بين المجددين والمقلدين والمتنطعين، وبين المحافظين والمتزمتين والرجعيين. إنّه لا خوف على الإسلام ولا على وحدة المسلمين من الاختلاف الفكري ما لم ينقلب هذا الخلاف إلى المجال العملي فتنة وعداء، وقطيعة وشحناء، ومن فضل الإسلام على معتنقيه أنه ليس فيه حرج ولا إرهاق لأنه دين التوازن والاعتدال: ﴿وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس﴾ البقرة:[143].
في المجال الاجتماعي :
وإذا كان الإسلام يدعو إلى الألفة والتعاون، ويحثّ على الوحدة والتضامن، فإنّه لا يسمح بقيام إيديولوجيات وعصبيات تمزق وحدته، وتفرق كلمته وتبدد قوته، وتجعل بأس أبنائه بينهم شديدا كما نرى اليوم ذلك في بعض الأقطار الإسلامية ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الغزو الأجنبي لا ينحصر اليوم في الجيوش والعتاد الحربي، بل هنالك غزو أشد خطرا، وهو غزو العقائد والأفكار.
وقد أصبح اليوم لهذا الغزو المخطط رواد وعملاء، لا من الخارج فقط بل ومن الداخل أيضا، يعملون عن وعي أو عن غير وعي لحسابه، لأنّ أصحابه أصبحوا اليوم يمثلون اتجاهات سياسية كبرى، أو تكتلات سياسية شبه عالمية تملك من وسائل الدعاية والإغراء والتأثير ما لا يملكه المسلمون في بلادهم، وهكذا فإنّ مبدأ الوحدة في النطاق الإقليمي أو في النطاق العام للإسلام يواجه اليوم تحديا خطيرا من تلك المذاهب الاجتماعية والاقتصادية التي تغذيها الصراعات العنصرية والطبقية والطائفية، والارتباط في المواقف السياسية، وفي النظام الاقتصادي باتجاهات معينة تمثل الانحياز، بل تمثل التبعية. وفي ذلك أكبر عائق عن جمع الشتات، وتوحيد الكلمة والتئام الشمل.
وإذا كان على كل قطر إسلامي أن يكون له إشعاع وتفاعل مع سائر الأقطار الإسلامية ولا سيّما المجاورة له، فإنّ ذلك لا يتحقق إلا إذا استتب في الأمن وساد العدل والاستقرار، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال. ولعلّ أشدّ الأخطار فتكا بالمجتمعات، حرب الطبقات، وصراع التهافت المضني على الكسب فيزداد التناقص بين أفراد المجتمع الواحد وفئاته، من إثراء فاحش، إلى فقر مدقع، وإنّما يتفاقم هذا البلاء ويستفحل في كل بيئة خالية من كل ضابط ديني، أو قيد أخلاقي وفي هذه البيئة ترتفع نسبة المحرومين والعاطلين.
ومن هنا ندرك السرّ في العلاقة التي يجب أن تربط الاقتصاد بالتشريع، وعلماء الاقتصاد يعتبرون أنّ سياسة المال جزء من السياسة الاقتصادية العامة، وأنّ الأحكام الخاصة بتنظيم المال للدولة لا بد أن تكون جزءا من هيكل التشريع العام للحياة الاقتصادية، وأي خلل يصيب الدورة الاقتصادية العامة في بلد ما، يكون له انعكاس على الحياة الاجتماعية، وبالتالي تكون له نتائج حتمية على الوضع العام في البلاد . ومن حقّ كل مواطن مخلص لأمته ووطنه، واع بالمسؤولية المشتركة في بناء مجتمع سليم، بل من واجبه أن يسهم في البحث عن العلل الكامنة في مجتمعه، كما يسهم بآرائه الثاقبة، ونظرته الموضوعية في إيجاد الحلول الناجعة لما يعانيه من أمراض عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، ” كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته” [2] ، وقوله: ” من أصبح وهو لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم“[3].
ولعلّ من أكثف الغيوم التي تحجب المسلمين وغيرهم عن الرؤية الواضحة لحقيقة الإسلام، ما يبدو في بعض المجتمعات الإسلامية من تناقضات، ومن مظاهر مشينة تدل على مدى التخلف الحضاري فيها وهي لا تعلل إلا بالتخلف والجهل، والبعد عن روح الإسلام وتعاليمه السمحة، وإلا فبما يفسر وجود نسبة هائلة من المتسولين ومن هم تحت الصفر في بلد يملك أهله من الموارد الطبيعية الخام ما لا يملكه بلد آخر هو أكثر رفاهية وتقدما. وأوفر نشاطا، وأحكم نظاما، وأعدل حكما؟
وبم يفسر وجود طبقتين في بلد إسلامي تفصل بينهما مسافات وأبعاد. طبقة الأغنياء المتخمين، وطبقة الفقراء البائسين؟
وبم يفسر تخلف بلد إسلامي علميا وتقنيا وحضاريا، وثروته الطائلة ليس لها من أثر في رقي الأمة وحياتها الحضارية؟؟
وبم يفسر؟ وبم يفسر؟ الخ…
وتلك إحدى العوامل الأساسية في انتشار التيارات الأجنبية، الهدامة وتأثيرها في بعض البيئات الإسلامية التي تعيش في صراع طبقي، وفي فراغ روحي، وإفلاس مادي، وفقر إيديولوجي في المنهج الاجتماعي والاقتصادي المطبق ، مما جعل شبابها نهبا لأفكار هدامة، ومذاهب مستوردة، إذ لا يستطيع الشباب المثقف أن يعيش في فراغ، بل لا بد أن يعيش لمبادئ يؤمن بها ويتفاعل معها ومع الأحداث التي يعيشها ، حتى يحس عميق الإحساس بانتمائه لمجتمعه ولأمته، بكل ما لهما من أصالة ورسوخ وتراث روحي حضاري وتمحى العقد والمركبات، ويزول التناقض الذي يقض المضاجع بين قيم الإسلام العليا، وواقع المسلمين الأليم، وتنتهي عوامل التأثير التي تقوم بها المذاهب المخالفة للإسلام، وهذا الاستقلال عن المذاهب المتطرفة وفي طليعتها الرأس مالية الطاغية، والاشتراكية المستبدة هو الذي يعطي لأمتنا نفسا جديدا وتحررا دافعا، فلا يبقى مجال للصراع الإيديولوجي بين أبنائها، لأن الشخصية الإسلامية لهذه الأمة هي التي يجب أن تبقى ما بقى الإسلام دون تطرف أو جموح عن الاعتدال الذي امتازت به، أو التوسط الذي عرفته، وبه انتصرت وسادت!
ذلك هو التحدي الأكبر الذي يواجهنا في هذا العصر من متطرفين إلى اليمين أو إلى اليسار. وهذا التحدي إنّما يعني إنكار جميع مقوماتها وخصائصها المميزة، ويعني إغراءها بالتخلي عن ذاتيتها، وأن تسلّم قيادها لدعاة التبعية في الشرق أو في الغرب سواء أكانت تبعية ثقافية أم اقتصادية أو سياسية.
[1] مجلة الهداية -العدد 3 السنة 5-صفر 1398 = جانفي 1978 .
[2] – أخرجه البخاري، برقم:2554، ومسلم برقم:1829.
[3] – رواه الحاكم في المستدرك، 352/4، والطبراني في المعجم الأوسط، 270/7