محاضرة ألقاها الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور بالقيروان
بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلَّم
إنّ هذا المكان المبارَك وهذه التربة الشريفة التي كرّمها الله تعالى بالحفاظ على الشعرات النبويّة المكرّمة وبمرقد صاحبٍ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن أنصاره المفادين في سبيل حبّه ومن أعلام دينه الذين فتحوا الأقطار في إعلاء كلمة الله وبثّ كلمة الإسلام التي هي كلمة الحقّ والسلام، وفي هذا اليوم الأغرّ الأزهر الذي شُرِّف بذكرى مولد النبيء الأعظم صلّى الله عليه وسلّم وأثار في نفوس المؤمنين أجمعين من معاني صدق حبّه صلّى الله عليه وسلّم ومَتين التعلُّق بحبل هدايته وصحيح الائتساء بسُنَّته والرجوع إلى شرعته والندامة على ما فرَّطنا في جنبه وجنب الله تعالى.
من هذا المكان وفي هذا اليوم حيث يتضافر شرف الزمان وشرف المكان تضافرًا يُثير في النفوس المؤمنة الكريمة معانيَ التعلُّق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصورة تُحقِّق لكل واحدٍ منَّا أنّ المعنى الذي تشتمِل عليه نفسه والعاطفة التي تلتهب بين جنبيه إنّما هي حاصلةٌ في نفس أخيه مُلتهبةٌ بين أضلُع الإخوان جميعًا.
ففي هذا المعنى من الاشتراك نجد أنفسنا متلاقين متوافقين متواردين على أسمى المعاني الإيمانيّة وأكرم المغازي التصديقيّة وأعني بذلك حُبَّ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم:
محمّدٌ سيّدُ الكونَين والثقلَين والفريقَين من عُربٍ ومن عجم
نبيُّنا الآمِرُ الناهي فلا أحدٌ أبَرُّ في قولِ لا منه ولا نَعمِ
هو الحبيبُ الذي تُرجى شفاعتُه لكلّ هولٍ من الأهوال مُقتحِمِ
فبهذا الشُّعور وأمام هذا الهول العظيم الذي يُهدِّد العالم الإسلامي وفي هذه المحنة المريرة التي يتفطَّر لها قلبُ كلّ مؤمنٍ ومؤمنة نجد شعورًا مشتركًا فيما بيننا يحدُو بنا إلى التوجّه إلى مقام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بما نحن مشتركون فيه من معاني الحبّ والولاء والتضحية والفِداء في سبيل رفعة مقامه وشرف منزلته صلّى الله عليه وسلّم، حُبًّا هو تمامُ الإيمان لما ورد في حديث الصحيح من قوله صلّى الله عليه وسلّم: (والذي نفسي بيده لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده، وفي الطريق الآخر، من نفسه التي بين جنبيه).
نعم إنّنا مشتركون متساوون متواردون في هذه الشرعة الكريمة شرعة محبّة النبيء صلّى الله عليه وسلّم وتكريمه وإعظام قدره وفِداء شرفه العظيم العزيز. فإذا كنّا نحبُّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونشعر بهذا الدافع القويّ من التيَّار الإيماني الذي هو تيَّار المحبّة المحمديّة والولاء النبويّ، فما هو سبيلُنا إلى إظهار هذه المحبّة وما هي طاقتُنا في أن نُكيِّفَها حتّى نَعلم كيف نحبُّ النبيء صلّى الله عليه وسلّم على ما ينبغي لمقامه العظيم وعلى ما هو حقٌّ علينا نحو جنابه السامي بما نصحَ وأرشدَ وعلَّمَ وهَدى وكان بنا رؤوفاً رحيماً ثمّ ادّخَرَ لنا شفاعتَه العُظمى في يوم الهول الأكبر فجزاه الله عنّا أحسنَ ما يُجزى به نبيءٌ عن أمّته ورفعَ قدرَه العظيم في منازل النعيم بما ضمِنَ له سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾.
فإذا كنّا نحبُّ النبيء صلّى الله عليه وسلّم ونلتمِسُ طريقَ الوصول لأنْ نكون صادقين في هذا الحبّ متّبعينَ الشرعةَ الصحيحةَ الطاهرةَ التي تُقرِّبُنا من النبيء صلّى الله عليه وسلّم وتجعلُنا أهلاً لشرفِ هذا الانتِساب إليه والفوزِ بهذه المحبّة التي أخبرَنا صلّى الله عليه وسلّم مؤكدًا مُقسِمًا أنّ الواحدَ منّا لا يُؤمنُ حتّى يكونَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم أحبَّ إليه من كلّ شيء، أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها.
فحبُّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي هو من حبِّ الله يقتضي علينا أن نتَّبِعَه وأن نستمسِكَ بشرائِعِه وأن نغارَ على مقامِه الرَّفيعِ وأن نحمِيَ شريعتَه السَّمحَة وأن نُفاديَ في سبيلِ ملَّته التي كُرِّمَت به بحيثُ إنّه ينبغي للواحدِ منّا بمحبَّته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وباستشعارِه لأنّ المؤمنين أجمعين من أهل هذه الملَّة المُشرَّفة يتساوَون مشتركين في محبَّة النبيء صلّى الله عليه وسلّم أن يشعُر بأنّ الحبَّ المُطهَّرَ الأرفعَ الذي في نفسِه هو عينُ الحبِّ الذي في نفسِ إخوانه المسلمين فيشعُر بمحبَّتهم وولائهم وإيثارهم والذَّوبان فيهم وإذا كان كلُّ واحدٍ من المؤمنين شاعرًا بهذا المعنى فإنّ معنًى رفيعًا ساميًا من الحبِّ المُتبادَل ومن التعاون والتناصر والتحابّ هو الذي ينبغي أن يسُود بهذه العاطفة بين المؤمنين أجمعين، فيشعُر كلُّ واحدٍ من المؤمنين بوحدته مع بقيّتهم وبأنّه ليس إلّا واحدًا منهم بل ليس إلّا عينَ كلّ واحدٍ منهم بل ليس إلّا فردًا من أسرتهم لأنّ المعنى الإيماني الذي يملأُ قلبَه من محبَّة النبيء صلّى الله عليه وسلّم هو المعنى الإيماني الذي يملأُ نفوسَ الآخرين أجمعين. هنالك نشعُر حقيقةً بالوِحدة ونشعُر بالمعنى الذي هو التيَّارُ المُغذِّي للوِحدة والمُرَوِّي لها والمُمدِّ لتيَّارها الجيَّاش ألا وهو ما عبَّر عنه النبيء صلّى الله عليه وسلّم بحلاوة الإيمان. ففي حديث الصحيح: (ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان، فذكر صلّى الله عليه وسلّم أنْ يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سِواهما وأنْ يُحبَّ المرء لا يُحبُّه إلّا لله). فإذا وجدنا هذه الحلاوة وأحبَّ كلُّ وحدٍ منّا جميعَ المؤمنين من محبّة الله ورسوله، لا يُحبُّهم لمعنًى مِن المعاني العارِضة الزائلة، ولا يتفاوتُ المؤمنون عنده في هذه المحبّة لأنّ معنى الانتِساب إلى الله الذي هو عاملُ هذه المحبّة ورباطُها هو معنًى مشترَكٌ على التساوي بينهم جميعًا فهنالك يُحبُّ المؤمنين كلهم لا يُحبُّهم إلّا لله. وإذا أحبَّ المؤمنين لله فإنّ هذه المحبّة تقتضي معانيَ من التعاون والتناصر وشدّ الأزر وغَيرة كلّ مؤمنٍ على أخيه ومن واجب التناصح الذي جعله الله تعالى شعارَ المؤمنين. فقال تعالى: ﴿وَالعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. وفي صحيح البخاري عن سيّدنا جَرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه أنّه قال: (جئتُ أُبايعُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام فشَرَطَ عَلَيَّ والنُّصحِ لكلّ مُسلم).
فنحن مُبايعون للنبيء صلّى الله عليه وسلّم على إسلامنا ونحن مُبايعون له صلّى الله عليه وسلّم على النُّصح لكلّ مُسلم. فحقُّ كل مُسلم علينا من التناصح والتآزر والتواصي بالحقّ والتواصي بالصبر إنما هو عهدٌ أخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجزءٌ من الميثاق الذي يربِطُ بيننا جميعًا في محبّة النبيء صلّى الله عليه وسلّم ويجعلنا جميعًا مُكرِّمين لأنفسنا مُكرِّمين لعاطفتنا هذه بتكريم النبيء صلّى الله عليه وسلّم.
وإذا كان هذا الواجبُ من التناصح واجبًا عامًا بين المُسلمين أجمعين هو في رقبة كلّ واحدٍ منهم لبقيّتهم جميعًا، فإنّما هو واجبٌ متوجِّهٌ بصورةٍ خاصةٍ ومُقتضًى بطريقةٍ مُؤكَّدة من الذين هم أكثرُ تأهُّلاً للنُّصح من غيرهم ومن الذين يُرجَى منهم بما رزقَهم الله تعالى من فضائل وبما كرَّمهم من معارف أن يكونوا الناصحين لغيرهم وبذلك المعنى يتوجَّه إليهِم غيرُهم من المؤمنين طالبين النصيحة مُستهدين بالإرشاد متطلِّعين إلى الموعِظة وما أُولئك إلا المُضطلِعون بأمانة الإرشاد الدينيِّ والهَدي الإسلاميِّ من الخُطباء والمرشدين والأئمة والمُدرِّسين والمُعلِّمين وكلّ من هو على جانبٍ من القُرب من إدراك المعاني الإسلاميّة السامية تجعله بمحلّ القدوة بالنسبة إلى المؤمنين، إذ يتّجهون إليه بطلب النصيحة ويتطلَّعون إليه باستنزال الموعِظة.
فهؤلاء هم الذين ينبغي لهم أن يُلاحِظوا، في هذا اليوم المُبارَك وفي هذه الساعة الرهيبة المريرة ساعةِ الأملِ القويّ في الخلاص والعزم المشحوذ على الخروج من الشدّة والتوجّه الصادق إلى الله تعالى في تفريج الكُربة، هُم الذين ينبغي أن يستمعوا إلى نصيحتنا وموعِظتنا وتذكيرنا. وليس في المؤمنين من هو أكملُ مِن أنْ يُذكَّر وليس فيهم من هو أحقرُ مِن أنْ يُذكِّر. فنتواصَى جميعًا فيما بيننا يُنبِّه بعضُنا بعضًا إلى حاجة الدين في هذه الساعة الرهيبة إلى أن يُعرَف على وجهه الصحيح الحقِّ وحاجة المؤمنين جميعًا في هذه الساعة المريرة أيضًا إلى أن يعرفوا الدينَ على وجهه الحقِّ حاجةً هي أكثرُ إلحاحًا من حاجتهم إلى ذلك في أيّ زمانٍ آخر.
وبهذا الاعتبار فإنّنا نتوجَّه إلى جميع إخواننا في هذا المشهد الذي يشهدُ كلمتَنا فيه كثيرٌ من أهل العلم والدين ويستمعُ إليها مَن وراءَهم مِن أهل هذه الرسالة الشريفة منبّهين إيّاهم إلى وجوب الإلحاح في هذه الساعة الرهيبة على استجلاء المعاني الإسلامية الصحيحة وحُسنِ جلائها للناس وحُسن عرضِها عليهم وحُسنِ تقريبها من نفوس المؤمنين.
فإنّه لا يخفى أنّ الدعوة الإسلامية إنّما أُقيمت على معنًى جامعٍ بين الغايتين الّتَيْن ظلَّ الناس في سبيل الجمع بينهما وهما المعاشُ والمعاد أو الدنيا والآخرة. فجاءت الدعوة الإسلامية بأنّ سعادة الآخرة مُتقوِّمةٌ من عمل الدنيا. وأنّ سعادة الدنيا مُتقوِّمةٌ من اليقين بالآخرة والعملِ على المعنى الإيماني الذي يُشعِرُ الإنسانَ بيوم الحساب ويُشعرُه بأنْ لا معنًى لأعماله في الدنيا ولا غاية لها إلّا بما تنال من جزاءٍ حقيقيٍّ في عالم الحقّ الذي لا تغيب فيه ذرّةٌ من أعمال الإنسان ألا وهو الآخرة التي هي عالم الجزاء.
وإذا كان المسلمون في عصورٍ مضت قد أخلُّوا بهذا المعنى الذي جمع جمعًا مُحكمًا بين الغايتين الدينِيَّتَين غاية الدنيا وغاية الآخرة، فخُيِّل إليهم أنّ الآخرة معزولةٌ عن الدنيا وتوهَّموا أنّ الإنسان يستطيع أن يكون من رجال الآخرة بدون أن يكون من رجال الدنيا، فأخذوا يطلبون الآخرة من غير السبيل التي شرعها الله للوصول إلى سعادة الآخرة وأعرضوا عن ملاحظة ما للأعمال الإيجابية في الدنيا من نتائج في الآخرة وتقاصروا عن طلب الآخرة من حسن عمل الدنيا وكأنهم نسُوا أنّ أعظم الأعمال الخالدة من الفتوح الكبرى وإقامة الدولة الباهرة والحضارة الزاهرة إنّما كانت للمسلمين في تاريخ الإسلام بما استشعروا من معنى الخُلد ومن معنى السعادة الحقيقية التي ترتبط بالحياة الزائلة فطلبوا الموت ووُهِبَت لهم الحياة وطلبوا الآخرة فوُهِبت لهم الدنيا.
وما وجود أصحاب النبيء صلّى الله عليه وسلّم مُفرَّقي الأضرحةِ في بلاد الإسلام وما وجود هذا المقام الذي شُرِّف بمدفن الصحابي سيّدنا أبي زَمعة البَلَوي إلّا معنًى ناطقٌ شاهد بأنّهم إنّما ماتوا في سبيل بقاء الدين، وأنّهم إنّما اغتربوا في سبيل أُنْس إخوانهم المؤمنين، وأنّهم إنّما استشهدوا ليَحيَى مَن بعدَهم مِن إخوانهم الذين يستبشرون بأنّهم بنعمةٍ من الله وفضلٍ.
وإذا كان هذا التقصير قد وقع في بعض فترات من التاريخ الإسلامي الماضي، فإنّ تقصيرًا آخرَ يقابله في عصرنا الحاضر هو التقصير الذي عاد إلى ذلك المعنى من العزل من طريق آخر فعزل الدنيا على الآخرة مرّة أخرى وظنّ أنّ الإنسان إنّما يستطيع أن يعمل للدنيا باعتبار أنّها غاية في ذاتها. فأقبلوا على الدنيا وفرّطوا في ذكر الآخرة فنالهم ما لم ينل إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان واستشعرت نفوسهم مذلّة الحرص واستشعرت قلوبهم أدْواء الجشع وأقبلوا على المادّيّة يريدون أن يجعلوا منها علّة للوجود الإنساني وضَعُفَ شعورهم بذلك المعنى الذي كان يملأ نفوس أسلافهم وهو معنى سَرَيان الشعور الديني في الحياة الفكريّة والعلميّة ونسُوا أنّ النبيء صلّى الله عليه وسلّم إنّما كان يبني بيده ويبني معه أصحابُه من المهاجرين والأنصار لمّا هاجر إلى المدينة المنوّرة وأقام مسجده الشريف، فكان في ذلك البناء المادّي يشعر هو ومعاونوه على بناء ذلك الهيكل الأطهر المقدّس بأنّ الدافع بهم جميعًا إنّما هو شعور أُخرَوي فكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: (اللهم إنّ العيشَ عيشُ الآخرة فاغفر للأنصار والمُهاجِرة). وكذلك كان شأنه صلّى الله عليه وسلّم في غزوة الأحزاب عندما كان يُحفَر خندقُ الدفاعِ المُحيط بالمدينة المُنوَّرة.
فنحن بهذا المعنى الذي أصبح يغشى نفوس المسلمين وهو معنى الغفلة عن سَرَيان الشعور الديني في الحياة الفكريّة والحياة العمليّة الاجتماعيّة ينبغي لنا أن نستخلص من موقفنا الحاضر في محنتنا هذه التي أُصيب بها الإسلام في بُقعة من أعزّ بِقاع الوطن الإسلامي ألا وهي الحرم القُدسي المُشرَّف يحقّ لنا أن نرجِع إلى أنفسنا وأن نُحاسِب ضمائرنا على موقفنا الحاضر من هذه المحنة.
فبأيّ قلب ينظُر المؤمنون في غير البلاد الشرقيّة العربيّة وفي غير الأرض الفلسطينيّة المُقدَّسة وفي غير أرض الكِنانة المُبارَكة إلى هذا العُدوان الذي مسَّ شرف الدين وأقدم على أن يُدنِّس ثالث الحرمَين الشريفَين. فقد يقول قائل إنّنا رأينا من التعاطف ومن التناصر ومن دواعي النجدة ومن دواعي الإسعاف ما شرَّف المسلمين أجمعين وما رفع قدرهم في أعينهم وأعين غيرهم من المُلاحظين لموقفهم هذا من الناس أجمعين ولكنّنا إذا تعمَّقنا في النظر في صميم هذا الموقف من العطف والتناصر والإسعاف فإنّنا نجد أنّها معانٍ قائمة على غير ما ينبغي أن تقوم عليه معاني الإتحاد الإسلامي الكامل وعلى أقلّ ممّا ينبغي أن تقتضِيَه روح الأخوّة الإسلامية التي هي راجعة إلى مُساواتِنا في الاستمداد من محبّة النبيء صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ اعتباراتٍ مادّيّةً لا حقيقة لها من اختلاف الأقطار وتباعد المسافات واختلاف الدول واختلاف الوَحَدات النَّسَبيّة التي تظهر في اللغات وفي الأقاليم وفي غيرها قد جعلت بعض المسلمين يشعرون بأنّ بعضهم هو أقرب إلى احتمال الواجب في هذا الموقف وأنّه أحقُّ بأن يكون المُفادِيَ المُضحِّيَ في سبيله. والحال أنّ الذي ينبغي أن يقوم عليه الشعور الإسلامي إنّما هو المعنى الذي يهدم هذه الاعتبارات المادّيّة من تعدُّد الأمم والشعوب ومن اختلاف الأقطار ومن تعدُّد الدُّوَل فإنّنا إذا تركنا ما للسياسة مِن اعتباراتِها التي ينبغي أن تُراعى واعتبرنا أنّ السياسة إنّما هي كيفيّة تصريفيّة للمعاني القوميّة والشعور الشعبي، فإنّنا عندما نرجع إلى الإيمان الشعبي وإلى الشعور الجماعي الذي يسود بين المسلمين في هذه الآونة الرهيبة والذي كان ينبغي أن تستمِدَّ السياسة منه ما تُصرِّف به روح الثبات في تصاريفَ حكيمة على ما تقتضيه الخطط السياسية، فإنّنا نجد أنّ موقف المسلمين هو موقفٌ على عكس ما ينبغي أن يكون عليه موقفُ الأمّة من سياستها التي تضطلع بها حكوماتها الرشيدة وقادتها الموفّقون.
فينبغي أن يكون هناك معنى من الشعور الإيماني الثابت والعاطفة المتينة التي لا تتغيّر وأن يكون ذلك مدَدًا للمواقف السياسية التي قد تختلف وقد تتكيّف بحسب ما تقتضيه الآراء السياسية من اختلاف الكيفيّات. فهذا المعنى من الإيمان الثابت والشعور المتين الذي لا يتغيّر ولا يتزعزع ولا تتبدَّل صورتُه وكيفيّتُه وإن تبدَّلت صُوَر المسالك السياسية التي يبدو فيها للوصول إلى تحقيق الغايات القوميّة العليا.
ففي هذا السبيل ينبغي للتونسي والمغربي والتركي والهندي أن يتساءل ما هو المعنى الذي مِن أجلِه يُستَشهَدُ في سبيل فلسطين الأردني والمصري ولماذا يكون هو أوْلى منّي بأن يموت في هذا السبيل، أليس هذا حرم الله، ألستُ أنتسب إلى حرم الله وإلى حبّ الله وإلى حبّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم وإلى حبّ المؤمنين وتقديس حُرُمات الدين على نفس النسبة التي ينتسب بها الآخر.
فإذا كان هو الذي فاجأه الهجوم العادي فينبغي أن أكون أنا مثله لا عاطفًا عليه ولا مُتعاضدًا معه بل أن أكون مثله في الموقف شاعرًا بأنّ العُدوان علَيَّ وبأنّ الذي سقط شهيدًا إنّما آثره الله بكَرامةٍ لَمَّا يُؤثِرْني بها وأنا جادّ في سبيلها وطالبٌ أن يمُنّ الله عليّ بأن أسقط شهيدًا في تلك المعركة كسقطة أخي المصري أو السوري أو الأردني.
فهذا هو المعنى الذي يتّضح به حقيقةً أنّ العملَ في سبيل الله وأنّه لإعلاء كلمةِ الله والذي يحقُّ به لشهدائنا الأبرار أن يحتلّوا مقام الشهادة التي هي أثر من ذلك العقد الذي تعاقد به المؤمنون مع الله تعالى بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾.
فهُنا تأتي أمانة المُرشِد الديني وهنا يلاحظ كلّ واحد منّا أنّ الظروف الاجتماعيّة الماضية والأوضاعَ المدنيّة التي مرَّت بالمسلمين في العصور القريبة ووسائل التربية ومناهج التعليم التي فُرِضت على العالم الإسلامي فرضًا مصنوعة بأيْدي أعدائه الذين لا يريدون له خيرًا قد أحدثت في النفوس الإيمانيّة فجوات وثغرات وأنّ هذه الفجوات والثغرات ينبغي أن تُملأ بشيء يرقُع الفتْق الذي هو موجود في التكوين الإيماني وفي التربية الإسلاميّة ويسُدّ الثغور التي هي باقية من فساد التربية الأصليّة أو التوجيه التعليمي.
فإذا كانت جمعيّة الحِفاظ على القرآن العظيم تتقدم اليوم إلى الاضطلاع بناحيةٍ من هذا المُهِمِّ إذ تُشيعُ كلمةَ القرآنِ العظيم وهي مصدرُ النُّور ومَدَد الهُدَى وتَعقِد حِلَقاً قرآنية للمحافظة على كلمة الله تعالى مِن أن تتلاشى أو أن تُصبح شيئًا منقولًا بطريق الظنّ فإنّ هنالك واجبًا آخر يدعونا إلى عقد حِلَق أُخرى هي حِلَقٌ علميّة تربويّة يكون أساسُها المُطالعة والتدبّر والادِّكار ويكون مَدَدُها تفسير القرآن العظيم وبيان سنّة النبيء صلّى الله عليه وسلّم وتقرير أحكام الشريعة الإسلامية على ما قرَّره الراسخون من أئمة الدين. وبذلك يَشيع التوجيه الإيماني ويُستطاع أن يُستمَدَّ منه ميزانٌ عقليٌّ نفسانيٌّ تُوزَن به الأعمال والأفكار هو ميزانٌ ذاتيٌّ للمسلمين ثابت لا يتحوَّل ولا يتغير لأنه ليس بمُقتبَس ولا مُستعار ولا مُستورَد وإنّما هو نابعٌ من نفس الإيمان ومُتدفِّقٌ من فيض كلمة القرآن وهَدي السنّة المحمّديّة.
وهنالك يتحقَّق لنا من جديد ما فازت به هذه الأُمَّة الشريفة في ماضِيها من المعنى الجامع الذي تنسَجِم فيه النُّخبة المُثقَّفة مع الجمهور لأنّ تفاوت مراتب الأفكار وتفاوت المعارف والمواهب إنّما يكون راجعًا كلُّه إلى معنى مُشترك من وحدة الأساس الذي تقوم عليه الطبقات المُتفاوتة من البناء الاجتماعي من الناحية الفكرية ألا وهو الأساس الإيماني. وبهذا المعنى وجَّهنا نداءنا الأوّل الذي وجَّهناه إلى عموم إخواننا المسلمين أن يجعلوا وسيلتهم للتقوِّي وطريقهم إلى النصر آتيًا من روح الدين ومن معانيه الإيمانيّة العُليا ومن الادِّكار بروحانيَّاته ومن الشُّعور بما بين حياتنا في الدنيا وحياتنا في الأُخرى من الارتباط. وعلى ذلك ينبغي أن ندخل مجال العمل لمُواصلة الدفاع في هذه الحرب العُدوانية الغاشمة ولطلب النصر في الجولات المُقبلة إذا فاتنا في هذه الجولة ولنجعل انتصارنا على أنفسنا وأخذَنا بأنفسنا إلى مواقف العزل خير تعويض لما فاتنا في هذه الجولة القصيرة من النصر على أعدائنا حين نشعر بأن المسلمين جميعًا لا فرق بين أقطارهم ولا بين شعوبهم مسؤولون مسؤوليةً واحدة عن حماية الحرم القُدُسي وأنّ موقفهم الجهادي واحد وبروح واحدة سواء أكان ذلك في ساحة الوغى أم كان ذلك في الإعانة من وراء الغازين بنفس الروح التي يَستشهِد بها الغازي كما قال صلّى الله عليه وسلّم في حديث الصحيح: (من جهَّز غازيًا في سبيل الله فقد غزى ومن خَلَف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزى).
نسألُ الله أن يوفِّقنا ويهديَنا ويُرشدنا ويأخذ بوجوهنا إليه ويجعلنا من الذين هم أحِقَّاء بأن يحتمِلوا أمانته وأن يُبلِّغوا رسالته وأن يكونوا من الذين حُبِّبَت إليهم الشهادة في سبيل الله وحُبِّبَ إليهم الإيثار في سبيله ثمّ لنجعل خِتام مجلسنا هذا أن نتوجَّه إلى الله تعالى منصرفين إلى القِبلة التي يكون انصرافنا إليها مظنَّة استجابة الدعاء واقفين على الأقدام لإظهار معنى العزم في المسألة والتطارح على أبواب الرحمة الإلهية فلنتوجَّه إلى القِبلة الشريفة منادين الله تعالى بأنّه قد قال وهو أصدق القائلين ووَعد وهو أبرُّ الواعِدين بأن يُعلِيَ الشُّهَدَاء منزلةً في عالم النَّعيم وأن يُبرَّ شهادتَهم وأن يجعلَهم يستبشِرون بالذين لم يلحقوا بهم من بعدهم أن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون فنتوسَّل إلى الله تعالى متوجِّهين بنَبِيئِه نبيء الرحمة صلّى الله عليه وسلّم أن يجعلَ دعاءَنا مُستجابًا وكلمتَنا مسموعةً وأن يجزِيَ عنَّا إخوانَنا الشُّهَدَاء خيرَ ما يجزِي به المُستشهَدين في سبيل حماية بيضتِه وإعلاء كلمتِه وأن يجعلَنا من المُنتظِرين الذين بقُوا وراءَ الذين قضَوا نحبَهم ننتظرُ النصر ونثقُ بالفوز ونوجِّه إلى إخواننا الذين استُشهِدوا في سبيل هذه المعركة الشريفة سلامَنا وتحيَّتَنا وأن يرضى الله عنهم ويرضى عنَّا بهم وأن يجعلَنا خيرَ خلفٍ لهم في هذا الموقف وأن يُمِدَّنا بالنصر والتأييد حتى نكون أهلاً لأن نكون من المُنتظِرين الذين ما بدَّلوا تبديلاً والذين صدقوا واستجابوا وعرفوا الحقَّ فتمسَّكوا به وآثروا في سبيله وتوجَّهوا إلى الله تعالى أن يرحمَ ويرفعَ درجةَ الذين قضَوا نحبَهم وأن يؤيِّدَ المُنتظِرين وأن يُفِيضَ علينا من لدنه رحمةً تربِطُ على القلوب وتُثبِّتُ الأقدام إنّه سبحانه السميع المُجيب. اللهمّ إنّا نسألُك ونتوجَّه إليك بنبيك محمّد نبيء الرحمة. يا محمّدُ إنّا توجَّهنا بك إلى الله في دعائنا ليُستجاب وحاجتِنا لتُقضى اللهمّ فشفِّعه فينا. اللهم استجِب لنا بسِرِّ الفاتحة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (2) مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾ اللهمّ صلِّ على سيدنا محمّدٍ الفاتح لما أُغلِقَ والخاتِم لما سبقَ ناصِر الحقِّ بالحقِّ والهادي إلى صراطِك المُستقيم وعلى آله حقَّ قدرِه ومِقدارِه العظيم. سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصِفُون وسلامٌ على المُرسَلين والحمد لله ربِّ العالَمين.
المصدر: بودكاست الإذاعة التونسية