خُطبة جمعة بعنوان: رُوح الحجّ

الشّيخ عبد الرّحمن خليف –رحمه الله- إمام جامع عقبة بن نافع بالقيروان

الخُطبة الأولى:

الحمد لله الذي أبدع خلق الإنسان فجعله سميعًا بصيرًا، وهداه السّبيل إمّا شاكرًا وإمّا كفورًا، أحمدُه سبحانه أكمل الحمد وأتمّه وأَوْفاه، وأشهد أنْ لا إله إلّا الله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتديَ لو لا أن هدانا الله، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا عبد الله ورسوله ومصطفاه، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته ومَن اهتدى بهداه.

أمّا بعد؛ فإنّ الحديث يَكثرُ في المجالس في هذه الأيّام عن الحجّ وما يتّصل بالحجّ، والحديث عن الحجّ شيّقٌ محبوب، مِن أجل هذا أردتُ أن أُجيب عن خمسة أسئلة تتعلّق بالحجّ، وهو ليست خصوص المناسك وكيف يتصرّف الإنسان وما إلى ذلك من الأحكام؛ الأركان والواجبات و…..، لا، إنّما هذه الأسئلة تتعلّق بــالرُّوح التي يتضمّنها الحجّ، لأنّ كلّ شيء في الحياة فيه ظاهر وفيه باطن، الأمُور الظّاهريّة يَلمَسُها كلّ إنسان ويُدرِكُها إدراكًا واضحًا لا شكّ فيه، لكنّ هناك أشياء هي في بواطن الأمُور لا يَعلمُهُنّ كثيرٌ من النّاس.

والأسئلة الخمس تتعلّق بهذه الأشياء؛ السُّؤال الأوّل: لماذا فرض الله الحجّ؟ السُّؤال الثّاني: لماذا يقع التّنقّل لأداء هذه الفريضة؟ لِمَا لا يقع مثل الصِّيام بحيث يَصُوم النّاس في بلدانهم إذا جاء شهر رمضان، هذا الرُّكن يقضِيه النّاس في دِيارهم إلاّ أنّ الحجّ فيه الانتقال. السُّؤال الثّالث: لماذا كان الانتقال بخصوص تلكمُ الأماكن فلِمَ لا يقع في مكانٍ آخر؟ السُّؤال الرّابع: لماذا كانت تلكم الأعمال لذاتها من طواف وسعيٍ ووقوف بعرفات ورمي الجمار، لماذا كانت بذلك الشّكل. وأخيرًا وهو السُّؤال الخامس: لماذا لا يتكرر فرض الحجّ عل  كال عام في كلّ عام كما يتكرّر الصّيام، وإنّما أوجبه الله على النّاس مرّةً في العمر، وله أن يتبرّع ويَتطوّع فيما بعد، إنّما هو يمتاز بأنّه مرّةً وحيدة فرضها الله على الإنسان.

إذا أردنا أن نعرف الأجوبة عن هذه الأسئلة فالنستمع الآن؛

الجواب عن السُّؤال الأوّل: وهو لماذا فرض الله الحجّ؟ كلّ النّاس في جميع أنحاء العالم يعرفون أنّ الحياة ما تكون آمنة ومُتطمئنّة إلاّ إذا كانت في نظام خاصّ، وهذا النّظام الخاصّ اتّفق كلّ البشر على أنّه  تُدِيره سُلطةٌ مُعيّنةٌ، وهذه السُّلطة قد تكون سُلطةَ رئيس أو سُلطةَ ملك أو سُلطةَ أمير، ومهما كان نوع السُّلطة فهم يَخضَعون إليه، لكنّ هناك سلطةً أخرى هي أقوى وأعلى وأعظم مِن هذه السُّلط الموجودة التي وضعها النّاس لأنفسهم، هي سلطة خالق الأكوان سبحانه وتعالى، هي مُسلَّطة حتّى على الحاكمين  والمحكومين عليهم.

فمِن هنا كانت صِلة أهل الإيمان بربّهم تختلف عن صِلتهم بأصحاب السُّلطة مِن أمثالهم مِن البشر، لأنّ سلطةَ الإنسان المؤمن بربّه تتميّز بأشياء كثيرة، من هذه المُميّزات أنّها سُلطةُ إيجادٍ وإمدادٍ، فالله هو الذي أَوْجَدَنَا وهو الذي  يُمدُّنا بما فيه بقاؤُنا في هذه الحياة،  بدليل أنّنا نستغيثُ بالله ليُمطرنا حتى يتوفّر لنا الغذاء إلى غير ذلك مِن كلّ ما هو سبب في بقاء الإنسان من حياة وغيره، إنّما هو بيد الله سبحانه وتعالى. فالله بيده الإِيجاد والإمداد، والله سبحانه وتعالى هو الذي يتولَّى شؤون الإنسان، خاصّة المؤمنين يتولّاهم تَوَلِّيًا خاصًّا  حيث يقول في القرآن: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ فلا يثق المؤمن وُثوقًا تامًّا لا تردّد فيه إلاّ بالله تعالى لا بأبيه ولا بأمه ولا بأخيه، ولا ولا ولا … هذه كلّها أوهام، لأنّ القرآن قصّ علينا؛ مَن أقرب للإنسان مِن الأخ؟ أخوه أقرب النّاس إليه، ومع ذلك إخوةُ يُوسُفَ أَلقَوْه في الجُبّ، ومَن أقرب النّاس مِن آبائهم، والدُ إبراهيم هدّده بأنه قال: ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ إلى أن بيّن الله سبحانه وتعالى أنّه في يوم القيامة ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ ، من أجل هذه العلاقة الخاصّة بين المؤمن الصَّادق وبين ربّه سبحانه وتعالى، فعلاقة الإنسان بربّه إنّما هي علاقة عاطفةٍ ومَحبّةٍ وشوّقٍ بالإضافة إلى أنّها صِلةُ طاعة فهي طاعة ليست طاعة مَمْلوءة بالكراهيّة ولا بالبغضاء ولا بالنُّفرَة وإنّما كلّ مؤمن يعلم أنّ صِلتَه بربّه هي صلةُ محبّةٍ وشوقٍ وعاطفةٍ قويّةٍ، لمّا كان الإنسان بهذه الصورة وعلمنا أنّ الله تعالى وليُّ المؤمنين، وعلمنا أنّ الإيمان يَدعُو الإنسان ليتعلّق بربّه، وعلِمنا أنّ علاقة الإنسان بربّه علاقةُ شوقٍ ومحبّةٍ، ولمّا علِمنا هذه الأشياء، علمنا أيضًا أنّ الإنسان من طبيعته البشريّة أنّه في حاجة إلى الإعراب عن شوقِه وحنِينِه ومحبَّتِه لمن يُحبّ تعبيرًا واضحًا صادرًا عن إحساس صادقٍ، مِن أجل هذا جعل الله له أمكنة يُعرِبُ فيها عن تعلّقه بربه وطاعته له وأنّه يشهدُ له بأنّه مالك كلّ شيء، وأنّه في حاجة إلى مَؤُونته وعبادته والتّذلّل إليه لأنّه لا وليَّ له سواهُ، فشرع الله سبحانه هذه العبادة ليُعرِبَ الإنسانُ فيها عن ولائِه الحقيقيِّ لله تعالى ومحبَّته لربّه وتعلّقه به. هذا هو السّرُّ أو جانب مِن السّرِّ في فرض هذه العبادة على المؤمنين.

وأمّا الانتقال الذي شَرعه الله مِن مكان إلى مكان، لماذا لا يَحُجّون في بيوتِهم كما يصومون في بلدانهم، لأنّ الله سبحانه وتعالى عَلِم أنّ الإنسان يتأثّرُ جسديًّا قَبْل تأثُّرِه رُوحيًّا، فالجسد إذا انتقل  مِن مكان إلى مكان وتغيّرت به الأحوال كان ذلك حافِزًا له على الإحساس والشّعور -الشّعور الباطني- بأنّ هناك تحوّل أيضًا يزيدُ على التحوّل الجسماني، هنا يتحوّل رُوحاني، مِن أجل هذا فكانت عمليّة الانتقال وعمليّة تغيِيرِ اللِّباس لأنّه مفروضٌ على الحاجّ وخصوصًا الرّجال بالذّات، يُغيِّرُون ملابسَهم كلّ ذلك بما في ذلك تغيِير المكان وتغيِير الملابِس يجعلُ الحاج يشعر بأنّه خرج مِن المألوف مِن الحاجات التي كان يَألَفُها مِن مسكنه وملابسه، حتَّى أبناء مكة فخرُوجهم إلى عرفات وإلى مِنَى هو تنقُّل مِن مكان إلى مكان كلّ حاج لا بدّ أنّ الله سبحانه وتعالى جعل هذا التّغيُّر الجسماني سواء أكان في المكان أو في اللِّباس جعله وسيلة ليقعَ الإحساس الرُّوحاني مِن باطن الإنسان بحيث تكون هذه الأحوال كلّها دليل على يَقْظَةٍ فكريّة وعلى مسرّة نفسيّة وعلى مُتعَةٍ روحيّة.

وأمّا الجواب على السّؤال الثالث وهو المكان الذي خَصّصه الله سبحانه وتعالى للقيام بهذا الرُّكن الدِّيني؛ لماذا كان هنالك، هذه الأمكنة عظّمها الله سبحانه وتعالى وربطها بأحداثٍ وقعت فيها، ولذلك على الحاج الواعِي أن يُدرك هذه الحقائق ليست هي أمور مجرّدة أنّ الإنسان يسعى ويطوف ورمي الجمار فقط، إنّما ما هو السبب الذي فرضه الله سبحانه وتعالى على المؤمن أن يَقُومَ بها ليربط صِلته بصلة أبِ الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-، لأنّ كلّ مشهدٍ مِن مشاهدِ المناسكِ له صِلة بهذه الأُسرةِ الطّيّبة التي أرادها الله أن يجعلها مثالاً لأهل الإيمان، لماذا؟ أوّلاً: هذا المكان وهو مكّة المُكرّمة ليس فيها بساتين ولا مناظر خلاّبة التي تُنعشُ النّفس و.. لا، إنّما هو وادي غير ذي زرع كما قصّ ذلك سبحانه وتعالى، فأوحى لإبراهيم -عليه السلام- أن يَذهبَ ويَسكنَ بزوجته هاجر -عليها السلام- في ذلك المكان، هي وولِيدُها إسماعيل -عليه السلام- الذي كان رضِيعًا فأقام أيّامًا ثُمّ ترك زوجته هناك، بواد غير ذي زرع، ولمّا خرج وأعلم زوجته بأنّه أَوْحَى الله إليه أن يذهبَ في مُهمّة الدّعوة لله تعالى فكانت تقول: لمن تتركُنا يا إبراهيم لمن تتركُنا وهي تمشي خلفه، إلى أن قالت له: آالله أمرك بهذا؟ عندئذ التفت إليها وقال لها: الله أمرني بهذا، قالت: إذًا لا يُضيِّعُنا، وبقيت تلك المرأة هناك وخرج هو في سبيل الله، هو لم *** للحياة والتّرفّه فيها وإنّما صبرَ على أمر الله وتوجّه إليه، لم يقطع صِلتَهُ بالله حيث إنّه قال: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ ثُمّ دعا لهم فقال: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ صبر لِأَمْرِ الله تعالى، أَمَرَهُ الله تعالى؛ لا يُفكّر لعلّه ربّما وربّما وربّما،،، قال الله انتهى الأمر، هذا هو الإيمان.

ثُمّ هذه المرأة ترك لها زادًا خفيفًا قليلاً مِن الماء فلو انتهى عنها الماء بكى الطفل الصّغير لأنّه لم يجد عند أمّه حليبًا يَمتصُّه كما كان، فأخذ يبكي وكانت المرأة في غاية الذُّعر وليدُها لا طائر يطير ولا فارس يسير فكيف تكون الحال والطّفل الرّضيع يبكي، فؤادها تمزّق ولكنّها مُطمئنّة إلى أنّ الله لا يُضيّعهم كما ذكر. فأخذت تَسْعَى فسعت بين ما بين الصّفا والمروة، الصّفارة عبارة عن رَبوة صغيرة جبل، والمروة كذلك عبارة عن رَبْوة صغيرة في حافة جبل، فأخذت تسيرُ بين الصّفا والمروة، وتصعد على الصّفا مرّة وعلى المروة مرّة، تتطلّع إلى بعض القوافل ربّما تمرّ بعض القوافل وتطلب منهم شيئًا من الماء لتَبُلَّ ريقها ولعلّ عندئذٍ الحليب يسري في بدنها. فكانت تذهب وتروح كم بين الصّفا والمروة؟  أسفل النُّقطة قبل الصّعود إليها تبلغ 374 ميتر .. هي تذهب وترُوح سبع مرّات تصعد هنا وهناك، وتلتفت إلى أن سمعت هَمْهَمَةً يعني صوت غير واضع فقالت أغِثْنَا يَرْحَمُك الله، فأنزل الله جبريل -عليه السلام- فبحث بجناحه الأرض فنبع ماءُ زمزم وأخذ يفُور ويقي ماء زمزم إلى هذه اللّحظة وإلى ما بعد هذه اللّحظة، كلّ الآبار في العالم نسمع أنّها المائدة قد جفّت منها وأنّ وأنّ … ولكنّ ماء زمزم من تلك اللّحظة، آلاف السّنين وهي باقية وهي بركة لا تنقطع وقد أثنى عليها رسول الله وعرفنا بذلك حينما قال: «ماء زمزم خير ماء على وجه الأرض». فصبرت هذه المرأة. فكان مِن السِّرِّ أنّ الحاج حينما يَسعى بين الصّفا والمروة يتذكّر أنّ في حياته أوامر إلهيّة وهي صعيبة وعسيرة، لكن مهما بلغت لا يمكن أن تبلغ ما بلغت هذه المرأة حيث تُركَت دون زادٍ ولا ماءٍ ولا … وولدُها الصّغير، ولا أنيس معها، ومع ذلك صبرت على أمر الله، فماذا كانت النّتيجة؟ أنّ الله لا يُضيِّعُ  عبده المؤمن إذا ثبت على طاعة الله تعالى واستقام على أمره، ليس لها غاية أخرى، والابتلاء موجود في الحياة وهي المشاق والمشاكل التي تعترض المؤمن ولكنّه إذا تمسّك بحكم الله تعالى وتَبصَّرَ المتمسّك في حكم الله لأنّه يقول هذا حكم الله في أمور أخرى بعيدة عن رضوان الله تعالى، أمّا إن كانت مِن قِبَلِ الله وهو مؤمن، فعلامة إيمانه الصّبر والاستقامة ولا بدّ كما قال الله تعالى وهو الصّادق: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾، كرّر القرآن، دائمًا وأبدًا وإنّما يدعو النّاس ويؤكّد لهم فأهل الإيمان مطمئِنّون إلى وعد الله تعالى وأهل الخسران تفزعُهم هتفات الشّياطين والعياذ بالله، هذا بعض ما يحدث في الصّفا والمروة. ثُمَّ ما وقع لإبراهيم –عليه السلام- دعونا ممّا حدث له قبل الذّهاب إلى الحجاز، إبراهيم ولد في الأيّام الكلدانيّة في العراق في مدينة أُور، وامتُحِنَ أعظمَ امتحان لا يُمكن لأيّ بشرٍ أن يمرّ بالامتحان الذي مرّ به إبراهيم –عليه السّلام- حينما طغى حاكم ذلك الزّمان وأراد أن يُلقِيَه في النّار بل وبالفعل سعَّروا النّار وألْقوه فيها، فقال الله: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾، ونجّاه الله، فالامتحان كان شديدًا، ولكن قوّة الإيمان كانت أشدَّ من ذلك الامتحان، فنجّاه الله سبحانه وتعالى، هذا الامتحان عظيم لِربّ هذه الأُسرة، ثمّ ابتلاه الله سبحانه وتعالى بأمر آخر هو أنّه أَوْحَى إليه أن يذبَحَ وَلَدَهُ وهو امتحان مِن الله، ربّما البعض ينزعج مِن هذا الكلام، كيف يمكن للإنسان أن يذبح ولده، نعم حينما رأى في المنام رؤية، ورؤية الأنبياء وَحْيٌ خصّهم الله سبحانه وتعالى بأنّه يُوحِي إليهم في النّوم وفي اليقظة، فقال لولده كما قصّ الله سبحانه وتعالى في القرآن: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ﴾، وهذا مِن الآداب المعروفة، لا أنّه فرض على ولده هذا الأمر ليَتبيّن مِن حكم الله سبحانه وتعالى أنّ هذا الولد نسخة مِن أبيه، كيف أنّه رَضِيَ بما قال أبوه إنّه رأى رؤية وهي من قِبَل الله، والله مَوْلَى الجميع، ليس مَوْلَى لإبراهيم فقط، لإبراهيم ولأبنائه وللبشريّة كلّها، والله خالق كلّ شيء كما قال في القرآن فلمّا قال له: ﴿إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾، دائمًا وأبدًا يُفوّضون الأمر لله، هذه الأُسرة العَلِيّة، هذه الأُسرة الرّائعة كانت مواقِفُها كلّها مثال للأمّة المُؤمنة حتّى تتّخذها قدوة ولو لنصف في المستوى ولو لربه المستوى ولو لواحد في المائة من المستوى، أين صبر الصّابرين الذين يأمرنا الله سبحانه وتعالى بهم في القرآن العظيم على ما يَبْتَلِي به عباده في هذه الحياة. فشرع الله سبحانه وتعالى الأُضحية حينما نجّى إبراهيم –هي المسألة مجرّد إمتحان إلهي-، وإبرايهم كان عازمًا على التّنفيذ، كما قصّ الله سبحانه وتعالى حين قال: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أرْقَدهُ على الأرض وأراد أن يَذبحه بالفعل فأَوْحَى الله إليه: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾، لماذا قصّ الله علينا هذه القصّة؛ لنقصّر بها الوقت، لنقتل بها الوقت كما يقول النّاس، لا وإنّما ليَعتَبِر بها المؤمنون، فالحاج يقدّم الهدايا التي تُذبح هناك، والحاج يَسعى، والحاج يرمي الجِمار، لماذا رمي الجمار؟ رمي الجمار هو في أيّام العيد تبدأ من اليوم الأوّل وتستمرّ ثلاثة أيّام لمن شاء أو … المهمّ في الموضوع هو أنّه حينما عزم على ذبح ولده إسماعيل كما أمره الله سبحانه وتعالى، نعم؛ لَمَّا عزم على ذلك تمثّل له الشّيطان في صورة مادِّيّة يَراها واعترضه كَنَاصحٍ وأخذ يُخاطِبه ويرقّق قلبه على ولده، كيف يهُون ولدك الوحيد، وحينها لم يُولد سيّدنا إسحاق، لأنّ إسحاق وُلِدَ وعُمُرُ سيّدنا إسماعيل -الذي أمر الله سبحانه وتعالى أن يذبحه أمرًا مجرّدًا عن التّنفيذ- كان هناك عُمُرُه ستّة عشر عامًا، فأخذ يرقّق قلبه ويُلاطِفه أيهُون بك كذا، لكنّ إبراهيم عليه السّلام لم يجد أيّة وسيلة يَدفَعُهُ بها إلاّ أنّه ركع إلى الأرض وأخذ منها حصيّات صغيرة مثل حبّة الحمص وقذفه بها سبع حصِيّات فساح الشّيطان في الأرض ثمّ كرّر وأنّه لا ألحَّ من الشّيطان يأتي الإنسان ويُوسوس ويُعيد ويُعيد ويُعيد وهكذا .. هذا هو شأنه فأخذ يُلحّ عليه فاعترضه في  جمرة فأخذ حصِيّات وحذفه بها فساح في الأرض ثمّ جمرة العقبة فكذلك تمّت العمليّة مرّات. الله سبحانه وتعالى حين جعل هذا مِن واجيات الحجّ هذا الرّمي الذي يُسمّيه بعض النّاس رجم الشّيطان هو تذكير للنّاس بأنّ ما حدث لإبراهيم سيحدثُ لكم قبل الحجّ ومع الحجّ وبعد الحجّ دائمًا وأبدًا هذه مُهمّة الشّيطان ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾، الحروب الأخرى يعرفُ الإنسان الجهات التي يقعُ الهجوم مِن قِبَلِها، بينما هجمات الشّيطان تكون وهو في المنزل وهو في المسجد وهو في الطريق وهو في الإدارة … في كلّ مكان. ولذلك يتبيّن للحاجِّ بهذه العمليّة التي فرضها الله أنّه سيَعترِضُك **** كما اعترض إبراهيم عليه السلام، وليس لك أيّ سلاح إلاّ  أبسط الأسلحة كما إبراهيم رماه بالحصيّات أنت  ترْمِهِ بالاستعاذة [أعوذ بالله مِن الشّيطان الرّجيم] وقُلها بقلبٍ صادقٍ فإنّه يصرفُه الله عنك، وهكذا، ولا ترجع عن طريقك إلاّ في السّبيل الذي شرعه الله لك ولا خوف عليك، كلّما تكرّر معك، كرّر أنت الاستعاذة فذلك هو سلاحك. ليست الأمور مجرّد عمليّات لا معنى لها كما يظنّ كثير مِن النّاس يذهب ويأتِ ويقوم بالأعمال الظّاهريّة وأنّ رُوحَ أداء المناسِكِ وما تُوحِي به هذه المناسك والأسرار التي جعل الله لها المناسك لا تمدّ لهم بخاطر.

وأمّا الجواب عن السُّؤال الأخير؛ وهو لماذا لا يتكرّر الحجّ كتكرّر الصّيام، بحيث يُفرضُ على الإنسان في كلّ عام، وإنّما فرضه الله مرّة في العمر. الجواب عن هذا في مُنتهى الوُضُوح لأنّ المَوْلَى سبحانه وتعالى رؤوف بالعبا،د فلو كان الأمر كذلك كيف  يكون الأمّة الإسلاميّة الآن التي تعدّ ما يزيد عن مليار كافّة المسلمين جميع انحاء العالم، هل تتّسع لهم مكّة أو المسجد الحرام؟ كلّ ذلك صعب، مِن لُطْفِ الله تعالى  أنّ هؤلاء الذين أرادوا أن يُعربوا عن شوقهم ومحبّتهم لله وتعلّقهم به وبطاعته شرع لهم مرّة في العمر يُعبّرون عن ما يُطفِئُ لهيب الشّوق وحرارة المحبّة لله تعالى؛ فمِنهم مَن يبكي ومِنهم مَن يَدعو ومِنهم مَن يتضرّع لله سبحانه وتعالى، وأعظمَ الجزاءَ للجميع، هذا  ما كانت تُنصت له آذان المتشوقين كلام الله سبحانه الذي يُطفِئُ لهب محبّة الصّادقين، أعوذ بالله مِن الشّيطان الرّجيم: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.

نفعني الله وإيّاكم بكتابه، ورزقني الله وإيّاكم الوُقُوف مع آدابه، وأجارني وإيّاكم مِن غضبه وعقابه، وحشرني وإيّاكم في زمرة نبيّنا محمّد –صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وأصحابه-، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

الخُطية الثّانية:

الحمد لله الذي نهى عن أشياء معدودة في الحجّ، ورغّب في أشياء غير محدودة في الحجّ؛ فأمّا الأشياء المحدودة التي نهى الله عها فهي التي قال فيها: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، وأمّا التي رغّب فيها مِن غير تحديد ولأنّ سبُل الخير لا تكادُ تُحصى فقال بعد ذلك بعد قوله ﴿…فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ كلّ خير يقوم به الإنسان مع النّاس ومع نفسه فإنّ الله لا يمنعه لأنّ شأن الله سبحانه وتعالى عظيم. ولقد ذكرنا أنّ سُلَطَ البشر تختلف عن سلطة الله ليست كل ما سمعنا إليه أو ما استمعنا إليه هو قد أحاط بكلّ مُمَيّزات الذي يتميّز بها سلطان الله عن سلطان غيره من ذلكم يذكّرنا بذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾، كلّ حركة لها جزاء عند الله كلّ سكون له جزاء عند الله، فسُلَطُ البشر مِن أخطأ مثلاً في قانون السَّير والطّرقات يعاقب، ومن أصاب ولم يخطئ لا يُجازَى، ليس له أجر. في حين أنّ سلطان الله سبحانه وتعالى يُجازِي عن الخطأ بالعقاب، ويُجازِي ولا بدّ عن الصّواب بالثّواب، ألم يقل سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾، وألم يقل: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، وقال الكثير من هذا وقال: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ﴾، إلى غير ذلك فهو سبحانه وتعالى قد لطف بنا وأقام لنا سُبُلَ الخير وأرسل لنا نبيّنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم يدعونا إلى الاهتداء، فله الحمد سبحانه على ما منّ به علينا وأعطى.

وبعد؛ فإنّ الإنسان جسمٌ وروحٌ، والإنسان عقلٌ وعاطفةٌ، والإنسان طاعةٌ ومحبّةٌ، الله سبحانه وتعالى كما عرفنا شرع لنا تلكم المناسك لماذا؟ ليروي الإنسان بها ضمأ محبّته وتعلّقه بالله سبحانه وتعالى. فشرع لنا كلّ ذلك لُطْفًا ورِفْقًا بنا حتّى يجد أهل الشوق إلى الله سبحانه وتعالى غايته في ذلك … وهكذا رام ما تقدّم وهذا بعض ما ينبغي أن يُقال في هذا المقال.

كذلكم شرع لنا زيارة المسجد النبوي زيارة المسجد النّبوي قد تكون قبل الحجّ وقد تكون بعده، وإنّما على كلّ مسافر هنالك أن يغتنم هذه الفرصة لأنّ الإسلام قد شرع الذّهاب إلى ثلاثة مساجد، وقال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «لا تشدّ الرّحال –الرّحال للانتقال في السّفر- إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا و-قد أشار إلى مسجده بالمدينة المنوّرة- والمسجد الأقصى وبيتِ الله الحرام» هذه المساجد. أمّا مَن يقول وهذا مع الأسف يُدخِلُنا في موضوع آخر من أنّ الإنسان له أن يَزور سيدي فلان أو سيدي فلان وهذه كلّه غير مشروع إلاّ هذه المساجد الثلاثة، والله قد عظّم أجر الذّاهبون إليها، ففي المسجد النبوي يقول عليه الصّلاة والسّلام: «الصلاة في مسجدي هذا بألف صلاة وفي المسجد الأقصى بخمسة مائة صلاة وفي المسجر الحرام -في مكّة يعني- بمائة ألف صلاة» هذا مِن الفضل العظيم لله سبحانه وتعالى فقد جمع للزّائرين لهذه المقامات الأجر العظيم والإعراب عمّا في آمالهم وهو الكفيل باستجابة دعائهم ونحن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الإيمان الصّادق، وأن يُعرّفنا بذاته، وأن يُجنّبنا غضباته وانتقاماته، وأن يلطف بنا في جميع ما تجلبه المقادير. اللهمّ ربّنا توفّنا مسلمين اللهمّ ربّنا توفّنا مسلمين اللهمّ ربّنا توفّنا مسلمين، وألحقنا بالصّالحين يا ربّ العالمين ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب. اللهمّ ربّنا اغفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا وما أسررنا وما أعللنا وما أنت أعلم به منّا، اللهمّ يا رؤوفُ يا رحيمُ اُلطُف بأمّة سيّدنا محمّد في كلّ زمان وحين، وانصر اللهمّ المجاهدين بنصرك المبين، واكتب لنا العزّة أجمعين برحمتك يا أرحم الرّاحمين. اللهم ألّف بين قادة المسلمين وحكّامهم واجمع على كلمة الحقّ جميع شعوبهم وأقوامهم ومن ولّيته أمر هذه الأمّة فاهده لما تعلم أنّ فيه صلاح الأمة، ربّنا آتنا في الدُّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار. سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

مقالات مقترحة