شهر رجب[1]
الإمام محمد الطاهر ابن عاشور
هو من الأشهر الحرم، تقرر تحريمه في الجاهلية عند مضر كلها، دون بقية العرب من العدنانيين والقحطانيين. فالظن أن تحريمه لم يكن من عهد إبراهيم – عليه السلام -؛ لأنه لم تُجمع العربُ على تحريمه. والظاهر أن مضر جعلوه شهرًا حرامًا ليكونوا آمنين فيه، قصدًا لزيادة الأمن في العام. ولذلك جعلوه شهرَ العمرة، ليُكسِبوه مهابةً عند غير المُضريين من العرب، والعرب كلهم يعظِّمون القاصدين زيارةَ البيت، قال النابغة يصف حجَّه:
مُشَمِّرِينَ عَلَى خُوصٍ مُزَمَّمَةٍ … نَرْجُو الإلَهَ وَنَرْجُو البِرَّ وَالطُّعَمَا
ومن تعظيم الحجيج أن أقسمت العربُ بالله بعنوان كونه تعالَى ربَّ الحجيج، قال العجاج:
وَرَبِّ أَسرَابِ حَجِيجٍ كَظَّمِ … عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
فحصل من ذلك تعظيمُ هذا الشهر عند العرب، وقد أشار إلى ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – في خطبة حجة الوداع في ذكر الأشهر الحرم إذ قال: “ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان”. وقد لقبه العرب بالأصم، أرادوا أنه لا يسمع الناسُ فيه قعقعةَ السلاح للقتال، فجعلوه أصم عن سماعها على طريقة المجاز العقلي. ولقبه المولَّدون بالأصب، بالباء، ولعله تحريف أو قلب خفيف. ولقبوه أيضًا بالفرد؛ لأنه شهرٌ حرام فرد بين أشهر حلال، بخلاف الأشهر الحرم الأخرى فهي متتابعة. فلذلك شاع إردافُ شهر رجب عند الكتاب والمؤلفين بوصفه بأحد هذه الأوصاف. وليتهم تركوا ذلك، فإنه من الفضول في الكلام والتطويل الذي لا طائلَ تحته. وما كانت العربُ تفعل ذلك، ولا هو مأثور عن السلف.
فلما جاء الإسلام، أقرَّ تحريم هذا الشهر في جملة ما أقر من المنافع، كما أشار إليه قولُ النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم فتح مكة: “والله لا يسألونني خطةً يعظِّمون فيها حرمات الله إلا أجبتُهم إليها”، فورد اعتبارُه من الشهر الحرم في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ} [التوبة: 36]، إذ فسره النبي – صلى الله عليه وسلم – في خطبة الوداع بقوله: “وإن عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان”.
وإن تحريم الأشهر الحرم في الإسلام لم يبق له حكم بعد عموم الإسلام بلادَ العرب في نظر جمهور العلماء؛ لأن القتالَ في الإسلام قد انقسم إلى مأذونٍ فيه ومحرم. فالقتالُ المأذونُ فيه لا يتعطل إذا وجد سببه، والقتالُ الحرامُ في الإسلام ممنوع في كل وقت. فلم يبق للأشهر الحرم مزيةٌ في الإسلام غيرُ الفضيلة التي تَقَرَّرْت لها من سالف الأيام، فهي معدودة من الأوقات الفاضلة، ولذلك يرغب الناس في الصوم فيها.
ولم يرد في تخصيص يوم من أيام رجب بصوم أو صلاة حديث، والأحاديثُ المروية في ذلك لا تخرج عن الموضوع والضعيف الإمام محمد الطاهر ابن عاشور
قال علماؤنا إن جميع أيام الأشهر الحرم أوقاتٌ للصوم المرغَّبِ فيه، ويزداد الترغيبُ بالنسبة للتسعة الأيام الأول من ذي الحجة، وللعشرة الأيام الأول من المحرم وخاصة التاسع والعاشر. ولم يثبت في الدين تفضيلٌ لصومِ أيامٍ معينة من الأشهر الحرم غير ما ذكرنا، وأما ما رُوِيَ عن أنس يرفعه: “رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي”، فهو حديثٌ موضوع أو ضعيف. ولم يرد في تخصيص يوم من أيام رجب بصوم أو صلاة حديث، والأحاديثُ المروية في ذلك لا تخرج عن الموضوع والضعيف.
أما ما ورد في “سنن ابن ماجه” من أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن صوم رجب كله، فمعناه عند العلماء الكراهة لئلا يظن الناسُ وجوبَ صومه كوجوب صوم رمضان. ولم يقل أحدٌ من أئمة مذاهب أهل السنة باستحباب صوم يوم معيَّن من رجب، بَلْه سُنِّيَتِه. ويومُ الجمعة الأول من رجب يسميه الناس جمعة الرغائب، ولا وجهَ لهذه التسمية. وإنما ورد في حديث عن أنس مرفوعًا أن الملائكة تسمي أول ليلةٍ من رجب ليلةَ الرغائب، وهو حديثٌ ذكره ابنُ الجوزي في الموضوعات، وقال: “إنه موضوع، ورجاله مجهولون”. ولم يتعقبه السيوطي في “اللآلئ المصنوعة”.
هذا وقد قيل: إن شهر رجب كان فيه الإسراء برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وذلك أحد أقوال. فقيل: كان الإسراء في ربيع الأول سبعة عشرة، وقيل: سبع وعشرين، وقيل: كان ليلة تسع وعشرين من رمضان، وقيل: ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر، وقيل: ليلة سبع وعشرين من رجب، واختار هذا الحافظ عبد الغني المقدسي. وقيل: كان الإسراء في شوال، وقيل: في ذي الحجة. وقد جرى عملُ المسلمين على متابعة ما اختاره الحافظ عبد الغني المقدسي، فجعلوا ليلة سبع وعشرين من رجب ليلة ذكرى الإسراء، ولعل الله قد وفقهم في هذا العمل فيكون ترجيحًا لذلك الاختيار
[1] المجلة الزيتونة، المجلد 2، الجزء 1، شعبان 1356/ أكتوبر 1937 (ص 45 – 46)