‌‌‌قصّة ‌أيوب – ‌عليه ‌السلام – ونقض آراء حديثة في تفسيرها[1]

فضيلة الإمام محمد الخضر حسين

‌‌الردُّ الأوَّل

” اطلعت في إحدى المجلات التي تصدر في القاهرة على مقال تعرَّض فيه كاتبه لمفسري القرآن الكريم، وبالغ في نسبتهم إلى التقصير في التفسير، وساق ما فسَّروا به ‌قصة ‌أيوب – ‌عليه ‌السلام – مثالاً لذلك التقصير، وأورد وجوهاً زعم أنها تُبطل ما أجمعوا عليه من التفسير، ثم ذكر تأويلاً للقصة، مدعياً أنه هو الصواب، ووعد بأنه سينسج على هذا المنوال في بيان تقصير المفسرين.

وقد وقفت في هذا المقال على آراء لا تدخل تحت قوانين المنطق، وأخرى لا تتقبلها بلاغة القرآن، فأردت تنبيه طلاب العلم لما في تلك الآراء من نشوز؛ حتى يكونوا على بينة من أمرها”.

* القصة:

قال الله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 83، 84].

وقال الله تعالى في سورة ص: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 41 – 44].

وهذه الآيات هي التي تصدَّى كاتب المقال لتأويلها.

* صفوة آراء العلماء في تفسيرها:

حمل المفسرون الضرَّ في آية الأنبياء على المرض، والضرُّ يستعمل في المرض على وجه الحقيقة، ولم يرد في وصف هذا الضر الذي مسَّ أيوب – عليه السلام – آية، أو حديث صحيح، فيحمل على مرض لا يكسب الجسمَ قبحاً، ولا يُحدث في نفس من يشاهده نفُوراً، كما أنه لم يرد في مقدار مدته آية، أو حديث صحيح، فتحتمل أن يكون أياماً، أو أشهراً، أو سنين، غير أن المرض الذي يمدح الله رسولاً من رسله على الصبر عليه شأنه أن يكون في ألمه شدة.

أما قوله تعالى في سورة ص: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41]:

فقد حمل كثير من المفسرين النصب والعذاب على معنى الضر الوارد في آية الأنبياء، وسنشرح وجهة نظر هؤلاء فيما بعد، وحملها آخرون على تعب القلب وألمه مما يوسوس به الشيطان من تعظيم أمر المرض؛ ليوقعه في الجزع، أو يوسوس به إلى بعض قومه من أن الله لا يبتلي الأنبياء بمثل ما ابتلاه به من الضر، ثم سأل أيوبُ الله تعالى أن يكفيه شر هذه الوسوسة، كما سأله كشفَ الضر عنه من أصله.

وقد توسع بعض المفسرين في هذه القصة، فساق فيها روايات لا يوجد من بينها رواية صحيحة ثابتة.

قال القاضي أبو بكر بن العربي في تفسيره المسمَّى: “قانون التأويل”: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبر الله عنه في كتابه في الآيتين: (آية الأنبياء، وآية ص)، وأما النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: “بينما أيوب يغتسل، إذ خرَّ عليه رِجْلٌ من جراد من ذهب”.

{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]:

الركض بالرجل: تحريكها، والمغتسل: الماء يغتسل به، والشراب معروف، ومعنى الآية على ما يقتضيه وضع مفرداتها اللغوية: أن الله تعالى أمر أيوب – عليه السلام – بتحريك رجله، وقولُه بعد الأمر بتحريك الرجل: ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ يشعر بأن هذا المغتسل البارد والشراب، وجد بتحريك الرجل، وورود هذه الآية عقب إخبار الله بدعاء أيوب أن يعافيه من المرض، أو يكفَّ أذى الشيطان عنه، يدلُّ على أن لهذا الركض صلة بحال استجابة دعائه. وكذلك يقول المفسرون: ركض برجله؛ أي: حرّكها دافعاً بها الأرض، فنبع بالركض ماء أُمر بالاغتسال به، والشرب منه، فكان ذلك الدواء القاطع لما ألمَّ به من المرض، وفي السلامة من المرض انقطاعُ وسوسة الشيطان.

فإن قال قائل: أي فائدة لركض أيوبَ برجله، والله قادر على أن يفجر الماء من غير ركض بالرجل؟

قلنا: إن الله قادر على أن يفجر اثنتي عشرة عيناً لبني إسرائيل من غير أن يقول لموسى – عليه السلام -: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ [الأعراف: 160]، وقادر على أن يفلق له البحر من غير أن يقول له: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ﴾ [الشعراء: 63]، وقادر على أن يردَّ الكفار على أعقابهم يوم حُنين من غير أن يَرمي النبي – صلى الله عليه وسلم – الحصى في وجوههم، ولكن الله تعالى إذا أراد إظهار معجزة لنبيّ من أنبيائه، أمره بفعلٍ يكون كسبب في الظاهر يرتبط به ذلك الأثر العظيم، وبهذا الفعل الذي يصدر من النبي، فيظهر عقبه الخارقُ، تزداد النفوس علماً بأن هذا الخارقُ إنما أظهره الله من أجله.

﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [ص: 43]:

يصح أن يكون معنى هبة الأهل: جمعهم عليه بعد تشتت، ومعنى هبة مثلهم: تناسل أهله بعد معافاته إلى أن بلغ عددُ الفروع مقدارَ أصولهم، وإنما يمنُّ الله تعالى على رسول من رسله بجمع أهله عليه متى كان أهله يؤمنون به، ويؤيدون دعوته.

﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ [ص: 44]:

هذا حكايةُ قولٍ أوحى الله به إلى أيوب – عليه السلام -، وإذا قطعنا النظر عما أورده المفسرون من الروايات، واحتفظنا بحمل الألفاظ على معانيها الحقيقية مع مراعاة طريقة القرآن في الإيجاز، قلنا: إن أيوب – عليه السلام – صدر منه يمين على أن يضرب بعض من له أن يؤدبه بالضرب أسواطاً معدودة، لسبب لم يسمه القرآن المجيد، ولما كان المعروف في موجب هذا اليمين أن يكون الضرب بالأسواط مفرقة، أرشده الله إلى طريق أخفَّ من ذلك الطريق المعروف، وهو الضرب بضغث يجمع من الأعواد مقدارَ الأسواط المذكورة في اليمين.

ولعلك تعلم أن القرآن يكتفي من القصة بذكر موضع العبرة، ولم ينزل ليكون كتاب تاريخ حتى تنتظر منه أن يذكر: منِ المحلوف على ضربه؟ وما سبب الحلف؟ وما عدد الأسواط؟

وموضع العبرة من هذه الآية: هو أن أيوب – عليه السلام – رأى بعض أهله قد فعل، أو قال ما يستحق عليه العقوبة، فحلف وهو غاضب لله على أن يعاقبه على ذلك بأسواط معدودة، فأراه الله وجهاً يجمع بين رعاية حرمة اليمين، ورفع جانب من شدة العقوبة، فذلك من أثر الغضب لله، وهذا التخفيف من أَثر رحمة الله بالمتقين من عباده.

هذا صفوة ما يقوله أهل العلم في تفسير قصة أيوب – عليه السلام -, وقد خالفهم في أصل تفسيرها كاتبُ ذلك المقال، وسنريك في آخر مقالنا هذا أن لرأيه صلة برأي محمد علي زعيم طائفة القاديانية الخارجة عن سبيل المؤمنين.

* المفسرون والإسرائيليات:

قال صاحب المقال: “إنهم – أي: المفسرين – كثيراً ما يكتفون بذكر إسرائيليات ليس لها سند أصلاً، فضلاً عن أن يطمع في تصحيح ذلك السند”.

في المفسرين من ينقل الإسرائيليات من غير تمحيص، وفي محققيهم من يأبى الرجوع إلى الإسرائيليات، وينقدها على مقتضى قوانين الشرع والعقل، وكذلك فعل القاضي أبو بكر بن العربي في تفسيره “قانون التأويل”؛ فإنه قال عند تفسير هذه القصة: “وإذا لم يصح عنه – أي: أيوب – قرآنٌ ولا سنَّة إلا ما ذكرنا، فمن الذي يوصل للسامع خبره؟ وعلى أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات موضوعة عند العقلاء لعدم الناقل، فأغمضْ عن مسطورها بصرَك، وضُمَّ عن كتبها يديك، واصمم عن سماعها أُذنيك؛ فإنها لا تزيد فكرك إلا خبالاً”.

ثم أخذ ينقد ما يوجد في التفاسير من أخبار أيوب – عليه السلام -، فيقول في بعضها: هذا باطل، وفي بعضها: هذا بعيد، وفي بعض آخر: هذا ممكن، ولكنه يفتقر إلى نقل، وهكذا تجده يضع كل خبر في مكانه اللائق به.

وقد أخذ القرطبي في تفسيره بجانب من كلام القاضي أبي بكر بن العربي، ونقدِه لأخبار هذه القصة.

* كيف يحكي كاتب المقال أقوال المفسرين؟

حكى كاتب المقال أقوال المفسرين في آيات القصة الواردة في سورة ص، وربما اقتصر في النقل على القول الذي يراه أبعدَ من المعقول، ويهمل ذكر أقوال هي أقربُ إلى ظاهر الآية، ولعله يريد بذلك التمهيدَ لأن يقع تفسيرُه الذي أتى به من بعدُ موقعَ القبول.

قال صاحب المقال: “نرى المفسرين قد فسروا النُّصب والعذاب في الآية بداء أصاب أيوبَ، قد فعل به الأفاعيل، وبَرَّحَ بجسمه أيَّ تبريح، حتى نفر الناسُ منه، وحتى عجز عن الحركة، فلا ينتقل من مكان إلى مكان إلا أن يحمله حامل، ثم يقولون: وقيل: المراد بالنصب والعذاب: ما كان يوسوس إليه به الشيطان في مرضه من البلاء، وإغرائه بالجزع”.

من المفسرين من ذهب إلى أن المراد من النصب والعذاب في قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41]: هو المراد من الضر في قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء: 83]، وهو المرض، ويكون إسناد المس بالنصب والعذاب إلى الشيطان من قَبيل إسناد الفعل إلى سببه؛ أدباً مع الفاعل الحقيقي، وهو الله تعالى، ولكن الوجه الذي كان به الشيطان سبباً لما ابتلي به أيوب من المرض لم يتعرض له القرآن الكريم؛ جرياً على طريقة الإيجاز والاقتصار في القصص على ما يقصد التنبيه له من مواضع العبرة.

وقد ساق بعض المفسرين في تفصيل هذا السبب روايات لا يوجد من بينها رواية ثابتة في الصحيح.

ويكفي تالي القرآن أن يفهم – على هذا الوجه من التفسير -: أن ما أصاب أيوب – عليه السلام – من وسومة الشيطان هو من النوع الذي يجر إلى معصية كبيرة أو صغيرة، وألهم أيوب – عليه السلام – ذلك؛ ليأخذ في الحذر من وساوس الشيطان بالتي هي أبلغ، وقصه الله في القرآن؛ ليتعلم منه غير أيوب: أن النفوس الطاهرة قد يردها خاطر تحسبه خيراً، ويكون تركه أولى من فعله، فينبغي لها أن لا تسكن إلى خاطر حتى تستبين أنه قبس من نور الله.

هذه وجهة نظر من يجعل النصب والعذاب الوارد في سورة ص هو الضر الوارد في سورة الأنبياء.

أما الذين يفسرون النصب والعذاب بما يوسوس به الشيطان؛ من تعظيم أمر المرض، والإغراء بالجزع، فإنهم يبقون الضر في سورة الأنبياء على معنى المرض، وسلكوا هذا الطريق من التفسير حيث لم يظهر لهم وجه في نسبة المرض إلى الشيطان، ورأوا أقرب ما يكون من وسوسة الشيطان للمريض: هو إثارة جزعه من المرض؛ ليضعف صلته بمقام الإلهية، ويحرمه أجر الصبر على المصيبة.

فالفريقان متفقان على أن أيوب – عليه السلام – ابتلي بمرض سمَّاه لشدته: ضراً، ودعا الله أن يكشفه عنه، غير أن من المفسرين من يصف مرض أيوب – عليه السلام – على نحو ما جاء في التوراة، ومما جاء فيها: “ولبس لحمي الدود”، والمحققون من أهل العلم ينفون هذا، ويقولون: إن مرض أيوب لم يكن من قَبيل الأمراض المنفِّرة.

قال الألوسي في تفسير آية ص: “ولعلك تختار القول بحفظهم – أي: الأنبياء – مما تعافه النفوس، ويؤدي إلى الاستقذار والنفرة مطلقاً، وحينئذ فلا بد من القول بأن ما ابتلي به أيوب – عليه السلام – لم يصل إلى حد الاستقذار والنفرة؛ كما يشعر به ما روي عن قتادة، ونقله القصاص في كتبهم”.

وكذلك يقول بعض علماء الكلام؛ كالباجوري في “حواشي الجوهرة”: ما كان بأيوب من البلاء كان بين الجلد والعظم، فلم يكن منفراً، وما اشتهر في القصة من الحكايات المنفرة فهي باطلة.

قال صاحب المقال: “ويفسرون الركض بالرجل: بأن أيوب أُمر من ربه بوساطة جبريل أن يضرب برجله في الأرض، فضرب بها كما أمر، فنبعت عينان أُمر أن يشرب من إحداهما، وأن يغتسل من الأخرى”.

هذا ما يقوله بعض المفسرين، ويقتصر طائفة من محققيهم على ما يفهم من ظاهر القرآن؛ من أن المشار إليه واحد، هو المغتسل، وهو الشراب.

قال القاضي البيضاوي: “فنبعت عين، فقيل: هذا مغتسل، وقيل: نبعت عينان”.

وقال الألوسي: “ظاهر الآية اتحاد المخبَرِ عنه بمغتسل وشراب”.

قال صاحب المقال: “ويفسرون قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [ص: 43]: بأن الله أحيا له أولاده الذين كان قد أماتهم، وولد له مثلهم”.

لم يذهب إلى هذا الرأي جميع المفسرين، بل ذهب طائفة من محققيهم إلى أن هبة أهله: جمعُهم عليه بعد تفرق.

قال القاضي البيضاوي في تفسير الآية: “بأن جمعناهم عليه بعد تفرق”.

وفي تفسير الألوسي: “وقيل – وإليه أميل -: وهبه من كان حياً منهم”.

ذكر صاحب المقال تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ﴾ [ص: 44]، وقال: “ثم يزيدون على ذلك أن هذه رخصة باقية إلى اليوم؛ بشرط أن يصيب كلُّ أعواد الحزمة جسمَ المضروب”.

هذا مذهب بعض الفقهاء؛ بناء على أن قول القائل: والله! لأضربنَّ فلاناً عشرة أسواط – مثلاً – يتناول صورة الضرب بها مجموعة متى أصاب كلُّ عود منها جسمَ المحلوف على ضربه، فتكون صورة الضرب بالأعواد مجموعة على ذلك الشرط، من موجب صيغة اليمين عند الإطلاق.

وذهب آخرون إلى أن موجب صيغة هذه اليمين عند الإطلاق: هو الضرب بالأسواط مفرقة، ويرى أن ما جاء في الآية شرع خاص بأيوب – عليه السلام -، ومقتضى هذا المذهب: أن من صدرت منه يمين على نحو اليمين التي صدرت من أيوب – عليه السلام -, فإما أن يفعل ما حلف عليه، وهو الضرب بالأسواط مفرقة، وإما أن يكفّر عن يمينه.

* رد الوجوه التي رام كاتب المقال أن يبطل بها قول المفسرين:

ساق صاحب المقال ما يقوله المفسرون في تفسير القصة، ثم قال: “ولم يدروا أنه قد فاتهم أولاً: أن المقصود من أن يقص الله تعالى حال الرسل على خاتم أنبيائه – صلى الله عليه وسلم – إنما هو: الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة إلى الله؛ ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120].

قد يقص الله تعالى من أنباء الرسل – عليهم السلام -, ولا يذكرهم بما يرجع إلى ما أصابهم في سبيل الله من أذى، وإنما يذكرهم ليدل على ما كان لهم من خلق عظيم، أو عمل خطير، أو حكمة بالغة، أو منزلة عنده سامية، أو ما أجراه على أيديهم من آيات، أو شرعه في عهدهم من أحكام.

ولا ندري كيف أورد كاتب المقال آية: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾ [هود: 120]، وليس فيها شاهد على أن المقصود من قصص الرسل – عليهم السلام – إنما هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، فإن تثبيت فؤاده – صلى الله عليه وسلم – زيادة يقينه، وطمأنينة قلبه، فالتثبيت بهذا المعنى يأتي من الاعتبار بأنباء الرسل – عليهم السلام -، ولو لم تكن من قبيل الحديث عما أصابهم في سبيل الله.

قال صاحب المقال: “وماذا عسى أن يكون من العبرة في أن يقص الله على نبيه – صلى الله عليه وسلم -: أنه اصطفى أيوب لرسالته، ثم أمرضه، فأعجزه عن القيام بأعباء الرسالة، وما تتطلبه الدعوة من قول وعمل لا ينهض بها إلا سليم معافى”؟

إن فيما قصه الله تعالى من شأن أيوب – عليه السلام – لعبرةً لأولى الألباب، رسولٌ من أكرم الرسل، وأعلاهم عند الله منزلة، يكون في نعمة؛ من صحة الجسم، وانتظام الشمل، فيصاب بالمرض، وانقطاع أهله عنه، يتلقى هذا المصاب بالصبر الجميل، حتى إنه لم يصرح بالدعاء، بل سلك به طريق التعريض؛ إذ ذكر في مناجاته: أنه في ضر، وأن رحمة الله أوسعُ من كل رحمة.

وإذا ذكَّر الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – بشدة ما أصاب أيوب – عليه السلام – من البلاء، وبقوة ما كان يتلقاه من الصبر، قَوِيَ يقينه – صلى الله عليه وسلم – بأن شدة البلاء في الدنيا قد تنزل حيث يكون رضا الله عظيماً، والمقام عنده رفيعاً، وخفَّ عليه ما كان يناله من المكاره، وازداد صبره على احتمال الأذى قوة على قوة.

قال صاحب المقال: “وفاتهم ثانياً: أن هذا يتنافى مع حكمة الله السامية، وإلا، فكيف يصطفيه لرسالته، ثم ينزل به ما يحول بينه وبين النهوض بأعباء تلك المهمة، وتلك المهمة – كما علمت – تتطلب صحة وعافية، وقوة وسلامة؟ “.

يبتلي الله بعض رسله بمرض غير منفر، ثم يعافيه من ذلك المرض الشديد؛ ليظهر فضل صبره للناس، ويتبينوا أن الأمراض الشديدة قد تعرض للرسل – عليهم السلام -، ولا يخدش ذلك في نبوتهم، بل يزدادون به من الله قرباً.

ولقد جعل الله لكل رسول مقداراً من الوقت يصرفه في الدعوة، وليس بواجب على الله لا عقلاً ولا شرعاً أن يكون رسوله في صحة، وتمكُّنٍ من الدعوة من يوم بعثته إلى يوم وفاته، فإذا بعث أيوب – عليه السلام -، فدعا قومه، وبلغ الجهد في دعوتهم، ثم أصابه الله بمرض لحكمة بالغة، ثم عافاه فعاد إلى الدعوة، لم يكن هذا منافياً لاصطفائه للرسالة، ولا هو بالأمر الذي يتنافى مع الحكمة.

قال صاحب المقال: “وفاتهم ثالثاً: أنهم بذلك خرجوا بشأن أيوب عن شؤون جميع الأنبياء، وجعلوه بدعاً من الرسل؛ إذ المعلوم ضرورة: أن مصاب الأنبياء والرسل، وبلاءهم الذي يألمون له، ويضرعون فيه إلى ربهم إنما هو إعراض قومهم عن دعوتهم، وعدم الاستجابة لهم، وصد الشيطان للناس عن سبيل الله؛ كما أنه من المعلوم: أن كل نبي لابد أن يصاب بتلك المصيبة؛ بشهادة قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: 52] “.

لم يخرج المفسرون بشأن أيوب عن شؤون جميع الأنبياء، ولم يجعلوه بدعاً من الرسل، وإنما فهموا الآية على ما تدل عليه ألفاظها العربية، وحملوها على معنى فيه حكمة وعبرة، وهم يعرفون أن الأنبياء – عليهم السلام – يصابون بإعراض قومهم عن دعوتهم، وأن لكل نبي عدواً من المجرمين، ولا يلزم من هذا حملُ كل آية وردت في قصة رسول على معنى إصابته بإعراض القوم، وصد الشيطان عن سبيله متى كانت صريحة، أو ظاهرة في غير هذا المعنى.

وقال صاحب المقال: “وفاتهم رابعاً: أنهم بهذا التأويل قد خرجوا بالآيات عن سنن القصص التي جاء بها القرآن؛ فإنه لم يقص علينا – فيما حدثنا به عن أنبياء الله ورسله – إلا ما يتصل بأمر الرسالة، ويرتبط بسير الدعوة للعظة والعبرة، وماذا في قَصِّه علينا مرضَ أيوب من عبرة، وهو لا يحدثنا إلا بما فيه أبلغُ العبر؟ وماذا فيه من خطير الشأن، وهو لا يحدثنا إلا بحوادث ذاتِ شأن خطير؟ “.

لم يخرج المفسرون بالآيات عن سننِ القصص التي جاء بها القرآن: وسننُ القصص في القرآن: أن يحدثنا عن الرسل – عليهم السلام – بما فيه حكمة أو موعظة، ولا فرق بين أن تكون هذه الحكمة أو الموعظة مرتبطة بسير الدعوة، أم راجعة إلى ناحية أخرى من نواحي الهداية، أو السعادة أو الكرامة، كما حدثنا عن يوسف – عليه السلام -: أنه أُلقي في الجب، وبيع بثمن بخس، واستعصم حيث تهيج عاصفة الشهوة، وأوتي الملك، وحدثنا عن إبراهيم – عليه السلام -: أنه أمر في المنام بذبح ابنه، فلما تلَّه للجبين، فداه الله بذبح عظيم، وحدثنا عن يعقوب – عليه السلام -: أنه ابتلي بفقد يوسف، وحزن عليه حزناً طويلاً، وكان عاقبة تسليمه الأمر إلى الله أن التقى به في أطيب حال، وأعز مقام. فلمَ لا يحدثنا عن أيوب – عليه السلام – بأنه ابتلي بمرض شديد، وانقطاع عن الأهل، فما كان منه إلا الصبر والرضا، وكان عاقبة صبره الجميل عافية ضافية، وانتظامَ الشمل بعد تقطع.

ويدرك عظمَ بلاء المرض من تقلب في الأوجاع ليالي وأياماً، ويعرف شدة مصيبة الانقطاع عن الأهل من تمزق شمله بعد اجتماع، وابتعد عمن يعز عليه بعد معاشرة وإيناس.

قال صاحب المقال: “وفاتهم خامساً: أن حديث حلف أيوب، والرخصة له بالخلوص منه على ذلك الوجه أشبهُ شيء بالعبث الذي لا يليق بالمخلوق، فضلاً عن الخالق العلي الحكيم؛ إذ المعقول: أن العبد إنما يحتال للخلوص من الرب، فكيف يحتال الرب للخلوص من نفسه؟ فهو تعالى المحلوفُ به، وهو تعالى الدالُّ على الحيلة فيما يزعمون”.

تخيل كاتب المقال أن تفسير أهل العلم لقول الله تعالى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ [ص: 44] يجعل الآية من قبيل دلالة الله تعالى لأيوب على حيلة للتخلص من موجب اليمين، والواقع أنهم لا يفهمونها على هذا المعنى، وإنما يفهمونها على أنها شرع حكم من الله روعي فيه جانب الرحمة بمن حلف أيوب – عليه السلام – على ضربه، فهو حكم صدر على وجه الفتوى لأيوب خاصة، أو له ولقومه عامة، وعلى كل حال، فهو شرع معناه: أن الضرب بضغث يشتمل على مئة عود – مثلاً – يحقق عند الله تعالى غرض الحالف على الضرب بمئة سوط، وهو بهذا الوجه لا يدخل في نوع الحيل كما تخيَّل كاتب المقال.

قال صاحب المقال: “وإذا كان الله قد أراد أن يعفي أيوب من يمينه، فماذا يمنعه أن يعفيه بدون تلك الحيلة، وهي منه، ومن أجله؟ “.

يقول أهل العلم: إن الكفارة لم تكن مشروعة في عهد أيوب – عليه السلام -، بل لم تكن مشروعة في صدر الإسلام، وإنما شُرعت بعدُ؛ بدليل قول عائشة – رضي الله عنها -: “لم يكن أبو بكر يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين”. فالحالف في عهد أيوب – عليه السلام – ليس له إلا فعل المحلوف عليه، فأراد الله إرشاد أيوب إلى وجه أخفّ من الوجه المعروف لبرِّ يمينه، ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الله تعالى قد يخفف بعض الواجبات المشتملة على مشقة، فيسقط بعضها، أو يقيم ما يشبهها من بعض الوجوه مقامها؟

قال كاتب المقال: “وفاتهم سادساً: أن دلالة أيوب على هذه الحيلة، وشرعَها له تقريرٌ لمبدأ المراوغة والمحاولة، وهي آفة اجتماعية، وداء خلقي يتنزه الله تعالى أن يكون ذلك من تشريعه للناس؛ إذ لا يصلح معها أيُّ عمل، سواء ما ارتبط منه بالخالق، أو ارتبط بالمخلوق؛ لأنه لا يبقى منه غير صورته، ثم يمضي خالياً من السر الذي لأجله يستتبع العمل آثاره ونتائجه”.

قلنا لكم: إن أيوب حلف أن يضرب بعض أهله أسواطاً معدودة، والمعروف: الضربُ بها مفرقة، فشرع الله له طريقة أخفَّ هي الضربُ بها مجموعة، وجعلها مجزئة في برِّ يمين أيوب، أو أيمان قومه عامة، وليس في هذا شيء من تعليم مبدأ المراوغة والمحاولة، وفي الضرب بالأعواد مجموعةً إيلامٌ، غيرَ أنه دون إيلام الضرب بها مفرقة، فلم يكن الضرب بالضغث خالياً مما يستتبعه من الآثار والنتائج.

قال صاحب المقال: “وفاتهم سابعاً: أن ذلك ينزل الآية عن مستوى البلاغة الذي هو في متناول البشر، فضلاً عن الإعجاز الذي يجب أن يكون للقرآن الكريم؛ فإنه ليس أضعف أسلوباً وأوهن تركيباً من كلام يتوقف معناه على ما لا يفيد سابقُه ولا لاحقُه، بل لا بد من معونة أخرى يحدثك بها غير صاحب هذا الكلام، وهم قد جعلوا معنى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ [ص: 44] متوقفاً على خبر أن أيوب كان قد حلف ليضربن امرأته مئة سوط”.

قلنا: إن القرآن ليس بكتاب تاريخ، وإنما هو كتاب إرشاد، ومأخذ عبر، فقد يسوق من القصة أشياء هي موضع عبرة، ويسلك في سوقها ضرباً من الإيجاز يعد في أساليب بلاغته المتناهية، فلما جاء في قصة أيوب – عليه السلام -: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ [ص: 44] تبادرَ إلى الأذهان أن أيوب – كان لسبب ما – حلف أن يضرب شخصاً – ممن يباح له ضربُه تأديباً – أسواطاً معدودة، فأوحى الله إليه أن يضربه بهذه الأسواط مجموعة؛ رحمة بالمحلوف على ضربه، ولا يتوقف هذا المعنى الذي هو موضع العبرة على معرفة سبب الحلف، أو الشخص المحلوف على ضربه، أو عدد الأسواط، وما يذكره بعض المفسرين في تفصيل ذلك إنما هو توسع منهم في التفسير؛ أخذاً من روايات وصلت إليهم، يفعلون ذلك مع اعتقاد أن أخذ العبرة من الآية لا يتوقف على شيء من ذلك.

* رأي كاتب المقال في تفسير الآية، ورد هذا الرأي:

تأوَّل كاتب المقال قوله تعالى: ﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41] بمعنى: إعراض الناس، واستهزائهم بالدعوة والداعين؛ فإن ذلك من عمل الشيطان، وقال: “وما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض أممهم عن الاستجابة، ولا كان حزنهم الذي كان يبلغ أحياناً حد الإهلاك للنفس إلا لبطء في سير الدعوة إلى الله تعالى، انظر إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: 127]، وقوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6] “.

لا يتم لكاتب المقال هذا الوجه من الرد على المفسرين إلا أن يصح أن الأنبياء – عليهم السلام – لا يشكون إلا من إعراض أممهم عن الاستجابة؛ كما ادعاه ذلك الكاتب، وهذه الدعوى غير صحيحة، فقد شكا يعقوب – عليه السلام -، وحزن لفقد يوسف – عليه السلام -، فقال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: 86]، وقال الله تعالى: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ﴾ [يوسف: 84].

أما الآيتان اللتان ساقهما على ما يقول، فغاية ما يثبت بهما: أن الأنبياء يحزنون لإعراض الناس عن دعوتهم، وذلك ما يعرفه المفسرون، ولا يقتضي أن الأنبياء لا يشكون ولا يحزنون إلا من هذا الإعراض.

قال كاتب المقال: “ولما كانت الشكوى قد تشعر بوهن في العزيمة، وضعف الثقة، وعدم القوة في السير إلى الغاية، كان جواب تلك الشكاية أن قيل له: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ [ص: 42]، فالمراد بالركض هنا: عقد العزيمة وتأكيدها، واستتمام الثقة وإكمالها، والمضاء بالقوة، وبغير تردُّد ولا توانٍ إلى الغاية”.

ما جاء في سورة الأنبياء يدل على أن أيوب – عليه السلام – يقصد من مناجاته الدعاء لكشف البلاء؛ فإن الله تعالى بعد أن حكى قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]، قال: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء: 84]. وعلى نسقه يقال: إن قوله تعالى: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 42] قائم مقام آية ﴿فَاسْتَجَبْنَا﴾ في آية الأنبياء، وإنما يكون في معنى الإخبار بالاستجابة إذا دلَّ على حال يخرج بها أيوب من عهد البلاء إلى عهد السلامة، وهذا الحال متحقق فيما جرى عليه المفسرون من أنه أُمر بالركض، فانفجر الماء، وكان في اغتساله وشربه منه عافية وسلامة.

ويؤيد أن قوله: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ واقع موقع الإخبار باستجابة الدعاء عطفُ قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [ص: 43] عليه، كما عطف: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [الأنبياء: 84] على قوله: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾ [الأنبياء: 84] في سورة الأنبياء.

وإن سلمنا أن قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41] من قبيل الشكوى، فليس من لوازم شكوى الرسول إلى الله من إعراض قومه عن دعوته أن يكون واهنَ العزيمة، ضعيفَ الثقة، عديمَ القوة في السير إلى الغاية، والشكوى إلى الله تعالى من الضر تكون مع الصبر؛ كما أن الشكوى إليه من إعراض القوم تكون مع قوة العزم، وقد شكا نوح – عليه السلام – من عدم قبول قومه للدعوة إذ قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾[نوح: 5، 6] الآيات، ولم يأت بعد هذه الشكوى ما يشير إلى وهن عزيمته، وضعف قوته، فنسبةُ رسولٍ من رسل الله إلى وهن العزيمة، وضعف الثقة، وعدم القوة في السير إلى الغاية، ليس بالأمر الهين، فلا بدَّ له من نقل ثابت صريح، ولا يكفي في إثباته مجردُ شكواه إلى الله تعالى من عدم قبول القوم لدعوته، وقولُ الله تعالى في الثناء على أيوب: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 44] يبعد هذا الذي نسبه إليه كاتب المقال.

قال صاحب المقال مفسراً قوله تعالى: ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 42]: “ولما كان تردد المرء في غايته، ووهن عزيمته إليها، وضعف ثقته بها، صَدَأً يغشى الأرواح، ومرضاً يتعب النفوس، ويضايق الصدور، كان عقد العزيمة واستكمال الثقة غسلاً للروح من صدئها، وشفاء للنفس من مرضها، ونقعاً لغلَّة الصدر، لذلك قال الله لرسوله أيوب: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} “.

فرض كاتب المقال أن أيوب – عليه السلام – كان متردداً في إدراك الغاية من الدعوة، واهنَ العزيمة إليها، ضعيفَ الثقة بها، حتى صار هذا الحال صدأ غَشَّى روحه، ومرضاً أتعب نفسه، وضايق صدره، فرض الكاتب هذا؛ ليجعل المراد من المغتسل البارد والشراب: عقد العزيمة، واستكمال الثقة.

ونحن نعلم أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وليس من شأنه أن ينحو نحو هذه الكنايات والاستعارات المتكلفة: يعبر عن تقوية العزم بالركض بالرجل، ثم يجعل الركض مغتسلاً بارداً وشراباً، دون أن يأتي بكلمة واحدة تنبه لما قصده من هذه الكناية أو الاستعارة.

حمل كاتب المقال قوله تعالى: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ [ص: 42] على معنى: عقد العزم، وجعل اسم الإشارة في قوله تعالى: ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ راجعاً إلى الركض بالرجل، وقال: “والآية – كما ترى – ليس فيها مرجع لاسم الإشارة إلا الركض المفهوم من قوله: ﴿ارْكُضْ﴾ المكنى به عن توثيق العزم، والأخذ بالحزم؛ كما هو مقتضى النظم الكريم المجاري لقواعد اللغة التي تأبى أن يكون لاسم الإشارة مرجع غير هذا من الماء والعين كما يقتضيه تفسير المفسرين؛ إذ ليس في النظم ما يدل عليه بأي وجه من وجوه الدلالة”.

رد كاتب المقال قولَ المفسرين: إن المشار إليه هو الماء؛ بأن هذا يقتضي أن لا يكون لاسم الإشارة مرجع غير الماء، وليس في النظم ما يدل عليه، وذلك شيء تأباه قواعد اللغة.

أما نحن، فنعلم أن المشار إليه هو الماء المعبّر عنه بقوله: ﴿مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 42]، وليس هذا الموضع من المواضع التي يحتاج فيها اسم الإشارة إلى مرجع يتقدم ذكره.

ذلك أن اسم الإشارة قد يستعمل مشاراً به إلى محسوس مشاهَد للمتكلم والمخاطب، وهذا وجه استعماله الحقيقي، فتقول لمخاطبك مشيراً إلى كتاب حاضر بين أيديكما: هذا كتاب قيم، وتقول له مشيراً إلى ماء جار: هذا ماء عذب.

وقد يستعمل اسم الإشارة مشاراً به إلى أمر معقول، أو غائب، واستعماله في كل من هذين المعنيين مجاز، وفي هذين الموضعين يحتاج اسم الإشارة إلى مرجع يذكر فعله؛ كأن تتحدث عن غائب الحضرة، وتقول: ذلك كتاب مفيد، أو تتحدث عن أمر معقول؛ كالحلم، والكرم، وتقول: هذا خلق شريف.

ومن البيِّنِ أن اسم الإشارة في الآية مستعمل في أمر يراه المتكلم والمخاطب، وهو الماء، فلا يحتاج إلى مرجع يتقدمه كما ظن صاحب المقال.

قال كاتب المقال في تأويل قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [ص: 43]: “أي: هدينا أهله، فآمنوا به، واستجابوا لدعوته، وهدينا له مثلهم من غير أهله، فليس المراد بالهبة هنا: هبة الخَلْق والإيجاد، بل هبة الهداية والإرشاد؛ بدليل تعبيره بالأهل دون الذرية والولدان؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ [مريم: 53]؛ إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدي الله بهم، لا أن يولد لهم”.

قد عرفت – فيما كتبناه آنفاً -: أن طائفة من المفسرين يقولون: المراد من هبة الأهل في هذه الآية، ومن إيتائهم في سورة الأنبياء: جمعُهم عليه بعد تفرق، لا إيجادهم بعد عدم، ولا إحياؤهم بعد موت، وصاحبُ المقال يفسر هبة الأهل: بهدايتهم له، فلننظر أيّ التفسيرين أقرب مأخذاً من الآية.

الهبة: إعطاء الشيء بلا عوض، وهذا المعنى يتحقق في جانب الله تعالى بجمعه أهلَ الرجل عليه بعد تفرقهم، كما يتحقق في إيجاد أهلٍ لمن لم يكن له أهلٌ، فحملُ الهبة على الجمع بعد التفرق حملٌ للفظ على معنى قريب من الذهن، أما الهداية، فمعنى زائد على ما يفهم من لفظ الهبة، وإنما يصرف اللفظ عن المعنى المتبادر متى وجد المقتضى لهذا الصرف، ولا مقتضى لصرف الهبة عن الجمع بعد التفرق إلى معنى الهداية فيما نعلم.

أما قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ , فإن الهبة هنا على معنى: جعله مؤازراً له في الدعوة، وفُهم هذا المعنى من دليل آخر، وهو قول موسى – عليه السلام -: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ [طه: 29 – 31]، ومن قوله تعالى في الآية نفسها: ﴿نَبِيًّا﴾؛ فإن هبة النَّبيِّ إلى أخيه النبي ظاهرة في معنى التآزر على الدعوة إلى الحق.

يقول كاتب المقال: “إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدي الله بهم، لا أن يولد لهم”.

إذا كان القصد من قصة أيوب – عليه السلام – الاعتبارُ بصبره على ما أصابه من البلاء، ثم التذكيرُ بأن عاقبة الصبر فَرَجٌ بعد شدة، وسَعَة بعد ضيق، وسلامة بعد مرض، فأي بُعد في أن يقص الله على خاتم أنبيائه والذين آمنوا معه أن أيوب – عليه السلام – ابتلي بشدة من المرض، ووحشة من ابتعاد الأهل، فتلقى المصيبتين بسكينة، وأقام عليهما في صبر جميل، فكان عاقبة صبره وسكونه تحت سلطان القضاء أَنْ بدَّله بالمرض صحة، وبتفرق شمل أهله جمعاً.

وإن كلاً من الشفاء بعد السقم، وملاقاة الأهل بعد التفرقة، لنعمةٌ كبيرة يقدرها من قاسى الأمراض حيناً من الدهر، وتجرع مرارة الابتعاد عمن يعز عليه من الأهل.

ثم إن في الخلاص من المرض، والتمتع بالصحة قوةً على النهوض بأعباء رسالته، كما أن لخروج الداعي، وهو محفوف بأمة نبيلة من عشيرته الأقربين أثراً كبيراً في نجاح دعوته.

يهتم الأنبياء – عليهم السلام – لأن يهدي الله بهم، ونتيقن أن معظم اهتمامهم موجه إلى هذه الغاية، ولكنهم يقدرون نعماً أخرى فلا يفوتها أن تأخذ حظاً من اهتمامهم؛ فقد أثنى إبراهيم – عليه السلام – على الله تعالى بما يهب له من نعمة الشفاء بعد المرض، فقال: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما حضرت ابنَه إبراهيمَ – عليه السلام – الوفاةُ: “وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون”[2]، ومن يحزن لفراق ولد أو أهل، فشأنه أن يهتم لوجودهم، ويعد هبتهم له نعمة يجب أن تقابل بالشكر.

ذكر كاتب المقال: أن الخطة التي رسمها الله لجميع أنبيائه: اللين والرفق في الدعوة، وخرج من هذا إلى تفسير قوله تعالى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ [ص: 44]، فقال: “أي: لا ترفع في وجوه قومك رمحاً ولا عصًا، ولا تُغلظ لهم في القول، ولا تخاشنهم في الطلب، بل لَوِّح في وجوههم بالرياحين والأزهار، ولا تأثم بالغلطة والجفوة”.

هكذا يقول صاحب المقال، ويقول زعيم طائفة القاديانية الضالة عن السبيل محمد علي في تعليقه على ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة الانجليزية: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾: القرينة تدل على أن المقصود من ذلك أعداؤه، والمراد من أخذ الضغث والضرب بها: معاملتهم باللين والرفق.

أما أبو زيد الدمنهوري صاحبُ ذلك التفسير المنبوذ[3]، فقال في تأويل الآية: إن أيوب كان في سفر مسه منه تعب ومشقة، وكان محتاجاً إلى الماء، وقوله: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ يفيد أنه كان في حاجة إلى عمل يعيش به.

والضغث: هو المجموعة من خليط من الحطب أو الحشيش أو غيره، يعني: خذ بيدك شيئاً من هذا ليكون بضاعة”.

وقد أخذ أبو زيد صدر تأويله هذا من زعيم القاديانية؛ فإنه قال في ذلك التعليق: إن التعب والعذاب اللذين أدركا أيوب أتيا – فيما يظهر – من رحلته في صحراء حصل له فيها عطش شديد.

ولنعد إلى البحث في آراء صاحب المقال، فنقول: إنه سلك بتأويل هذه القصة مسلك من لا يرعى لحسن البيان حقاً، ولا للذوق العربي عهداً، فيحمل آيات من القرآن الحكيم متتابعات على كنايات واستعارات لا تدخل إلى الآذان إلا كرهاً: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ [ص: 42] مراد منه: توثيق العزم، ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 42] مراد منه: ذلك الركض، ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ﴾ [ص: 43]: هديناهم له، ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ [ص: 44] معناه: لوّح إليهم بالرياحين والأزهار.

والحق أن القرآن لا يأتي هذا التعقيد، ولا ينحو في بيانه هذا النحو، ولا تجد في آياته سلسلة كنايات واستعارات تبقى معانيها الأصلية محجوبة عن البلغاء كمعاني هذه الآيات في رأي كاتب ذلك المقال.

[1] كتاب بلاغة القرآن

[2] “صحيح البخاري”.

[3] راجع بحثه: “كتاب يهذي في تأويل القرآن المجيد” في هذا الكتاب.

مقالات مقترحة