خطبة أولى في آداب الحجّ
الشيخ محمد الاخوة
سنة 1379هـ
الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد الذي أنقذنا من كلّ سوء وفساد. فهو الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلّمه الهداية بإتّباع هذا الدين. أمرنا بالأدب في كلّ وسائل الحياة، وندبنا إلى السعادة حتّى ما بعد الممات. فأشهد أن لا إله إلّا هو عظمت علينا نعمه وترادف برّه وكرمه وتزايد إحسانه وإرشاده وفضله. وأشهد أنّ محمّدا بن عبد الله أرسله مولاه بالكمالات الفاخرة والآداب العليّة الكاملة. كيف لا وهو القائل: (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي). فهو معين كرمنا ومنبع أخلاقنا ومنه نقتبس حسن هدايتنا. اللّهمّ صلّ وسلّم عليه صلاة ننعم بتأثيرها يوم العرض الأكبر ويذكُو عبيرها يوم المحشر وعلى آله وصحبه وجميع من كان على سنّته وعمل بهديه وتأدّب بأدبه إلى يوم الفزع الأكبر.
أمّا بعد فيا أيّها الناس الذين رفع عنكم الله الحرج والحرمان والبأس وكنتم قاصدين أداء فرض عظيم فرض علمنا حكمته ومكنون سرّه وعالي تشريعه، عليكم أن تتمسّكوا بآداب كريمة فاضلة زمن أداء عبادتكم العالية وبذلكم تكونون كما وُصفتم خير أمّة أُخرجت للناس تبعدون عن كلّ سوء وبأس. فها هو الله الكريم يخاطبكم حيث يؤدّبكم ويعلّمكم مكارم دينكم. فليس الدين خصوص رهبة روحية بل هو تهذيب وتكوين صالح للنفوس البشريّة. قال سبحانه وهو ربّ البريّة: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:197]. الرفث لغة القول الفاحش المسيء. كما يُرادُ به في لسان الشرع اتصال الذّكر بالأنثى. والفسوق في اللّغة التنابُزُ بالألقاب: ﴿بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ﴾ [الحجرات:11]. وفي اللسان الشرعيّ الخروج عن كلّ ما حدّده الشارع للمُحرم في الحجّ من الصيد والطيب والزينة باللباس من المخيط والجدال الخصام وهذا يكثر عادة في السفر حيث يكثر الزحام بين الناس فحيث كان السفر مظنة للمراء، حرّضنا الله تعالى على البعد عنه ما أمكننا ذلك. والزاد هو الأعمال الصالحة وهو ما يدّخره المرء ليوم الميعاد.
يقرّر ربّي أن للحجّ موسما معروفا وهو ما كان من زمن ابراهيم عليه السلام. وهو الأشهُر المعلومة من شوّال وذي القعدة وعشر ذي الحجّة. فالحجّ عبادة ذات أصل مكين في عرف التديّن بالدين. فما الإسلام إلا قبس من دين ابراهيم عليه السلام. قال تعالى: ﴿مَلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج:78].
ونتيجة هذا التأقيت أنَّ أفعال الحجّ لا تصحّ في غيرها كمطلق كلّ عبادة لها وقت مخصوص تؤدّى فيه. وعليه فمن دخل في هاته العبادة، ويحصل ذلك بالإحرام فهو أوّل عمل الحجّ، فليكن قائما بواجب العبادة بأن يترك الرفث والفسوق والجدال. وليكن مراقبا مولاه حيث لا تخفى عليه خافية فإنّه يعلم ما نُكنّ ونخفي. وليكن متزوّدا بأحسن زاد وهو زاد التقوى. في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: (من حجّ ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه).
عباد الله فمن اجترأ على الله وارتكب ما نهاه عنه في عبادة حجّه فقد أساء العمل ولذا يجبر بالدم فعله إلّا في الجماع قبل الوقوف بعرفة فيفسد الحجّ ويبطل. فإيّانا أن نبطل أعمالنا حيث ننقض غزلنا ونهدم بنياننا. ولنكن أتينا بعبادة ربّنا على أكمل وجوه وأتمّ صورة حتّى نكون مشمولين ومؤتمرين بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران:102].
نعم لم يكن الله ليريد منّا في حجّنا أن نخرج تماما عن وسائل حياتنا وأن نعرض عمّا فيها والتفكير في وسائل معاشها فإن هذا ينافي سرّ حكمة الحجّ التي هي تلاقح الآراء والأخذ بأسباب الحياة مع تهذيب الروح والعمل لما بعد الممات. فإنّك لن تجد مظهرا من مظاهر الدين الحنيف في سائر تشاريعه وكل فرائضه يطلب من العبد الخروج عن أسباب الحياة والاقتصار على الروحانيّات. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77]. وقال عليه السلام: (اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا). وتطبيقا لهذا المبدأ في فريضة الحجّ أعقب الله الكريم الآية السالفة بقوله جل من قائل: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (*) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة:198–199]. يقول الله لا حرج ولا إثم في الكسب في أيّام الحجّ وهو المراد بقوله: ﴿أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾. نعم وإنّما هذا حيث لم يكن هو المقصود الأصلي من الحجّ لأنّ كلّ عبادة يلزم فيها الإخلاص لله تعالى، أي يكون الحاجّ خارجا بنيّة وقصد الحجّ ومع ذلك يتاجر فلا مَنْع منه. قيل في سبب نزول الآية أنّ المسلمين في ابتداء الإسلام كانوا يتأثّمون من كلّ عمل دنويّ أيّام الحجّ حتّى أنّهم كانوا يقفلون حوانيتهم فسألوا رسول الله فنزلت لآية. ثمّ قال تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ أي إذا دفعتم أنفسكم من عرفات وهو الجبل المعروف وسمّي بذلك لتعارف الناس فيه وهو قلب الحجّ وروحه حتّى جعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم نفسه فقال: (الحجّ عرفة).
بعد النزول من عرفة يلزم الاستمرار على ذكر الله تعالى وهو معنى قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ والمراد به جبل المزدلفة. قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾. أي أنّ الله هدانا لهدى الإسلام فلنقابل ذلك بذكره وشكره ولولا هديه لكنّا من الضالين. ثم يقول الله جلّ ذكره: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي عليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد تحقيقا للمساواة وتركا للتفاخر كما كانت تفعل قريش فقد روى البخاري ومسلم أنّ قريشا ومن دان دينهم كانوا يقفون في الجاهليّة بمزدلفة ترفّعا عن الوقوف مع العرب في عرفات فأمر الله نبيّه أن يأتيَ عرفات ثمّ يقف بها ثمّ يفيض منها ليبطل ما كانت عليه قريش. فهذا هو معنى الديمقراطيّة والشعبيّة الكاملة الواضحة الغير الملتوية.
عباد الله، يا قاصدين بيت الله المحرّم هذه وصايا القرآن وآداب الديّان في أداء هذا الفرض العظيم الشأن. فلتعملوا بها تفلحوا ويقبل عملكم وتنجحوا. ولتكونوا في ظَعَنِكُمْ وإقامتكم معطين المثل الكامل للإسلام الصحيح. فإنّ ما يقوم به المسلم هو ما يترجم به للإسلام. فكونوا خير ترجمان لهدي هدى الرحمان. كونوا متأدّبين بآداب السفر من اختيار الرفقة الصالحة فإنّ الرفيق قبل الطريق. ومنها التزوّد للدنيا بما يتبلغ به المرء في معاشه، وقد قال العلماء الخروج بلا زاد معصية، وللآخرة بالعلم الذي يحتاجه المسافر في مناسك حجّه. كما يلزمكم التأدّب بآداب الطريق التي يجمعها قوله عليه السلام كما في البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ علَى الطُّرُقَاتِ، فَقالوا: ما لَنَا بُدٌّ، إنَّما هي مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا، قالوا: وَما حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قالَ: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ). كما يلزم التأدّب بآداب المجالس: من الإفساح لمن تأخّر عن الجلوس. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَح اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا﴾ [المجادلة:11]. كما أنّه لا ينبغي للمتأخّر أن يقيم الجالس ليجلس مكانه. قال رسول الله: (لا يُقم الرجل الرجل من مجلسه ثمّ يقعد فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا). وهو معنى اجلس حيث انتهى بك المجلس. وأن تكون المجالس بالأمانات وأن يسودها الجوّ العائليّ والأنس الأخويّ فإنّ جلوس المؤمن للمؤمن جلوس أخوين من بيت واحد. وأن لا نُسِرّ الحديث مع بعض الجلساء دون البقيّة إذا كان في ذلك إذاية لهم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون ثالث إلّا بإذنه فإن ذلك يُحْزَنُهُ).
عباد الله هذه بعض آداب الإسلام في جلّ مظاهر الحال فلنتمسك بحبلها المتين حتّى نكون بحقّ مسلمين عاملين بتعاليم الدين، مظهرين سِرَّهُ في كلّ الميادين حاملين راية أدبه في كلّ الميادين، سيّما في مظاهر العبادة وشعائر الإسلام والمسلمين.
اللّهمّ اهدنا وأدّب خُلُقنا بآداب الدين وروّض نفوسنا بأخلاق سيد المرسلين. آمين يا رب العالمين.
الحمد لله عَودا واستمرارا وصلاة وسلاما زكيّين على من اصطفيته مختارا، سيّدنا وملاذنا ومن أنقذنا نارا. اللّهمّ يا ربّ بلّغ حجّاج بيتك المحرّم ما تصبو إليه نفوسهم وبلّغهم يا ربّ مقصودهم ويسّر لمن لم تسعفهم ظروفهم أداء فرضهم فإنّك قدير وبالإجابة جدير اللّهمّ جمّلنا بأخلاق القرآن وهذّبنا بهدي ولد عدنان وانصرنا على عدانا يا لطيف يا رحمان. اللّهمّ نعوذ بك من كلّ همّ ونلوذ بك من كلّ كرب ونطلب جودك في كلّ مُلِمَّة يا عظيم المنّة. اللّهمّ انصر المسلمين المجاهدين العاملين على إعلاء كلمة الدين وبصّرهم بما ينفعهم والإسلام وسائر المسلمين. وكن للقادة خير معين وملهم للخير العميم. لاسيّما لجناب رئيس هذا البلد الأمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. ويغفر الله لي ولكم وهو الغفور الرحيم.
اللّهمّ اهد أولادنا – ثلاثا – واجعلهم وارثين للإسلام عاملين على نشر تعاليمه بين الأنام. اللّهمّ نعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ودعاء لا يسمع. ونعوذ بك من سوء المنقلب وعذاب القبر. اللّهمّ إنّي أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت. ولذّة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضرّاء مضرّة ولا فتنة مضلّة. اللّهمّ لك الحمد وإليك المشتكى وبك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلّي العظيم. وأصلّي وأسلّم على أكمل مخلوق وأشرف مبعوث رحمة للعالمين، هادي الأنام بشرعه إلى يوم الدين، وعلى آله وصحابته وأتباعه أجمعين. اذكروا الله يذكركم.
محمد الأخوة.