حجاب المرأة المسلمة
الشيخ محمد الأخوة
الحمد لله مُريد الخير ومُبعد الضرر عن الجنسين بتحقق العلاقة بينهما مع كمال العفّة لهما، فداعي العلاقة طبيعي فيهما وداعي العفّة عملي بينهما، فسبحانه من إله حكيم مدبّر لشؤون عبده وهو به رحيم قصد إسعاده حتى يفوز بالدرجات العُلى ونشهد أنّه إلهنا واحد لا ثاني له أرسل لنا رسوله محمد بن عبد الله بشرع قويم ودستور عظيم لا يرجى من دونه خير من أيّ تشريع وتنظيم ماحيًا لكلّ ما سبقه حيث يخالفه وهو تعالى غير راضٍ ولا قابل لنظام أو قانون ينسخه إذ يقول وهو أصدق القائلين: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِهِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام:115]. اللَّهُمَّ صَلِّ وسلم وبارك على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم كما صليت وسلمت وباركت على سيّدنا إبراهيم أصل شرعنا وملّتنا بمنطوق كتابنا قال تعالى في سورة الحج آية 78: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّٰكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران:67]. اللَّهُمَّ لا هادي إلا من هديته ولا ضالٍ إلا من أضللته وأنت ربّ العالمين ولا حول ولا قوة إلا بفضلك وأنت أرحم الراحمين.
أمّا بعد، فيُعلن القرآن الكريم بلسان عربي مُبين بلفظ واضح في معناه بعيد في مرماه في الحفاظ على العِفّة وشِيَم الخُلُقِ العظيم: ﴿وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَاۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَائِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُنَّ أَوِ التَّٰبِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ اَلطِفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31].
يخاطب الله المرأة المؤمنة المُنقادة لأمر الله تعالى بأنّه يجب عليها أن لا تنظر إلى من لا يحلّ لها النظر إليه نظرًا فيه تلذّذ كما عليها أن تحفظ نفسها عن غير زوجها الذي هو حلال لها وهي حلال له، كذلك عليها أن تستر جسدها ما عدا الوجه والكفين وهو المراد بإبداء ما فيه الزينة، وهذا الستر للجسد هو المراد بضرب الخمار على الجيب؛ أي مكان الجيب، والخمار ما يغطّي الرأس وهو مسترسل على العنق فيخفي الرقبة والصدر وطبيعي الظهر، فينزل على مكان الجيب الذي هو الصدر، وبهذا فيكون المراد ستر الرأس والرقبة والصدر مع الأطراف لأنه يتبع تغطية الصدر، ولا يجوز لها كشف ذلك إلا للزوج وهو البعل أو الأب فيرى منها رأسها وأطرافها، ومثله أب الزوج والابن أو ابن الزوج وهو الربيب لأنّ زوجة أبيه حرام عليه كأمّه، والأخ وابن الأخ وابن الأخت، وكذلك المرأة مع المرأة المسلمة وهو المراد نسائهن، والرجل إذا كانت تملكه ملك اليمين لأنّها لا تحلّ له، والرجل الذي لا أرب له في النساء؛ أي: لا يشتهي الجنس، كالمعتوه الذي لا يفكّر فيه، والخصيّ فإذا كان واحدًا من مثل هذا وهو تابع للمرأة كخادم لا حرج في كشف نحو رأسها معه، ومثل ذلك الصغير قبل سنّ المراهقة فلا يطرق ذهنه أمر المرأة فذلك يجوز الكشف معه.
ثمّ يقول الله تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾؛ أي: لا يجوز للمرأة أن تفعل شيئاً يكشف ما تحت الحجاب من زينة سواء في ثياب كتطريز وزخرفة أو حليّ تزين به وعليه فالمطلوب من شرع الله وسُنَّة رسول الله أن تحتجب المرأة؛ أي تستتر بثوب لا زركشة فيه جسدها من رأسها إلى قدميها ما عدا الوجه والكفّين إلا إذا خشيت الفتنة فيجب ستر الوجه أيضاً، ثم عليها أن تستر أثوابها المزركشة وسائر حليّها، هذا طلب الله من المرأة ومن الرجل بأن يأمرها وينهاها. قال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَيْكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:6].
عباد الله : قد علم الله أنّ الناس كثيرًا ما يقعون في هذه الخطيئة قديمًا وحديثًا فطلب منهم الإقلاع والتوبة حتى يكونوا مصلحين وسعداء بذيوع العفّة والشرف والبعد عن الخناء والسوء فقال: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31] فهذا حكم الله ودينه وشرعه الذي أنزله على رسوله محمد ﷺ لا شرع فئة أو عنصر فهو وجهة واحدة وحكم واحد لا التواء فيه ولا خفاء والله يحكم بما يريد ويشاء.
عباد الله: إذا كان حكم الحجاب في الإسلام جاء موافقًا لتعاليم النصرانية إذ أوجبته على النساء، وكذلك اليهودية الصحيحة، فهل في هذا تقليد النصارى وبُعد عن الأصالة بدعوى أنَّ هذا الحجاب عرف في اليونان والرومان، كلا ومعاذ الله بل هو من باب توافق الشرائع السماوية فيما جاء عن ربّ البريّة لأنّ طلب العفّة من حماية الأعراض وهي من الكليات الخمس التي انبنت عليها كل الشرائع الصحيحة من لدن آدم إلى شريعة الإسلام، فإذا رجع الإسلام إلى موافقة ما جاء قبله فذلك عن الأصالة والتركيز في حكم الله في الأرض بلا تمييز. ثمّ إذا صدعت ألسنة معترضة على هذا الحكم من وجوب حجاب المرأة خوف الفتنة ومسّ العرض فلِمَ لا يطالب الرجل إذا كان مفتنًا بالحجاب أيضًا حتّى قيل سخريةً على وجه التساؤل: أكانت عزيمة المرأة أقوى من عزيمة الرجل، فهو ضعيف أمامها وهي قويّة أمامه، قلنا: إن تسخروا منّا فإنَّا نسخر منكم كما تسخرون.
خرست هذه الألسن وبكمت، ألم يكن من الشرع العزيز الطلب بإعفاء اللحيّ وتبين الشارب وما ذلك إلا لتثبت الرجولة والبعد عن التخنّث والتشبّه بالمرأة قال ﷺ: (قصّوا الشارب واعفوا اللحى) فقضت حكمة ربّنا تعالى تركيز الأنوثة في المرأة وتركيز الرجولة في الرجل، ولأجل هذا حرّم تشبّه أحدهما بالآخر قال ﷺ: (لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل) [أخرجه أبو داود والحاكم]، وقال ﷺ: (لعن الله الرجلة من النساء) [أخرجه أبو داود].
نعم؛ يطلب من الرجل كالمرأة أن يغضّ بصره عن النظر للمرأة، لا يجوز له أن ينظر إليها قال الله تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [النور:30]؛ أي: إنّ حفظ الناس أبصارهم عن الحرام وحفظ فروجهم عنه كان ذلك مدعاة للتزكية والطهر. أخرج مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (سألت النبي ﷺ عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري). وأخرج أبو داود والترمذي قال رسول الله ﷺ: «لا تتبع النظرة النظرة فإنّ لك الأولى وليس لك الآخرة». ومعنى هذا أنّ النظرة الأولى لا تصحبها شهوة ولذا اغتفرتْ بخلاف الثانية فشأنها الإمعان الذي ينبع من الشهوة فلا خطر في الأولى بخلاف اللاحقة فأمرها خطير ومن هنا كان نظر المرأة للرجل حرامًا وهو ما أمرتْ فيه بغض البصر. ومباحًا إذا كان شأنه لا خوفًا منه وعليه يتنزّل ما كان من هديه ﷺ كما في الصحيح إنّه ﷺ جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد وعائشة أمّ المؤمنين تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتّى ملّتْ ورجعتْ، فإن كان بشهوة حرم النظر من المرأة للرجل، وعليه يتنزّل حديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها إنها كانت عند رسول الله ﷺ وميمونة رضي الله عنها قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أمّ مكتُوم فدخل عليه وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا ينظرنا ولا يعرفنا، فقال رسول الله : «أوَ عمياوان أنتما ألستما تبصرانه».
نعم؛ يا الله هذا هديك ودينك وهدي محمد رسولك ﷺ وإن هرج المهرجون وضل الضالون وعميت البصائر ففُتن كل مفتون ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَٰنَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:108]. صدق الله العظيم.