المقاصد الشرعية وأسرار التشريع[efn_note]المجلة الزيتونية، م1، ج1، ص124، رمضان 1355/ نوفمبر 1936.[/efn_note]
الشيخ محمد العزيز جعيط المفتي المالكي والأستاذ بجامع الزيتونة ـ رحمه الله تعالى ـ
[محتوى المقال]:
1- نظرة في طريق استثارة المقاصد الشرعية
2 – تمهيد
1 – نظرة في طريق استثارة المقاصد الشرعية:
طالما حدت بي عوامل الشّغف بهذا الموضوع النّفيس، ودواعي الشّوق إلى تذوّقه، أن أتقصّى أثر أسلافنا فيه، فطفقت أتصفّح تراثهم العلمي، وأستكشف خباياه، وأعْجُمُ[efn_note]عَجَمَ يَعْجُمُ الشيء امتحنه وجرّبه واختبره ليعلم حاله (عن محيط المحيط، البستاني).[/efn_note] ما في كنانته لأعثر على ضالّتي المنشودة؛ فرأيت في مجموعه ما يقضي لُبانة النّفس ويضيء أرجاء البصيرة، لكن بعد أن يَلقى الباحثُ عَرَقَ القِرْبَةِ[efn_note]تقول العربُ: لقيتُ منه عَرَق القِرْبةِ أي وجدتُ منه شدّةً ومشقّة (عن لسان العرب).[/efn_note] ويتجشّم عقباتٍ تَذَرُهُ طليحَ النّصبِ[efn_note]يقال ناقةٌ طَليحُ أسفارٍ، إذا جهدها السّفر وهزلها (محيط المحيط، البستاني مادة طلح)، طليحَ النّصبِ: تعني هنا مهزولا ضعيفا مُتعَبًا بسبب طول البحث المُضني وهو تعبيرٌ عن صعوبة الأمر.[/efn_note] صريع الضّجر لبُعْد النُّجْعَةِ[efn_note]النُّجْعَةِ: طلبُ الكلأ في موضعه، (محيط المحيط، البستاني، مادة نجع)، ويُراد ببُعْد النُّجْعَةِ السّفر الطّويل الّذي لا يُدرك فيه المُبتغى إلاّ بعد طول عناء ويُكنّي به الكاتب هنا عن طول الجهد في البحث وطلب العلم.[/efn_note] وصعوبة المُرتقى.
ذلك أنّي لم أعثر في هذه الثروة العلمية – مع غزارة مادّتها، وكثرة أنواعها، ووفرة عددها – على ديوان جامع جدير باستحقاق هذا اللّقب، يجمع في مطاويه شمل المقاصد الشّرعية، ويُفصح عن أسرار التّشريع، وإنّما يُوجد في بطون الدّواوين الفقهية وكتب علم الخلاف صُباباتٌ[efn_note]صُباباتٌ مفرده صُبابة، وهي البقية من الماء أو اللبن في الإناء (عن محيط المحيط، البستاني، مادة صبّ).[/efn_note] من العلل، وشذرات من الأدلّة لا تشفي للواقف حدَّها علّةً، إذ لا تبثّه تلك العللُ مقصدا تأرِزُ[efn_note]أرِزَ يأرَزُ: ينضمّ ويجتمع بعضه إلى بعض (مختار الصحاح، الرازي، مادة أرز)، تأرَزُ إليه أفرادُ أنواعِ الأحكام: ترجع جزئياتُها إلى قاعدة جامعة.[/efn_note] إليه أفرادُ أنواعِ الأحكام، ولا تناجيه بما يكفي للإذعان بأنه مقصَدٌ ولا تُسفِر عما في أغوار تلك العلل من الفوائد.
ويوجد في كتب القواعد الفقهية ما يجمع أشتات الجزئيات ولكنها مقفرة من الاستدلال على تأصيل تلك القواعد، ممسِكة عن حديث المصالح التي تترتب عليها والمفاسد التي تُدرأ بها، على أني لا أغمص[efn_note]غمَصَهُ يغْمِصُهُ، وغمِصَهُ يغْمَصُهُ غمْصًا وغمَصا (من باب ضرَب وعلِم): احتقره ولم يره شيئا وتهاون بحقه ـ (محيط المحيط البستاني ص 667).[/efn_note] حقَّ كتبِ القواعدِ البعيدة فقد جَلَتْ في بعض الميادين وأطْلعَتْ في آفاقها كواكبَ اليقين كبعضٍ من فروق الشهاب وجملةٍ من القواعد المبثوثة في موافقات الشاطبي، إلاّ أنّ ذلك غيْضٌ[efn_note]غيْض: قليل.[/efn_note] من فيض، ووَشَلٌ[efn_note]شل: الماء القليل.[/efn_note] من بحر.
ويوجد في بعض كتب التّصوّف ما يُستخلص منه كثيرٌ من أسرار التشريع، بَيْد أنّ معظمه قاصر على الآداب وأعمال القلوب، وممزوجٌ بما لا يُساير أحوال الدّهماء من الجمهور، ولا يُناسب إلا فريقا خاصّا ممّن نبذ الدنيا وراءه ظِهريا.
ويُلْفى في التّفاسيرِ وكتبِ شروحِ الأحاديث كثيرٌ من أسرار التّشريع ومقاصده، ولكنّها مشتّـتة غير مُتّسقة، ويُقتصر منها على ما يتعلّق بالآية المَسوقة والحديث المتكلّم عليه، الأمرُ الّذي لا يصل الإنسانُ معه إلى حظيرة القطع واليقين لِظنِّيَةِ الدّلالة واختلافِ العلماءِ فيها.
فكان لزامًا على الباحث عن المقاصد الشّرعية وأسرار التّشريع أن يشدّ رحال الصّبر ليقطع هذه المهامه الفيح، وبعد طول السّهاد ومواصلة الإدلاج، يحمد سراه ويجني ثمر مناه. ويا ليت أو لعلّ بروق التّوفيق تتألّق للعلماء الرّاسخين من المعاصرين العاملين في سبيل الإصلاح فتَشرَحُ صدورَهم لمراجعة الموادّ المُتحدَّث عنها، وجمْع متفرقّاتها، ونظم شتاتها، وسبكها في قالب يُقرِّبُ أريجها المنشور[efn_note]وردت العبارة في النص الأصلي هكذا [يقري أريها المشور] ولا أراها إلا خطأ مطبعيا أصلحتُهُ بهذه العبارة: [يُقرّب أريجها المنشور] لموافقتها السياق.[/efn_note]، ويجعلُ الوصولَ إليها من الأمر الميسور، وذلك فيما أرى يحصل بإبرازها في إحدى صورتين:
الأولى: إجلاؤها في صورة قواعد عامّة يُبرهَن عن تأصيلها بالأدلّة السّمعية المفيدة لذلك، وعن عمومها باعتبارها في أفراد المواضيع الفقهية المختلفة الأنواع، ويُكشف عمّا في اعتبارها من المصالح الرّاجعة للأفراد والمجتمع.
الثّانية: أن تبرُزَ في صورة موضوعات فقهية، يُستَهلّ فاتحةُ كلّ موضوع منها بالمقاصد الّتي اعتبرها الشّارع فيه، ويُستدل عليها بالجزئياتِ الواردةِ عن الشّارع في ذلك الموضوع المُحافِظةِ على تلك المقاصد، وتُحلَّلُ تلك المقاصد تحليلا شافيا جاريا على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، ويُتمَّمُ ذلك بنظرات الفقهاء في الجزئيات الّتي أمسك الشّارع عنها، فاستنتجوا أحكامها من المقاصد التي راعاها.
فبالسّير في هذا السّبيل يمكن للباحث أن يصل إلى مقاصد الشّارع، ويتيسّرُ التّفقّهُ في الدّين، ويتّضح ذلك بتمهيد كان من المُتعيِّن أن يُستهَلّ به الموضوع لولا التطلّع إلى محادثة الإخوان بما يُقصيهم عن الوقوع في مهاوي العثار أو الوقوف على سواحل الحرمان.
2 – التمهيد:
وهو أنّ التشريع الدّيني أثَر من آثار رحمة الله للعباد، ومنهل من ينابيع اللّطف بهم، حيث جعل بينهم وبين المضارّ حصونا منيعة، وساق إليهم المنافع كما يُساق الماء إلى الأرض الجزر، وهو في عامّة نواحيه يرمي إلى تزكية النّفوس، وإزالة أوضار النّقائص عنها، وغرس الفضائل فيها، يستوي في ذلك ما يرجع إلى علاقات العبد مع ربّه، وما يؤول إلى العبد في خويصة نفسه، وما يعود إلى علاقاته مع بني جنسه، وقد أومأتْ آيةُ: (..يتلو عليهم آياتك و يعلّمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم..)[ الجمعة 2]، ونظائرُها إلى هذا الغرض بِشيِّقِ الجُمل في سِلْك ذلك الترتيب البديع؛ إذ الرّسول يتلو الآيات فتُسمَع، ويُـبـيِّـنُـها فتُعلم، ويُروِّضُ النّفوس فتزكو، فلمّا كانت التّزكيةُ متأخّرةً عمّا قبلها ومترتِّبةً عليه، وهي الغرض الأسمى من التّلاوة والتّعليم قفّاهُما بها تقْفِية المقدّمات بالنّتائج.
وللشّارع فيما يُشرّعه مقاصدُ وحِكمٌ، إدراكُها هو الفقه في الدين الّذي يزيد المؤمن إيمانا، وتتفاوت قوى الناظرين في استيفاء حظوظها منه، كما يرشد إليه قوله عليه الصّلاة والسّلام: “إنّما أنا قاسم، والله معط”[efn_note]أخرجه البخاري ومسلم[/efn_note]، وقول إمام دار الهجرة: “ليس العلم بكثرة الرّواية، وإنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء”[efn_note]الدرّ المنثور: 7/20 وفيه «عن مالك بن أنس قال: إنّ العِلمَ لَيسَ بِكَثرَةِ الرِّوايةِ، إنّما العِلمُ نُورٌ يَقذِفُه اللهُ في القلبِ» فقط.[/efn_note]، وبنور هذا الإدراك أمكن للرّاسخين في العلم:
- ضبطُ أحكام الجزئيات التي توارت بحجاب الخفاء لسكوت الشّارع عنها،
- وتخصيصُ العام بالقياس،
- وتقييدُ المطلق به،
- وتقديمُ بعض الأقيسة على بعض أخبار الآحاد،
- وتعميمُ المعنى بإلغاء خصوص اللّفظ،
- وترجيحٌ بعض الأخبار المتعارضة على بعض،
- وتمهيدُ قواعد الفقه.
وليست هذه المقاصد بالمنتظمة بربانها[efn_note]لست أدري إن كانت هذه الكلمة [بِرُبَّانِها] كما هي مكتوبة في النص بدون شكل أو هي [بِرَبَّاتِها] طُبِعتْ تاؤها خطأً نونا![/efn_note] في سلك البيان، ولا بالمُلقاة في فيافي الإبهام بل بعضها صرح فيها الإفصاح عن محضه، وبعضها اقتصر فيها على التّعريف بوحي اللّفظ ورمز الإشارة. لذلك تفاوتت مراتبها فكان منها ما بلغ هضبة العلم واليقين كحفظ الكليات الخمس: “الدّين” و”النّفس” و”العقل” و”النّسب” و”المال”، الّتي جاءت الشّرائع كلّها بالمحافظة عليها، والّتي لا تستثير في اعتبارها إلى شاهد معيّن، بل تستفي اعتبارها من جزئيات كثيرة مبثوثة في الشّريعة يشهد كلّ فرد منها لها، حتى صار اعتبارها مقطوعا به، كدأب الأدلّة الظنّية الكثيرة الواردة على شيء معيّن، فإنّ مجموعها يفيد القطع على ما يشهد به الوجدان، وما إفادة التّواتر المعنوي للعلم إلاّ من هذه النّاحية، فللمجموع من الأثر ما ليس للأفراد.
وكان من المقاصد ما لم يَعْدُ منازل الظّنون لقلّة شواهده أو خفائها. وهذه المقاصد عند التّأمّل لا تكون إلاّ خادمة للمقاصد المقطوع بها، وهي الّتي يتّسع فيها مجال الاجتهاد وتنتشر لأجلها الأقوال والمذاهب.
وما القواعد التي يؤصّلها أرباب المذاهب إلاّ ناظرة من هذه المشكاة:
ـ فمنها ما تعلّق بعروة اليقين وهي القواعد الّتي تمالؤوا عليها كقاعدة (ارتكاب أخفّ الضّررين)، وقاعدة (عدم رفع اليقين بالشّكّ)، وقاعدة (سدّ الذّرائع) في الجملة.
ـ ومنها ما وقف بساحل الظّنّ، وهي المختصّة ببعضها.
والطريق المستقيم المفضي إلى إدراك هذه المقاصد استقصاء النّظر في مصادرها من الكتاب والسّنّة، واستكشاف عللها بالمسالك المعروفة في علم أصول الفقه، واستجلاء العلل بتبويئِها منزلاً من منازل الضّروريات ومتمِّماتِها، والحاجياتِ ومكمِّلاتِها، والتَّحسينيّاتِ وتوابعِها؛ ذلك أنّ هذه الشّريعة القيّمة جاءت بالمحافظة على:
1 ـ ما يتوقّفُ النظامُ واستقامةُ الأحوال على اعتباره، بحيث لو ولي شطر الإهمال لذهبت مظاهر العقل الإنساني أيدي سبأ [efn_note]- “تفرقوا أيدي سبأ” أي تفرقوا تفرقا لا اجتماع بعده. جاء في تهذيب اللّغة للأزهري: “وقولهم: ذهب القوم أيدي سبأ، وأيادي سبأ: أي متفرقين، شُبِّهوا بأهل سبأ لمّا مزقهم الله في الأرض كلّ ممزق، فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة. واليد: الطريق. ويقال: أخذ القوم يد بحر، فقيل للقوم إذا تفرقوا في جهات مختلفة: ذهبوا أيدي سبأ. أي فرّقتهم طرقهم التي سلكوها، كما تفرق أهل سبأ في مواطن في جهات مختلفة أخذوها.[/efn_note]، وجرت الأحوال على فساد وتهارج واختلال، تنزل بالإنسان إلى درك الشّقاء، وتمنعه من الاستواء على صهوة الارتقاء، وهذا ما يُعَنْوِنُهُ الأصوليون بالضّروريات.
2 ـ ووسّعت هذه الشّريعة المباركة للعباد مجال استجلاب المصالح ودرء المفاسد، بتمكينهم من استيفاء ما هم بحاجة إليه، حتى لا يمسّهم ضيق ولا يلحقهم حرج، بالحيلولة بينهم وبين حاجياتهم، وهذا ما يلقِّبه الأصليون بالحاجيات.
3 ـ وزادت هذه الشّريعة في العناية بهم، فشرعت لهم ما يستحسن في مجاري العادات وقانون المروءة ومكارم الأخلاق، وهذا ما يسمّيه الأصوليون بالتّحسينيات.
وبالغت في المحافطة على كلّ مرتبة من هذه المراتب فشرعت لها من الوسائل ما يكون أعونَ على تحقيقها وأتمَّ في صونها وحياطتها، وهو ما يسمّية الأصوليون بالمتمِّمات والمكمّلات.
فإذا جس الناظر علل الأحكام بطنا وظهرا، وأحاط بحالتها خبرا، كان في متناوله.
خادم العلم: محمّد العزيز جعيط