مصادر الشّريعة الإسلاميّة[efn_note]مجلة الهداية، ج3، عدد1، ص48.[/efn_note]

الأستاذ الشيخ عبد العزيز الزغلامي

غير خفي أنّ الإنسان مدني بطبعه ونشأته، لا يقدر على العيش إلاّ مع أمثاله، فكان احتياجه لغيره ضروريا. وإنّ هذا الاجتماع لا بدّ أن يثير مشاكل نتيجة لتنافر المصالح وتزاحمها.

وحرصا من المجتمع على السّلامة ممّا يكدر صفوه، فقد نظّم علاقاته، فسنّ القوانين لتضع حدا لتصرف الأفراد والجماعة، حفظا لهذا الترابط. ومن ثمّ كان وجود القوانين في المجتمعات ظاهرة لزوميّة، ليستمر قيام العمران.

وعلى هذا الأساس تعيّن إيجاد سلطة في الجامعة الإنسانيّة تقوم على تنظيم واحترام المبادئ التي سنّها المجتمع، ليسود الامتثال علاقات النّاس، وتنتفي الفوضى، وهذه السّلطة هي الدولة التي تكفلت بأحكام وحفظ النّظام المرسوم للجماعة.

يقول عبد الرحمن بن خلدون:”إنّ العمران البشريّ لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره”.

وأداة الحكومة التي تقمع بها كل من يريد الخروج عن الجادّة: هي القانون. هكذا كانت الغاية من التشريعات الوضعيّة والسماويّة، التي ختمت بشريعتنا السّمحة، المكملة للشّرائع السابقة فيما لم تتضمنه من تشريعات. لقد تحدث القرآن في العديد من المناسبات عن وحدة الأديان في أصولها العقائديّة والأخلاقيّة. يقول الحقّ سبحانه): شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحا، والذي أوحينا إليك، وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدّين ولا تتفرقوا فيه (الشورى:13.

بيد أنّ الشرائع السالفة عن الإسلام لم تتناول كل النظم التشريعيّة؛ لأنّ الحياة كانت بسيطة لم تتشعّب فيها المعاملات، خاصة وأنّ الرّسل عليهم السلام كانوا يبعثون لجماعات معينة، في أمكنة محدودة حتّى أنّه أرسل رسولان في ظرف واحد كل رسول لفئة من النّاس، مثل إبراهيم الخليل، وابن أخيه لوط عليهما السّلام، ولأغراض محصورة، مثل مقاومة بعض المفاسد التي فشت في المرسل إليهم، أو إنقاذ هؤلاء الأخيرين من تسلّط الطغاة، كما وقع لبني إسرائيل، حيث جاء سيدنا موسى عليه السّلام لإنقاذهم من جبروت فرعون.

واستمرّ الحال حتّى انقرضت الشرائع السماويّة، ولم تبق إلاّ الشريعتان اليهوديّة والمسيحيّة، ولكنهما حرفتا وزيفتا، حتّى في قوامهما الأصلي، وعمودهما الفقري، كما أخبر به التنزيل:) وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النّصارى المسيح ابن الله (التوبة:30

ثمّ بمرور الزّمن تعقّدت سبل الحياة، بتعدد مطالبها وتشعّب مسالكها، ونضج العقل البشريّ في عمومه لكنّه لم يستطع مجابهة هذه المشاكل بانفراده، وبقي حائرا، فمنّ الله عليه بمدده الماثل في بزوغ فجر يضيء الحياة، بإكمال صرح الحضارة الذي بدأ بناءه رسل الله، فكانت الرّسالة الخاتمة الشّاملة رسالة الإسلام، التي عمّت جميع النّاس على اختلاف مستوياتهم وأجناسهم وألوانهم، مهما تعاقبت ظروفهم، فأحكمت صلتهم بربهم وبسائر الكائنات يقول جلّ شأنه في عموم هذه الرّسالة: )قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعا( الأعراف: 158 ويقول:)  وما أرسلناك إلاّ كافة للنّاس بشيرا ونذيرا(سبأ:28

وعلى هذا الأساس جمعت أسمى الأصول اللاّزمة لحياة الأفراد والأمم ونهضتها، فكانت منهاجا واضحا، يحلّ جميع المشاكل بما يناسب الفطرة البشريّة، فلا يصادم عقائدهم؛ لأنّها أسست على جذور من الإيمان بالله، وربط الصّلة بين القلب والعقل، والدين والعلم، والمادة الرّوح، بدون صراع، فكانت هذه الميزة من أسطع الأمثلة على قيم هذه الشّريعة التي جمعت بين الدنيا والآخرة، فكتب لها الخلود الصلوحيّة لكل زمان ومكان،إذ استطاعت أن تخوض في لبّ جميع المعضلات التي استعصى حلّها على المصلحين والفلاسفة والسياسة. فكانت ثورة رحيمة استهدفت شرف الإنسان وسعادته، لم تعرف البشريّة في أطوار مراحلها ثورة نقيّة مثلها.

وإنّه لا يسع عقلا جرّد من الهوى، وتخلص من التعصّب، والتربية الخبيثة، والثقافات المخربة، إلاّ أن يذعن لهذه الحقيقة، من أن دين الإسلام هو المنهج الإلهي للبشريّة في صورته الأخيرة، بعدما سبقته صور كانت كلّها تمهد لصورة هذا الدّين الأخير الذي أراده الله أن يكون خاتمة الرسالات، واللّبنة الأخيرة.

فمن خصائصه أن كان أوّل من دعا إلى مواجهة الكون، وتعمق نواميسه، والانتفاع بما فيه دون خوف من القوى التي كانت تتقمّص رداء الآلهة المزعومة يقول جلّ شأنه:) وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون( الجاثية:13،  ويقول: )انظروا ماذا في السماوات والارض( يونس:101، بينما كان الكون مجهولا إلى حد القرن الثامن عشر عند أروبا.

وفي سبيل الوصول إلى تكامل الشّريعة وخلودها أرسيت على دعائم متينة ضمنت لها المناعة والبقاء.

سأحاول بقدر المستطاع إعطاء إنارة كاشفة عن مصادر التشريع الإسلامي وموازنتها بالقوانين بإيجاز؛ لأنّ الموضوع رسم يحتاج إلى سعة من الوقت.

تناولت الشريعة العقيدة وما يتصل بها من عالم الغيب. كما فصلت العبادات وكيفيتها، وتحدثت عن المعاملات، فسنت للأسرة نظاما محكما يعرف في القوانين الوضعية بالحالة الشخصية، وفصلت الحقوق الماليّة التي تعرف بالقانون المدني،  وكلا القسمين من القانون الخاص. كما نظمت علاقات الحاكم والمحكوم، والواجبات والحقوق المتبادلة بينهما، وهو ما يعرف بالقانون العام، الدستوري والإداري، في التعاريف الحديثة. ووضحت القضايا المتعلقة بالجرائم والأمن، وهى من فروع القانون العام عند المقننين، وتسمى بالقانون الجزائى.

كل ذلك فيما يخص العلاقات الداخلية بين الأفراد والدولة.

أمّا علاقات الدولة بالخارج فقد فقد أحكمتها شريعتنا قبل أن تعرفها القوانين الغربيّة بقرون. وتسمى بالقانون الدولى، بنوعيه : الخاص والعام.

ولما سلف فإن القانون الإجتماعي على اختلاف شعبه، يرمي في مجموعه الى جملة من القواعد الوجوبيّة المنظمة لجميع العلاقات التي تثيرها حياة الانسان مع غيره. وهو على ضربين : خاص وعام، كما ألمع اليه.

ثمّ أنّ التشريع في الدول الحديثة نوعان : أساسي وهو الدستور،  وعادي وهو بقيّة القوانين و اللوائح.

أمّا الدستور فهو يعني بتنظيم أسس الحكم ونوعه، وحقوق وواجبات السلط والأفراد والهيئات في الدولة. و من مميزاته :أنّه لا يصح أن يصدر قانون أو لائحة مخالفة له. لانه لا يعتبر أسمى تشريع وأهمه في الدولة.

وأمّا القوانين واللوائح، فإنّها تنظم ما عدا ذلك من العلاقات المشار إليها.

هذا وإنّ التشريع الإسلامي استمد أحكامه من المصادر التاليّة : القرآن، والسنّة، والإجماع، والقياس، وأصبحت هذه المصادر قانونا معمولا به لدى العالم الإسلامي ، على اختلاف في المذاهب و الأنظار، والتأويل والاعتبار، ونظمت تلك المصادر على أسس مضبوطة نشأت من على أصول الفقه الذي كان أول من دوّن قواعده الإمام الشافعي، كميزان لضبط الاستنباط، ومعرفة الخطأ من الصواب في الاجتهاد. ثمّ تابع العلماء دراسة هذا الفنّ بالتمحيص وبدت في الفقه الإسلامي نظريتان :

النظريّة التدريسيّة المذهبيّة. والنظريّة التطبيقيّة.

واختصت الأولى بالمجتهدين في النظر. والثانيّة بالمجتهدين في التطبيق، في القضاء والإفتاء.

واستمر الأمر على هذا المنوال الى أن غزا الإستعمار أمّة الاسلام، فانقلب الحال، وفرضت عليها قوانين المستعمرين، لسلب شخصيتها في أهم مقوم وهو : الحكم.

ولقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بذلك حيث قال : (( لتنقضن عرى الاسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث النّاس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم. وآخرهن الصلاة )).

هذا، وإنّ المصادر منها:

مصادر رئيسيّة، متفق عليها بين علماء المسلمين، وهي المشار اليها آنفا.

ومصادر تبعيّة، قال بها كثير من فقهاء الأمصار، مثل: الاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف، والذرائع، والاستصحاب.

1- الكتاب

أى القرآن العظيم . وهو: المصدر الأول الذي رسم للمجتمع الإنساني الخطوط الواضحة للحياة المثلى، فتناول بيان الأحكام بنصوص اجمالية، وبذكر القواعد العامة. فلم يتصد للجزئيات والتفاصيل الاّ قليلا، في بعض المسائل،لتركيزها في الأذهان، ولابتنائها على أسباب قارّة لا تختلف بحسب البيئة والزمان، مثل :محرمات النكاح، وجلّ أحكام المواريث.

كما نصّ على عقوبات محدودة لجرائم معيّنة، لشدّة ضررها على المجتمع، فهى بمثابة أمهات الجرائم، وعين الحدّ فيها تأكيدا لها، ولتحقيق الأمن، وصيانة المجتمع في مصالحه الأساسيّة، من حفظ الدّين، والنّفس، والعقل،والنسل، والمال، بحيث سما بهذه القضايا عن مواطن الخلاف، فعينها، وترك ماوراء ذلك من الأحكام الفرعيّة والتفصيليّة للسنّة، ثمّ لغيرها من بقيّة المصادر، على ضوء القواعد العامّة، ومقاصد الشّريعة. ثم إنّه لا خلاف في أنّ القرآن حجة على كل مسلم ومسلمة، عند جميع المسلمين، وأنّ الروح التشريعيّة التي اتسم بها، تجعله المصدر الأوّل للأحكام.

2-السنّة

لغة : الطريقة، واصطلاحا ماثبت عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم من قول، أو فعل، أو تقرير ممّا يتعلق بالأحكام الشرعيّة الإلزاميّة.

وهى تلي الكتاب رتبة.

ومهمتها: تفصيل القواعد العامّة التي جاءت في القرآن، وتوضيح ما أجمل منه، أو تقييد مطلقه، كما تضيف أيضا تشريعات جديدة لا تخرج من المبادئ القرآنيّة.

وقد استمد، عليه السّلام، حقه في التشريع من التنزيل القائل ): وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوه7:(الحشر.

3-الإجماع

لغة: العزم والتصميم، أو الاتفاق في الأمر.

فمن الأول، قوله تعالى): فأجمعوا أمركم وشركائكم (يونس:71.

ومن الثاني : تقول أجمع القوم على كذا أى اتفقوا عليه.

واصطلاحا، هو : اتفاق أهل الحل و العقد من أمة محمد -عليه السلام- بعد وفاته، على أمر شرعى.

وتوضيح ذلك :أن اتفاق العلماء المختصين في الشريعة، في عصر معيّن، على حكم لم يرد ذكره في الكتاب والسنّة، هو المسمى بالاجماع.

وحجته مستمدة من قوله تعالى ): ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نولّه ما تولّى، ونصله جهنّم وساءت مصيرا( النساء:115.

ووجه الدلالة على ذلك، أنّ الله جمع بين مشاقة الرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين ، في الوعيد، والمصير السيئ. فيكون اتباع ما أجمع عليه أهل الحق والمعرفة من المؤمنين واجبا، والتنكب عنه محرما.

ومن أمثلته : الإجماع على تحريم الجمع في النكاح بين بعض المحارم، كالمرأة وعمتها. ووجوب توريث الجدّة للأم.

4-القياس

لغة : التقدير . تقول قست الثوب بالذراع، اذا قدرته به.

واصطلاحا، هو: إثبات حكم معلوم بالنص لامر غير منصوص عليه، لاشتراكهما في علة الحكم.

وهو اغزر المصادر الفقهيّة في إثبات الأحكام الفرعيّة.

وسند حجّة القائلين به، قول الله تعالى: (فاعتبروا يا أولى الأبصار) 2: الحشر.

لأنّ القياس فيه مجاوزة من حكم الأصل الى حكم الفرع، والمجاوزة اعتبار مأخوذ من العبور. تقول: عبرت النّهر، جاوزته.

ومثال ذلك: حرمة النبيذ، قياسا على حرمة الخمرة. فهذه الأخيرة تسمّى أصلا، و الأول يسمى فرعا، والإسكار هو: الوصف الجامع بينهما، ويسمّى علّة، والحكم هو : الحرمة في الأصل، فقيس عليه الفرع في الحكم.

ومن أمثلته أيضا : توريث الجدّ للأب، قياسا على الأب، باعتبار الجدّ أبا، لأنّ فيه معنى الأبوة.

وكحرمان الموصى له من الوصيّة اذ قتل الموصى، قياسا على حرمان قاتل مورثه من الميراث، لاشتراكهما في العلّة، وهى : الحصول على المنفعة قبل أوانها الشرعي.

وقد أمر عمر بن الخطاب أبا موسى الاشعري -عامله بالكوفه -بالقياس، كما جاء في رسالته المشهورة : اعرف الاشباه والنظائر، ثمّ قس الأمور عند ذلك.

5-الاستحسان

هو العدول بالقضيّة عن حكم نظائرها الى حكم آخر، بوجه أقوى اقتضاه هذا العدول، لكون حكم النظير فيه ابتعاد عن الشرع في روحه ومعناه.

ومن أمثلته : أنّ القياس يوجب أن يكون الشهود عدولا في كل قضيّة معروضة أمام القضاء، لأن العدالة هي التي ترجح جانب الصدق على جانب الكذب. لكن اذا لم يوجد في البلد عدول، فان القاضي يتعين عليه قبول شهادة من يوثق بقولهم في الجملة حتى لا تضيع الحقوق.

هذا، مع الاشعار ان القائلين بالاستحسان وترك القياس يشترطون قيودا، أهمها :

أ-اذا أدى العمل بالقياس إلى حرج وفوات مصلحة.

ب-اذا عاضد الاستحسان عرف غالب لا يتجافى مع القواعد العامّة للشريعة.

ج-اذا عارضت القياس مصلحة راجحة.

وأوّل من أخذ به : عمر الفاروق، في قضيّة إرث، وهي : أنّ امرأة توفيت عن : زوج، وأم، وأخوين شقيقين .فللزوج : النصف، وللأم السدس، وللأخوين للأم الثلث، فلم يبق للشقيقين شيء، لأنهما عاصبان، ولا يأخذ العاصب الا ما بقي عن أصحاب الفروض . فرفع الشقيقان الأمر لعمر وقالا له : هب أبانا حجرا ملقى في اليمّ، ألسنا لأم واحدة ؟ فرجع، وقضى باشتراك جميع الأخوة في الثلث سوية بينهم. وتسمّى هذه القضيّة في علم المواريث بالحجريّة،  اليميّة.

ولمّا قضى رضى الله عنه بالاشتراك بين جميع الأخوة كيف ذكر، قيل له : يا أمير المؤمنين، إنّك قضيت فيها عاما أول بغير هذا . فقال : (( تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضى ))، لأنه سبق له أن أعطى للأخوة للأم وحرم الأشقاء، اذ لم يبق لهم فاضل من التركة.

تلك هى القضيّة الاولى التي قضى فيها. والقضيّة الأخيرة هى التي شرك فيها جميع الأخوة ودرج المذهبان المالكي والشافعي على ما قضى به عمر أخيرا.

6-المصالح المرسلة

هى التي لم يرد الشرع نص على اعتبارها مصلحة بعينها أو نوعها، بحيث لم تقييد ببطلان، ولا باعتبار معين من منع أو وجوب. ويكون الدّاعي اليها :جلب المصلحة، أو درء المفسدة، أو سدّ الذريعة.

وجلب المصالح يراعى فيه مقاصد الشريعة لا مقاصد الأشخاص.

ذلك أنّ المصالح -بحسب ترتيبها – ثلاثة أنواع :

أوّلا: المصالح الضروريّة، وهي التي فيها المحافظة على إحدى الكليات الخمس، والتي لا يستقيم العمران بدونها. وتتمثل فيما يلى:

_1حفظ الدّين باقامة ما فرضه الله من عبادات، وتنفيذ ماشرع من عقوبات، والعمل على نشر الدّين، وتوضيح أصوله ومبادئه، والدّفاع عن حوزة الاسلام وأوطانه.

_ 2حفظ النّفس بإيجاد المأكل والملبس والمسكن لها، وتوفير الوقاية والعلاج من الأمراض، ولذلك حرّمت الشّريعة قتل النّفس بغير حقّ، قال تعالى): ولا تقتلوا النفس التي حرّم إلاّ بالحقّ (الإسراء33

وأوجبت القصاص لحفظ الأمن، قال جلّ ىشأنه: ) ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب لعلّكم تتقون( البقرة179

_3حفظ العقل بحمايته من كلّ ضرر يدخل عليه، ولذلك حرّمت المسكرات والمخدّرات.

_4حفظ النّسب بالمحافظة على بقاء النّوع البشري، وانتساب الأولاد إلى آبائهم، فدعت إلى الزواج، وحرّمت الزنى، قال تعالى) ولا تقربوا الزنى إنّه كان فاحشة وساء سبيلا (الإسراء32.

_5حفظ المال بالتّحصيل عليه بالطرق المشروعة، والعمل على إنمائه وإنفاقه في الأغراض الصحيحة، فنهت عن تبذيره، وحرّمت السّرقة والغصب، وقطع الطّريق، وكل وسائل الاحتيال، وأوجبت العقوبة على كل من يفعل ذلك.

ثانيا: المصالح الحاجيّة: وهي مرتبطة بالمصالح الضروريّة، ولكنّها دونها في الأهميّة، بحيث يحتاج إليها النّاس لرفع المشقّة، فإذا ما فقدت لا يخل فقدانها بالمصالح الضروريّة. مثل: إباحة الصيد، وإفطار المسافرفي شهر رمضان، وجواز بيع السلم، وضمان الحريّة الشخصيّة، مثل: حريّة القول والعمل بحيث أنّ فقدانها يؤدي إلى حرج وسوء نظام.

ثالثا: المصالح التحسينيّة: وهي من الكماليّات، فتكون دون المصالح السابقة في الاعتبار مثل: مراعاة آداب السلوك، وتوفير النّظافة لكل مرافق الحياة. ويترتب على فقدها الخروج عمّا تستحسنه العقول، والبعد عن الكمال الإنساني، وهي تختلف بحسب الزمان والمكان.

واعتبرت الشّريعة هذه المصالح كما ألغت أخرى لما ينتج عنها الضرر بالغير، كمصلحة المرابي في تنمية ثروته بالرّبا.

ومن المصالح مالم تتعرض له الشّريعة لا بوجوب ولا نهي، فكانت”مرسلة” وهي مقصودة هنا. والقائلون بالمصالح المرسلة يعلّلون بأنّ المصلحة تتجدد بمرور الزمن، فلو وقف النّاس عند المصالح المنصوص عليها شرعا، لضاق عليهم الأمر إزاء ما يجدّ ويحدث من القضايا التي لم يتناولها النصّ ومعلوم أنّ الشّريعة بنيت على المصالح والرحمة بالعباد، يقول تعالى:)  وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين( الأنبياء107

ومن أمثلة ذلك جمع القرآن في كتاب واحد بعد فاة الرّسول عليه أفضل الصلوات وأزكى التّسليم، ولم يكن ذلك موجودا في حياته، والدّاعي لهذه المصلحة هو حفظ الكتاب من الضياع، وذهاب تواتره بموت حفاظه من الصّحابة.

وكما قضى الفاروق عمر بطلاق زوجة المفقود بعد مضي أربع سنوات على فقده في حالة السلم، أو انصرام عام على فقده في حالة الحرب، دفعا لضرر الزوحة من بقائها معلّقة مدة الحياة، ولو كان للزّوج مال تنفق منه زوجته. وقد درج المذهب المالكي على هذا.

ومنها تضمين الصنّاع ما يصنعون مع أنّهم في الأصل أمناء، لكن لو لم يضمنوا لاستهانوا بما تحت أيديهم من أموال النّاس. ومنها أيضا قتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله؛ لأنّ المصلحة تقتضي ذلك، فلو قيل بعدم قتل المتعدد بالواحد لكان كل من يريد النّجاة من القصاص يشرك غيره في القتل، قصد النّجاة، ويذهب دم القتيل هدرا. فكانت المصلحة داعية إلى قتل الجماعة بالواحد. وقد روي أنّ جماعة قتلوا شخصا بصنعاء فقتلهم عمر رضي الله عنه، وقال: لو اجتمع أهل صنعاء على قتله لقتلتهم به.

7- العرف

هو ما تعارفه النّاس من عمل أو قول، واتخذوه نظاما لحياتهم. وله وزن كبير في جميع القوانين؛ إذ يعتبر التّشريع الطبيعي، فهو مادة أساسيّة من مصادر التقنين. وقد أقرّت الشّريعة العمل به كاعتبار الكفاءة في الزواج. بشرط أن لا يصادم نصّا تشريعيّا ، وإلاّ هدر، واعتبرعرفا فاسدا، فلو تعارف النّاس على شرب الخمر أو لعب الميسر أو كشف العورة أو غيرها من الممنوعات بالنصّ، فلا يعتد بالعرف ويلغى.

يقول الشيخ إبراهيم الرّياحي التونسي في إحدى فتاويه:

“العرف المعتبر هو: ما يخصّص العام، ويقيّد المطلق. أمّا العرف الذي يبطل الواجب، أو يبيح الحرام، فلا يقول به أحد من أهل العلم. فإنّ أفتى بعض الفقهاء بصحة عقد مخالف لأصل شرعي، وظهر من عباراته إنّه استند في إفتائه الى جريان العرف بهذا العقد، فاعلم أنّ العبارة لم تصغ في قالب التحقيق، أو أنّه لم يزن الفتوى بقسطاس من الشرع المستقيم”.

وقد سار على هذا المنوال المشرع التونسي، حسب مقتضيات المفصلين 543-544 من مجلّة الالتزامات والعقود، من أنّ العرف والعادة لا يخالفان النّص الصريح. وأن يكونا غير منافيين للنظام العمومي، والأخلاق الحميدة.

هذا وإنّ الأحكام المبنيّة على العرف تتغير بتغيره.

ثمّ إنّ علماء القانون في العصر الحديث اختلفوا على رأيين:

أحدهما يرى أنّ العرف مازال يقوم بدوره التشريعي، محتفظا بقوته الانشائيّة، فلا يقل مقاما عن التشريع المكتوب. فبوسعه أن يعدل أو يكمل أو يبطل القانون المكتوب.

والثانّي يميل أن العرف انتهى بتدوين القوانين. وإذا ما رجعت المحاكم إلى العرف فإنّما ذلك بمقتضى النّص الذي يستند على العرف.

8-الذرائع

جمع ذريعة، وهى لغة : الوسيلة. واصطلاحا : ما يكون طريقا لمحرم، فيأخذ حكمه.

والأصل فيها قوله تعالى ): ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم( الأنعام:108. وهذا الأصل يتضمن مثالا للذريعة.

ومن الأمثلة أيضا نهى الدائن عن أخذ الهدية من مدينه، لئلا تؤدي إلى الربا، ويصبح اتخاذ الهداية الفائض احتيالا.

وكذلك : منع قطع أيدي السارقين في الغزو، خشية لحوقهم بالعدو. ولهذا منع قائد الجند من اقامة الحدود زمن الحرب، للسبب المذكور.

وبهذا فإنّ مبدا  سدّ الذرائع  عرفته شريعتنا منذ أحقاب، ويعتبر اليوم من أرقى المبادئ القانونيّة . وهو ما يسمّى : بمنع الاحتيال على القانون.

9-الاستصحاب

لغة: طلب المصاحبة، واصطلاحا : هو استدامة ما كان ثابتا، أو إلغاء ما كان منفيا، بحيث يبقى الحكم الثابت للاشياء -من الحليّة أوالحرمية- في الماضي، ولا يحتاج إلى دليل إيجابي، بل تستمر الاستدامة، حتّى يقوم دليل مغير للأصل.

ومن أمثلته: الأصل في المنافع الإباحة، لقوله تعالى): قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق (.

والأصل -أيضا- براءة الذمّة من الالتزامات، حتى يثبت الدليل المعمّر لها.

كما أنّ الأصل في المضار التحريم والمنع الشرعي، لقوله عليه الصلاة والسلاّم : لا ضرر ولا ضرار في الاسلام.

فالضرر والمضارة ممنوعان شرعا. وأنّ النفي في الحديث بمعنى النهى، حتى تدعو المصلحة إلى اقتحام الضرر أو المضارة، مثل: قطع العضو المريض لسلامة بقيّة الأعضاء. أو قتل النفس قصاصا.

هذه ومضة حول مصادر التّشريع الإسلامي ألمعنا اليها باختصار.

ولا بدّ من الملاحظة بأنّ فريقا من العلماء يرى أنّ المصادر في مجموعها ترجع إلى ثلاثة : الكتاب، والسنّة، والرأى، الذي تنضوى تحت لوائه بقيّة المصادر الآنفة الذكر.

الاجتهاد

وفي هذا المقام نشير إلى أنّ الشريعة حثّت على الاجتهاد. وهو : استفراغ الجهد في معرفة الأحكام، لاستنباط الجزئيات من القواعد الكليّة، وفق المقاصد العامّة للشريعة. وكان عليه السلام يدرب أصحابه على الاجتهاد بقوله، فيقول: اجتهدوا، فكل ميسر لما خلق له.

ولمّا بعث معاذ بن جبل واليا على اليمين قال له:

كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟

قال : أقضي بما في كتاب الله.

قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟

قال: فبسنة رسول الله.

قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟

قال : أجتهد رأيي لا آلوا.

قال : فضرب صلّى الله عليه وسلّم صدري، ثمّ قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله.

وقد أجمع العلماء على جواز الاجتهاد من النبي عليه أزكى السّلام :

في القضاء، لقوله : إنّما أنا بشر، وانكم تختصمون الى، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحسب أنّه صادق فأقضي له … فمن قضيت له بحق مسلم فإنّما أقطع له قطعة من النّار،فليحصلها أو يذرها.

وفي غيره من الأمور الدنيوية، والأمثله على ذلك كثيرة :

منها : حادثة أسرى بدر. فقد شاور أصحابه في شأنهم، فكان الرّأي يدور بين:

_ إطلاق سراحهم بفدية ماليّة، لأنّ المؤمنين يومئذ في حاجة ماسّة الى المال، وتزعم هذا الرأي أبو بكر.

_ وقتلهم إرهابا للعدوّ ومنعا له من الأقدام على مجابهة المؤمنين، والتأليب عليهم، لأنّهم كانوا في هذا الظرف قلّة وضعفاء في مركزهم الاجتماعي، وأشار بهذا عمر.

لكن الرّسول عليه السّلام استصوب رأى أبي بكر، لما فيه من الرحمة و الشفقة -وهما من أخصّ أوصافه عليه الصلاة والسلام _لكن القرآن نزل باستصواب رأى عمر،لأنّ وضع المؤمنين القائم إذ ذاك كان يقتضيه .ولذا عاتب الوحي الرّسول عليه الصلاة والسّلام. يقول تعالى) : وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض. تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة،والله عزيزحكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم (الأنفال 67_68

أى لولا قضاء من الله سبق أنّه لا يعاقب أحدا بالخطا في الاجتهاد، لأصابكم ومسّكم بسبب ما أخذتم من الفدية، وتركتم من القتل، عذاب عظيم.

ذلك أنّ قتل أسرى العدو يوم بدر كان أولى من غيره، حتى يتمكن المسلمون من القوة وإرهاب العدو ولذلك لما قويت شوكة المسلمين، دعاهم الله بأن يسلكوا في الأسرى طريق : المن،رأى إطلاقهم من غير تعويض، أو : الفداء ، بأخذ المال لقاء سراحهم. يقول تعالى 🙂 فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا اثخنتموهم فشدّوا الوثاق، فإمّا منّا بعد وإمّا فداء (القتال:4

وبهذا يظهر أن مبدأ الاجتهاد أصيل في الإسلام وأنّه برز مبكرا، مع الدعوة، لأنّ الاجتهاد أدل على الفطنة وجودة القريحة.

وقد جابه علماؤنا القضايا التي وجدت للناس ولم تتناولها النصوص، وبالاجتهاد، فأخضعوها لمبادئ الشريعة وبيّنوا الحكم فيها.

هذا، مع الإشعار إنّه لا يجوز الاجتهاد فيما فيه نص صريح، أو إجماع.

بحيث يكون الاجتهاد في تطبيق الأحكام من الحوادث والجزئيات، بإقامة الدليل على وجود علّة الحكم الثابت، بالنّص أو الاجماع في الفرع. مثل : الانفاق على الزوجات والأولاد، فهو ثابت بالنّص، يقول تعالى) : والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف( البقرة:233

فالاجتهاد يكون في القدر الواجب من النفقة، فهو الذي يرجع فيه إلى اجتهاد المجتهدين، ونظرتهم لحال كل من المنفق والمنفق عليه، من حيث الدخل، ومستوى المعيشة، والمركز الاجتماعي.

ثمّ لا بدّ للمجتهد من معرفة الكتاب والسنّة والاجماع وشرائط القياس والناسخ والمنسوخ والعام والمطلق والمقيّد، والعلم بأسباب النزول، ومعرفة العربيّة، لأنّ الادلة من الكتاب والسنّة عربية الدلالة، فلا يمكن استنباط الاحكام منها الا بفهم كلام العرب، افرادا وتركيبا.

بحيث لا يعطى وصف الاجتهاد إلاّ للمتخصص الأمين ليجتنب العثار، وحتى لا يتجرأ من له مجرد ثقافة على الاجتهاد. لان افساح المجال لكل من له معرفة بأن يقول برأيه في الشريعة يعتبر فوضى، أو ضربا من الحمق، اذ لكل فرع من فروع الثقافة وأفانينها أساطين يرجع إليهم والحكمة لا تطلب إلاّ من أصحابها حتى لا تختل الموازين.

التطور في الشّريعة

يتعيّن بادئ الأمر التفريق:

بين المبادئ الأساسية، مثل الحريات، والشورى، والعدل ، وميدان العقيدة، والعبادات، والأخلاق، فهذه مبادئ ونظم قارّة لا تتغير ولا تتأثر بالزمان والمكان والاشخاص، ولا تقبل تطورا، إلاّ في كيفية عرضها، وأسلوب الاقناع بها.

وبين المعاملات، والأحكام المبنيّة على علّة متغيرة، أو مصالح أوجبتها ظروف معينّة، فهذه تتغير بحسب الحاجة، في غير المنصوص عليها بالكتاب والسنّة والإجماع، كالعقوبات التعزيزية، والأحكام الدستورية.

فقد تركت الشريعة أحكامها إلى العقل في الاستنباط، حسب الأحداث الوافدة. وبهذا سايرت الشّريعة الظروف الاجتماعيّة التي تعيشها الأمّة في جميع العصور.

ولا أدل على مظاهر تطورها من نزول القرآن منجّما، ووجود النّسخ والاجتهاد، ممّا أكسب الفقه الإسلامي تجددا ونماء. فلم يبق جامدا أمام الحياة زمن العصور الذهبيّة للمسلمين.

ويجدر التنبيه الى أنّ التطور ليس معناه التّحول عن المبادئ الأساسيّة للشّريعة، واتباع التيارات والمذاهب الفكريّة المختلفة التي قد تعادي الفكر الأسلامي، لأنّ ذلك يعتبر ميلا الى الأهواء، وذهابا مع الشهوات، وذوبانا، وانحلالا لا تقرّه الشّريعة.

وممّا سلف إيراده، فإنّ الأمّة الإسلاميّة في حاجة إلى الاجتهاد والعودة إلى  مناهل الشّريعة، لاستخراج الأحكام التي اقتضها الحياة المعاصرة، لتواكب الشريعة الظروف، ويحفظ المسلمون من اتباع المذاهب الفكريّة التي لا صلة لها بالمنهج الاسلامي ومراميه.

بحيث يجب أن يوجد لكل قضية مطروحة حكم إسلامي حتى ينتفي الحرج عن الناس.

ونشير في هذا الصدد إلى أنّه لا أساس لدعوى سدّ باب الاجتهاد، لأنّ الظروف التي دعت لسدّه لها أسباب، أهمها : ضعف العالم الإسلامي، بظهور الانقسامات السياسيّة، واستبداد السلطة، وفقدان الثقة بالنّفس أمام صولة الحكم، لانعدام الاستقلال الفكري.

أمّا اليوم وقد تغيّرت الحالة، وأصبح فتح باب الاجتهاد حاجة ملحة لمن توفرت فيه شروط الاجتهاد، لتقارب الشعوب الإسلاميّة بسبب توفر وسائل النقل وسرعتها، وللسعي الموجود بينها في التعاون والوحدة، ولبعث المجامع العلميّة في كل قطر إسلامي….

فيحق لهذه المجامع _لما توفر لديها من الصلوحيات _ أن تنظر في المشاكل التي جدت نتيجة للتطور و التقدم العلمي، وأن توجد لها الحلول الملائمة، على هدى الشّريعة، في اجتهاد جماعي لا يخشى منه المحظور الذي يتقى في الاجتهاد الفردي، الذي قد يكون تحت ضغط أو مصلحة شخصيّة.وبذلك يتم بناء المجتمع الإسلامي المنشود.

مقالات مقترحة