‌‌الكتاب الذي هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته
بقلم الإمام محمد الطاهر ابن عاشور

كان من شنشنة المرشدين – الأنبياء والحكماء – التهمم بتخطيط نظام لأقوامهم في الأحوال العسيرة، خيفة أن تعرض لهم العقبات الكؤود فلا يجدوا لاقتحامها جهودًا ولا حيلة، وما حيلة من يسلك مهمّا افتقد فيه دليله؟ وأشدّ ما تنصرف إليه هِممهم أن يجعلوا من الإرشاد نبراسًا يضيء لهم في دَيجور فقدهم مرشديهم.

لذلك كان من سنن الأنبياء والحكماء أن يثبّتوا وصايا تحرّض أتباعهم على ما فيه صلاحهم، أو تحذّرهم ممّا يُفضي إلى اختلال أحوالهم في النوائب التي كان من دأبهم عند اعترائها أن يهرعوا إليهم للاقتباس من هديهم المعصوم، أو من تدبير آرائهم الراجحة. فإذا فرض أن تحدث تلك النوائب بعد وفاتهم، فإنّهم يتركون ما يأملون أن يكون إليه مفزع الأمّة وفي معاقله معتصم لهم حتى يكون النفع مستمرًّا في حياتهم وبعد انتقالهم إلى أمد مقدّر.

وإذ قد كان من المتعذّر في طرق الإرشاد البشري إحاطة البيان بكل ما يُتوقَّع حدوثُه، كان شأن المرشدين انصراف وصاياهم إلى أهم ما به الصلاح والنجاح من الكوارث المبيدة، وما يكون الالتباس فيه يستنزل بالأمة الضلال والخسران. وإن آخر ما يقرع السمع من كلام القدوة المحبّب إلى أمته وقعًا من نفوسهم يحرصون على وعيه، ويهتمّون برعيه، ويرون العمل به إرضاءً لتلك الروح المفارقة، يرغبون به في مرضاتها، ويتفاءلون بعاقبته في ساعات الشدائد وأوقاتها.

وقد حكى الله تعالى عن إبراهيم ويعقوب عليهما السلام هذا المقام بقوله: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة: 132، 133]، وحكى عن موسى في وقت مغيبه للمناجاة: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} [الأعراف: 142].

ولم يخل نبي ولا حكيم من استيداع قومه أو مريديه ما فيه هديُهم عند الحيرة، وإعانتهم عند المشكلات. وما كتبت الصحف المنزّلة، وأرسلت الأمثال والحكم السائرة، ودوّنت القوانين والتآليف النافعة، إلاّ وفاءً بهذا الغرض، وأداءً لهذا الحقّ المفترض. ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم أكملُ المرشدين إرشادًا، وأوفرُ النّاصحين في مقاومة الضلال عتادًا؛ لأن الله تعالى اختصّه باجتماع صفات جاء بها قولُه تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

وهذه الصفات ينبثق عنها إرشاد لا يوازنه إرشاد؛ لأن عزّة عنت المسلمين عليه يناسبه تعجيل إرشادهم، والإسراعَ بالأخذ بأيديهم إلى مرافق العزّة والكمال، واستيعاب أساليب إيصال الإرشاد إلى قلوبهم. ولأن حرصه عليهم، أي على نفعهم، يناسبه قصدُ وعي إرشاده بجوامع الكلم، ومنتهى البلاغة والإيجاز.

ولأن رأفته ورحمته بهم يناسبها تسهيل طرق دلائل هديه في مختلف الأحوال بما ليس بعده متطرق للضلال. وهذا المقام – مقام رأفته ورحمته – هو المقام الجامع لبقية الصفات النبوية، ولذلك قصره الله تعالى على حال الرحمة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فكانت تلك الرحمة دائمة بدوام شريعته، عامة لأتباعه والمتوسّمين لهديه، في حياته المباركة وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى. وهذا مقام قوله صلى الله عليه وسلم: “حياتِي خيرٌ لكم، ومماتي خير لكم”.  فكان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن هديه بعد مماته كهديه في حياته، بما فيه من جوامع الإرشاد. وليس هذا محلّ تفصيل هذا وتبيينه.

وقد نشأ عن الصفات الثلاث المباركة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة، ذكر ما عسى أن يعرض لأمته من الضلال في أشياء تحلّ بعد وفاته، وعزّ عليه ذلك، وحرص على انتشالهم منه، فرام أن يخصّ ذلك بوصيّة خاصّة، وأن يكتب فيه كتابًا يعصمهم من الضلال فيه. ثم عرض وصف الرأفة والرحمة فانصرف عن ذلك إلى ما هو خير لهم.

روى البخاري في كتاب العلم وفي المغازي وفي الجهاد، وروى مسلم في كتاب الوصية بأسانيد مختلفة ترجع إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وسعيد بن

‌جبير كلاهما عن ابن عباس، وفي بعض أسانيده زيادةٌ على بعض، وأنا أجمعها هنا: “قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس. لما حُضِر رسول الله واشتدّ به وجعه وفي البيت رجال، قال: “ائتوني باللوح والدواة أكتب لكم كتابًا لن تضلّوا بعده أو بعدي أبدًا”، فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله، حسبنا كتاب الله. فاختلفوا واختصموا، فمنهم مَنْ يقول: قرِّبوا يكتب لكم، ومنهم مَنْ يقول غير ذلك. فتنازعوا وكثر اللغط، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما شأنه؟ أَهَجر؟ استفهموه، فذهبوا يردّون عليه، فقال: “دعُونِي فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه”، فكان ابن عباس يقول: الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين كتابه”.

‌‌مشكلات:

وهذا الحديث معدودٌ في الأخبار والسيرة النبوية، و يتلخص إشكالُه في تسعة وجوه:

الأول: أن قول رسول الله: “أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده”، يقتضي أنه قد بقي فيما لم يبلّغه الرسولُ إلى الأمّة ما فيه عصمة من الضلال.

الثاني: كيف يكون كتابٌ يُكتب في مثل ذلك الوقت محيطًا بدفع كلّ ضلال يعرض للأمّة مع أن أضعاف ذلك الكتاب ممّا نزل من القرآن وما صدر من الرسول من الأقوال والأفعال لم يكف في دفع الضلال عنهم والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]؟

الثالث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على أن يكتب لهم كتابًا، وقد تقرر أنه صلى الله عليه وسلم أمي، فكيف يكتب الكتاب؟

الرابع: إذا كان فيما سيقوله رسول الله ما يدفع عن الأمة الضلال، فما وجهُ توقفه عن الكتابة؟ ولماذا لم يبلغه إليهم الرسول بالقول دون كتابة؟

الخامس: كيف قال رسول الله: “دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه”؟ فإن كان الحال الذي فيه رسول الله من المكاشفات أو الوحي هو خيرًا للرسول من كتابة الكتاب، فقد فات الأمّةَ ما كان فيه دفعُ الضلال عنهم، وإن كان خيرًا للأمّة من الكتاب فهو أمر لم يبيّن لهم من بعد.

السادس: كيف أقدم عمر بن الخطاب على صدّ الناس أن يأتوا رسول الله باللوح والدواة ليكتب لهم؟

السابع: وكيف يقول عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع؟

الثامن: وكيف يقول عمر: حسبنا كتاب الله، مع أن رسول الله يقول: لن تضلّوا بعده؟

التاسع: أن بعضهم قال: “ما شأنه؟ أَهَجر؟ استفهموه ” فإن معنى هَجر: قال هجرًا، أي: قال كلامًا غير مقصود كشأن المحموم، فيكون هذا القائل قد جوّز أن يكون ما صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامًا لا تعويلَ عليه، فيكون تجويزًا لجريان الخطأ على لسانه. وهذا يدافع اليقين بأنّه لا ينطق عن الهوى.

وجريًا على السَّنَن الذي سلكناه في الذكريات المولدية السالفة في القصد إلى ناحية من نواحي السيرة النبوية نراها جديرة ببحث أوفَى ممّا منحها الكاتبون، فنمدّها من الفتوح الإلهية بهواطل تنضح قتام الإشكال، وتمدّ إليه من الحقائق ما يحوك سداها ولحمتها على أتقن منوال، نقول: إنّ رسول الله قد أرشد أمته في نيف وعشرين سنة إرشادًا لم يغادر دخيلة من دخائل النفوس صالحها وشريرها إلّا أتَى على ما يثبت صلاحها ويهذبه، أو يقتلع شرها ويذهب به، فله إرشاد مستمد من علام الغيوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفِي الصدور.

وقد أومأ إلى هذا قولُه تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]، فالمجتبَى هو محمد صلى الله عليه وسلم لتمييز الخبيث من الطيّب في سائر الأحوال. وما نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] إلاّ وقد كمل أمر الإرشاد إلى ما فيه صلاحُ العاجل والمعاد. وقد أرشد رسول الله بالقرآن، وبالخطب والمواعظ، والتعليم البالغ، وغير ذلك من مختلف طرق الإرشاد، في قوله وفعله، وسيرته وسمْته، فكلّها مفاتح هدى ورشد. وهذا الإرشاد باقٍ ما بقي هذا العالم، وملاكه هو القرآن المكتوب المقروء المحفوظ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان ذلك مقنعًا للمسلمين إذا دعوا إليه أن يقولوا: سمعنا وأطعنا.

وقد عرضت أحوالٌ كان من المصلحة أن يكتب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبًا، إقامةً للحجة في مظان غلبة الهوى على الوازع الديني، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك من العرب وغيرهم، وكتب إلى بعض أمرائه كتبًا لتكون حجة لدى أقوامهم، وتذكرة لهم عند الاشتباه، مثل كتابه إلى عمرو بن حزم لمّا بعثه إلى بني الحارث بن كعب، فبيّن له فيه الفرائض والسنن والصدقات والديّات؛ لأنّ العرب يأنفون من تغيّر عوائدهم ويشمئزّون من دفع أموالهم كالمغارم. وكتب بالإقطاعات وبالعطايا لكي لا يُنازَع المعطَى في عطيّته. كلُّ ذلك لمصالح لا تفي بها الأقوال.

فهمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة كتابٍ في آخر أيّامه مع أصحابه ليس لقصد التشريع؛ لأن الشريعة قد كملت، ولأنّه لو كان لقصد التشريع لما عدل عنه ولما قال: “فما أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه”، إذ التشريع هو المقصد الأهمّ من بعثته، وكيف والله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]؟ وكذلك ليس هو لبيان ما يحتاج إلى بيانه من المجملات الشرعية؛ لأن ذلك لا يناسب قوله: “ما أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه”، وإن كان يجوز للرسول ترك البيان اكتفاءً بالأدلة التي تلوح لمجتهدي الأمّة. فتعيّن أن يكون الكتاب الذي هَمَّ به مقصودًا لأمر غير متعلّق بإفادة تكليف ولا بشرع أُنُف، وأنّه إنّما كان في أمر يرجع إلى تنبيه الأمّة أو بعضها إلى شيء من شؤون تدبير أمورهم العامّة، وتحريضهم أو تحذيرهم في شيء ممّا سبق الإشارةُ إليه في القرآن والسنّة.

وإنّ مَنْ مارس السنّة النبوية يستيقن أنّه قد كثرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الأخير من حياته أقوالٌ مشيرة إلى قرب انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فبعضها صريح، وبعضها دونه، وأن أصحابه كانوا متفاوتين في التفطن إلى الإيماء منها، وقارن معظمَها إيقاظُ الأمة إلى الأخذ بالحزم في شؤون جماعتهم، والتعويل على استخدام مواهبهم في العمل بما سبق إليهم من الإرشاد، وحذرهم من عوارض تعرض للأمم، كقوله في خطبة حجة الوداع: “فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض”، وفي حديث الترمذي عن العرباض بن سارية: “وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظةُ مودِّع، فأوصانا، قال: “أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، فإنه مَنْ يعش منكم يَرَ اختلافًا كثيرًا. . .””، الحديث. وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة: 54]. وفي حديث الصحيحين: “إني لأرى الفتن من خلال بيوتكم”.

فلا جرم أن كان الكتاب المعزوم عليه يتضمّن التحذيرَ من شيء سيقع، مثل النص على أن أبا بكر هو الذي يلي أمر المسلمين، أو النص على كيفية تعيين الخلفاء للأمة، وقاعدة البيعة، فإن الخلاف في ذلك قد جرّ فتنًا على المسلمين نشأت من اختلاف في أدلّة الاجتهاد. قال المازري في المعلم: “وقد قال بعضُ العلماء: الأظهر عندي أنه أراد صلى الله عليه وسلم أن ينصّ على الإمامة بعده لترتفع بنصّه عليها تلك الفتن العظيمة التي منها حربُ الجمل وحرب صفين. وهذا الذي قاله غير بعيد”. ولا شكّ أنّ المهاجرين والأنصار كانوا يومئذٍ في حال حيرة في مصير أمرهم بعد وفاة نبيّهم.

ويُحتمل أن يكون أراد أن يكتب لهم كتابًا في إعادة التصريح بأنّ الإيمان لا ينقضه التقصيرُ في الأعمال البدنية، فإنّ تكفير المسلمين بعضهم بعضًا قد ابتلاهم بفتن عظيمة، مثل فتن الخوارج والمعتزلة وغيرهم، الناشئة عن اعتقاد تكفير مرتكب الكبيرة حتّى أفضت إلى الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتكفير بعضهم كثيرًا منهم. وآل هذا إلى أن ترمي طائفة مخالفيها بتهمة الخروج عن حظيرة الإسلام، فتستخف بحقوقها ودمائها، ولا تلبث أن تمتشق السيوف بين الطائفتين، حتى كاد أن ينفرط عقد الجامعة الإسلامية. ومُنيَ المسلمون بفتن عظيمة عملية وفكرية من جرّاء مصيبة تكفير بعضهم بعضًا قد شهد بها التاريخ.

أو يكون قد أراد أن يبيّن للأمّة وجوب استمرارهم على ما كانوا عليه في حياة الرسول من الانقياد وإعطاء زكاة الأموال ليسلموا من فتنة الارتداد التي طلع قرنها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتقاد قبائل العرب أنّ الطاعة لا تجب بعد الرسول، كما قال الحطيئة: أَطَعْنَا رَسُولَ الله إِذْ كَانَ بَيْنَنَا … فَيَا لَعِبَادِ الله مَا لأَبِي بَكْرِ؟

ومن المحتمل القريب أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب لهم وصيّة بملازمة كتاب الله وسنّة رسوله، وتذكّر ما سبق من هديه وإرشاده. فقد ثبت في الصحيح أنّه أوصى قبيل وفاته بكتاب الله، وثبت أنه أوصى بالصلاة وما ملكت أيمانهم. ثم قد يكون عزم رسول الله على هذا الكتاب ناشئًا عن إذن إلهي بوحي، وقد يكون عن اجتهاد منه بناءً على المختار من أقوال علمائنا بجواز الاجتهاد للنبي ووقوعه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأيًّا ما كان الغرضُ الذي هَمَّ رسول الله بكتابته، وأيًّا ما كان الباعث الذي دعا رسول الله إلى ذلك، فقد عدل عنه وتركه، وقال لهم حين أعادوا عليه: “ما أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه”. فإن كان عزمه الأوّل ناشئًا عن وحي، يكون قوله الثاني دالًّا على أن الله نقله من ذلك العزم إلى ما هو خير للأمة، فيكون نسخًا للإذن بالكتابة. وإن كان ناشئًا عن اجتهاد مستند إلى ظواهر الأدلة والأحوال، فالله صرفه عنه بوحيه إليه ما هو خير لأمته في علم علام الغيوب، أو غيَّر اجتهادَه بلائحة أدلة أخرى أظهرت لرأيه ما هو خير لأمته في ترك ما عزم عليه.

وجعل الله اختلاف الحاضرين في الأمر سكينة لنفس رسول الله عليه السلام لئلا يبقى له شك في نفع العدول عن ذلك الكتاب. وإنّ من أوّل منافعه إزالة الاختلاف بين الحاضرين في شأنه.

بقي علينا أن نبيّن وجهَ تفضيل العدول عن الكتاب، وجامع القول في ذلك أن الله في تلك الفترة أوحى إلى رسوله بشارة بأن أمّته لا تضلّ، وأن ما يعرض لها من النوائب إنّما هو سنّة الله في الأمم، وأنّ تلك العوارض لا تلبث أن تنقشع، وأن كتابه الذي عزم عليه تحفّ به مصالح، وأن تركه يجلب مصالح أكثر من مصالح كتابته. فإنّه إن كتب لهم بشيء خاصّ ربّما توهّموه أولَى من غيره فحرصوا على تحقيقه وفرّطوا فيما سواه، فيفضي ذلك إلى تضييع أكثر الواجبات والتهاون فيها.

وهناك حكمةٌ أخرى عظيمة تحصل من مجموع القصّة، تبيّن القصدَ إلى الكتابة والقصدَ إلى الإعراض عنها، حتى لا يُشْكِلَ وجهُ تأخّر الأمر الإلهي أو الاجتهاد بالعدول عنه إلى ما بعد التصريح بالعزم عليها. وذلك أن التصريح بالعزم عليها قد أوقع في نفوس الحاضرين ومَنْ يبلغه ذلك من الأمّة أن شأنًا مهمًّا توجّهت إليه عناية رسول الله في أحرج ساعاته ثمّ لَم يبيّنه، فتبقى في نفوسهم لهفةٌ على بيانه لو سمح به، فتنبعث همّةُ كلّ صاحب همّة، واجتهادُ كل مجتهد، وتدبيرُ كلّ مَنْ يلي أمرَ الدعوة، إلى توسّم أشدّ الأمور مصلحة للمسلمين، وأشدّها درء مفسدة عنهم، فيفرغوا في تحصيله وتطلبه جهودهم وتفكيرهم، عساهم أن يصادفوا مرادَ الرسول عليه السلام، فيكون ذلك باعثًا على الاهتمام بمعظم مصالح المسلمين وذودُ معظم ما يُتَّقَى منه تطرّقُ الفساد إليهم.

وكلٌّ ينسج على منواله، فالعالِمُ الفقيه يستفرغ جهدَه لاستنباط أحكام أدق الأحوال العارضة للأمّة عساه أن يصادف ما عزم رسولُ الله على بيانه من الأحكام. ألا ترى أن ابن عباس كان يقول: “الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم”؟

والجدلي المتكلّم ينافح عن عقيدة الإسلام بأوضح الأدلّة النافية للشبه خيفة أن تزلزل عقائد المسلمين لعلّه أن يوافق مرادَ رسول الله مما ينفي الضلالة عن الأمّة.

وولاة الأمور ونصحاء الأمّة يتوخّون في سياسة الأمّة أفضلَ المصالح، ويتقون مسارب التأخّر والانحطاط خشية إضاعة بعض ما اؤتمنوا عليه من حقوق الأمّة، أو الظهور في مظهر قلّة الكفاءة للقيام بأعباء الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلّ بحسب دائرة تصرفه فيما وكّل إليه من مصالح المسلمين.

والوعّاظ المرشدون يهيئون للدخول إلى مداخل القلوب أفصحَ الأقوال وأقربها إلى فهم العامّة من الموعظة الحسنة. وسائر أفراد الأمّة ممّن يعلم ذلك يَزِنُون أحوالَ معاملتهم في جماعاتهم بميزان ما حدّده لهم الشرع، خشيةَ أن يضلّوا في مزالق تفرّق كلمة الأمّة، فيكونوا ممّن أراد الرسولُ التحذيرَ منهم، ويبعثهم على الاستشهاد من أهل العلم فيما يُشكل عليهم وجهُ الْمخلَص منه.

فترى أيّها اللّبيب كيف يكون التفكُّرُ في تلك الساعة الرهيبة التي بدا فيها عزمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتابة الكتاب وإعراضُه بعد ذلك عنها، دافعًا عظيمًا لقادة الأمّة إلى التألّب على جلب مصالحها ودرء مفاسدها، وإن اختلفت مناحي قيادتهم، ومظاهر نصيحتهم، وللأمّة نفسها بحسب مبالغ علمها في معاملتها، وفي الالتفاف حول علمائها وقادتها.

واستبان لك أنه يحصل من الإيماء إلى أهمية الكتاب الذي يعصم من الضلال، ومن الإعراض عن كتابته، نفسُ الحكمة الحاصلة من عدم تعيين ليلة القدر، وساعة الإجابة يوم الجمعة، والصلاة الوسطى.

ثم إنك تجد نفسَك قد أفضت إلى مرتبة أخرى من العلم، وهو أن كانت وصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عزم على إثباتها ثم أعرض عنها، مناسِبَةً لعظمة شأنه، وعلوِّ مقداره، وعموم شريعته ودوامها، وهو أن كانت حركةً في سكون، وبلاغةً في سكوت، وإطنابًا في إيجاز، ففاقت بذلك سائرَ وصايا الأنبياء والحكماء، وناسبت عزّةَ عنت الأمة عليه، وحرصه عليها، ورأفته ورحمتَه بها. ونجدك الآن قد اندفعت عنك الوجوه: الأوّل والثاني والرابع والخامس من الإشكال.

فأما قول الرسول عليه السلام: “أكتب لكم كتابًا”، فيجوز أن يكون إسناد الكتابة إليه مجازًا عقليًّا، أي آمر مَنْ يكتب لكم ما أقوله. ويجوز أن يكون الإسناد حقيقيًّاعلى ظاهره، ويكون فيه إظهار معجزته وهي صدور الكتابة من الأمّي. وقد جوّز أبو الوليد الباجي وجماعةٌ من المحققين أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد كتب في صحيفة صلح القضية بيده حين امتنع علي بن أبي طالب أن يمحو سطر: “محمد رسول الله”. واستند الباجي إلى الحديث الذي في صحيح البخاري. ورأوا ذلك لا ينافي الأمّية بعد تقرّرها، إذ يكون صدور ذلك العلم الجمّ منذ وقت البعثة إلى يوم القضية من أمّي معجزة عظيمة، ويكون صدور الكتابة بعد ذلك ممّن تحقق الناس أمّيته معجزة أخرى. وبهذا زال الوجه الثالث من الإشكال.  

من أجل ذلك ظنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتجشّم الكتابةَ في تلك الحالة ليؤكّد شيئًا ممّا تضمّنه القرآن، فأحبّ عمر أن يكفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلفة، ويسمعه أنهم على العهد في الوقوف عند كتاب الله، فقال: “إنّ رسول الله قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله”. قال عياض في الإكمال: “وقيل قد يكون امتناع عمر إشفاقًا على النبي صلى الله عليه وسلم من تكليفه في تلك الحال إملاء كتاب، ولذلك قال: إن النبي اشتدَّ به الوجع، حسبنا كتاب الله”، أي فيكون قوله: “إن رسول الله غلبه الوجع” تعليلًا لقوله: “لا تقربوا إليه اللوح والدواة، وقوله: “حسبنا كتاب الله”، أي: لا يفوت شيءٌ من الهدى بترك هذا الكتاب؛ لأنّا معتصمون بكتاب الله. قال المازري في المعلم: “قد فهم عمر أمر النبي أنّه أمرٌ غير جازم بقرائن دلّت على عدم الوجوب، ثم رأى أن قد يتطرق به المنافقون إلى القدح فيما اشتهر من قواعد الإسلام بكتاب يكتب في خلوة، ويضيفون إليه ما يشبّهون به على الذين في قلوبهم مرض، فلذلك قال عمر: “حسبُنا كتابُ الله”، فكان جوابًا للفريق الذين ألَحُّوا في تحصيل الكتاب.

وبهذا حصل انكشافُ الوجهين السادس والسابع من وجوه الإشكال.

ثمّ إنّ عمر قد علم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لن تضلّوا بعده”، ما يريد به إلاّ نفيَ الضلال في الغرض الذي يتضمّنه الكتاب من الأمور التي عسى أن تكون قد بقيت مجملة. فالضلال المنفيُّ هو ضلالُ الحيرة في محمل ذلك المجمل بحيث يصير مبيَّنًا، فرأى عمر أن هذه المصلحة التي تحصل من كتابة الكتاب قد يفي بها اجتهادُ مجتهدي الأمّة في تبيين ذلك المجمل بالبحث عن الأدلّة المبيِّنة، أو في ترك العمل بالمجمل والمصير إلى دليل آخر يخلفه من نصّ أو قياس.

فمآل المصلحة الحاصلة من الكتاب أن أراح مجتهدي الأمة من تعب الاجتهاد في محمل ذلك المحمل، فرأى عمر أن تلقي الأمة هذه المزية من رسولهم في حال اشتداد المرض عليه بإراحة الرسول عليه الصلاة والسلام من عناء الكتاب والإملال، أوجب لشكر عنايته صلى الله عليه وسلم بهم، فقال: “إن رسول الله قد غلبه الوجع”، و”حسبنا كتاب الله”. وليس في ذلك عصيان لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم.

وبذلك ينكشف الوجه الثامن من وجوه الإشكال.

وأما قول بعض الحاضرين: “أهَجَر؟ “، فقد روي بهمزة الاستفهام وبدونها. قال المازري: “النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من أن يكذب على الله عز وجل أو يفسد ما يبلغه عنه، وهو مع هذا غيرُ معصوم من الأمراض وما يكون من بعض عوارضها مما لا يعود بنقص في منزلته، ولا فساد فيما مهد من شريعته. وقد كان صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُحر يُخيل إليه أنه عمل الشيء وما عمله، ولم يجر ها هنا منه عليه السلام من الكلام ما يُعَدُّ مناقِضًا لما قدَّم من الأحكام والشرائع، ولا الكلامُ في نفسه دالٌّ على الهذيان الذي يكون عن الحميَّات”.

يريد المازري بكلامه هذا أننا لو سلّمنا أن يكون قول القائل: “أهَجر؟ ” معناه أقال كلامًا غير مراد له، لم يقدح ذلك في تقرّر عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم، ولم يوجب طعنًا في قائل هذا الكلام. وقد حقّق عياضٌ في الإكمال هذا المقامَ بقوله: “إنّما جاء هذا من قائله عن طريق الإنكار على القائلين: لا تكتبوا. يريد هذا القائل: كيف تتركون أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجعلونه كأمر مَنْ هجر في كلامه؟ أي وذلك لا يُظن بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالصورة صورة الاستفهام، والمعنى على النفي المحض”.

وتحصل من مجموع كلامَي الإمامين أن القرينة قائمة على قصد إنكار أن يكون قال هجرًا. ويدل لذلك أن عمر لم يُنقل عنه أنه رد على هذا القائل، بل إنه توقف عن الزيادة في الامتناع من طلب الكتابة، وعدم موافقة الراغبين فيها. وقد اندفع الوجهُ التاسع من وجوه الإشكال، وانجلى ما تسابقت فيه فرسانُ ذلك المجال.

‌‌الحكم المتجلية من هذا المقام الجليل:

وبعد فحقٌّ علينا أن نبيّن من حكمة الله تعالى في هذا الحوار الذي جرى بين أصحاب رسول الله بمرأى منه ومسمع، وفي عزمه على الكتابة ثم إعراضه عنها.

الحكمة الأولى: أن عزم الرسول عليه الصلاة والسلام كان مثالًا عظيمًا لمقدار حرصه على أمّته ورأفته بهم، ومحبّته الخير لهم إلى آخر ساعات بقائه بهذه الحياة الأولى، فكان عليه السلام غير مفيّت لحظة من لحظات تمكّنه من الإرشاد استكثارًا لهم من الخير، واحتياطًا في تجنيبهم مواقع الفتن. وإن الاعتبار في ذلك يزيد أمّته حبًّا فيه، وتعظيمًا لقدره، فيكثرون من الصلاة عليه، وسؤال الله أن يجازيه أحسن ما جازى نبيًّا عن أمته، فيعود ذلك على الأمّة بخير عظيم.

الحكمة الثانية: ما حصل من التشاور والاجتهاد في الأمر بين أصحابه بحضرته، فإنّ ذلك مشهد يسرّ الرسول بما يرى من تلقّيهم الأدلّةَ النظرية بجواذب أفهامهم، وأنّهم لا يألون جهدًا في العمل بمختلف الأدلة من سوابق أقوال رسولهم ولواحقها.

الحكمة الثالثة: أن رأى مقدار تمسكّهم بالقرآن، إذ لم يختلفوا في أن القرآن حسبهم، ولا في أن هذا الكتاب لا يقوم مقام القرآن، وإنّما اختلفوا في شدّة الحاجة إلى بيانه وعدم شدّتها، وفي إيثار راحة الرسول، وسد ذريعة الشكّ في الدّين وعدم ذلك.

الحكمة الرابعة: أن كان مظهرًا من مظاهر رأفة الصحابة بنبيهم، وتطلّب ما فيه راحته من الكلف والمتاعب، فإذا كانوا بتلك المثابة في شؤونه الجسدية، أفلا يكونون أحرصَ الناس على حصول اطمئنان نفسه الزكيّة بعد وفاته في تمسّكهم بشرعه ووصاياه؟

الحكمة الخامسة: أنّ سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سماعه كلام عمر بن الخطاب فيه إقرارٌ لرأيه، وإيماءٌ إلى أنّه ممّن يُعوَّل على اجتهاده في مضايق الأمّة، فيكون إشارةً إلى الاكتفاء به في فهم أمر الخلافة، إذ كان له ذلك المقام المحمود يوم سقيفة بني ساعدة.

الحكمة السادسة: أنّه وقع في بعض روايات الحديث في البخاري أنّه لمّا كثر بينهم اللغط والخلاف، قال: “قوموا عنّي، ولا ينبغي عندي التنازع”. فالتنازع قد كان من الذين خالفوا رأي عمر بن الخطاب؛ لأنّهم هم الذين نازعوه وجاؤوا يستفهمون رسول الله. فدلّ ذلك على ترجيح رأي عمر، وعلى تعليم الأمّة الاعتراف بمزايا كبرائها وذوي رأيها مِمَّنْ شهد الناسُ بعلمه وفضله، فإنّ رسول الله كان أخبرَهم أنّ الله أيّد رأي عمر في حوادث عديدة، وأن الشيطان لا يسلك فجًّا سلكه عمر بن الخطاب.

الحكمة السابعة: أنّ عدول رسول الله عن كتابة الكتاب يعلّمهم أنّ المصلحة إذا عارضتها مصلحةٌ أقوى منها يجب المصيرُ إلى أرجح المصلحتين.

الحكمة الثامنة: أنّه أراهم أنّ أرجح النّاس عقلًا، وأسداهم حلمًا، وأعلاهم مقامًا، لا يمنعه ذلك كلّه من الرجوع عن رأي بدا له إلى رأي آخر يتبيّن له رجحانه، وأنّه لا غضاضةَ عليه في ذلك، إذ الابتداء منه والرجوع منه.

الحكمة التاسعة: أن ذلك كان مظهرًا من مظاهر العروج برسول الله صلى الله عليه وسلم في معارج الكمال في كل آن، فإن الله ألاح لرسوله شيئًا فيه نفع عظيم للأمّة، ثمّ ألاح له عقب ذلك ما هو خير ممّا بدا له أوّل الأمر، إذ قال: “فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه”.

الحكمة العاشرة: أنّ الله جلَا لرسوله صلى الله عليه وسلم أنّ عنايته بأمّته دائمة مستمرّة، وأنّ الله معهم في شدائد أمورهم، وأنّه يتولّاهم بلطفه وتوفيقه، فهو يرُبهم ويكفيهم، ويريهم درجات عنايته من درجة إلى أرقَى منها؛ لأنّهم نصروا دينه، فذلك عهد بأنه لا يزال ناصرهم ما أقاموا الدين، كان مؤكدًا بمظهره ما تضمّنه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 7]، وفيه تلك المشاهدة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “فما أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه”، قرّة عين من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتحقيق لسابق بشارته ووعده في قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [الضحى: 5].

الحكمة الحادية عشر: أنّ جمعًا من الصحابة منهم عبد الله بن عباس رأوا أنّهم رزئوا رزيئة عظيمة بعدول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الكتاب، وتوقّعوا أن سبب ذلك هو التنازع، كما ورد في حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لهم فقال: “خرجت لأعلمكم بليلة القدر، فتلاحى رجلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم”. فدلّ على أنّ التنازع يفيت مصالح، وإن كان الله تعالى قد عوّضهم عن فواتها مصالح أخرى أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم: “ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه”، فتلك مِنَّةٌ من الله ونعمةٌ بعد حصول الموعظة.

‌المصدر: كتاب جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور

محمد الطاهر ابن عاشور

مقالات مقترحة