موقف أهل السنّة بين الخوارج والمرجئة في حكم ارتكاب الكبيرة[1]
الإمام الشيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور
من بدائع القرآن أنّه ما يذكر مع الإيمان إلا الأعمال الصالحة وما يذكر مع الكفر إلا المعاصي؛ ليرى أن شأن الإيمان إتيان الأعمال الصالحة وشأن الـكـفر إتيان المعاصي. وترك ما بين ذلك من إتيان الأعمال السيئة مع الإيمان ليدل على أن مرتكـبها يقترب بالقرب، من أجل ذلك أقلع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن المعاصي إقلاعا تامّا؛ لأنهم رأوها من شأن الـكـفر فلم يرضوا بها مع إيمانهم الكامل. غير أن القرآن قد نبه على أن المعاصي إذا خالطت الإيمان لا تبطله قال تعالى بعد أن عدد ذنوبا: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ [الحجرات: 11] ولم يسم تلك الـذنوب كفرا.
فلله مدارك أهل السنة؛ إذ اهتدوا إلى أن ارتكـاب الذنوب لا يخرج صاحبه عن حظيرة الإيمان وأدلة ذلك من السنة تبلغ مبلغ التواتر انتظمت عقودا، وأرهقت مخالفَها صَعودًا، وما أضعف أفهام قوم غرّتهم الظواهر بمالها من بريق، وفرقهم عن المحجة ما اعترضهم من بنيات الطريق، وهم الطوائف التـي ترعوي إلى ما ينثر ذلك العقـد الذي نظمته أدلة السنة من أحد طرفيه، من كـل من رام أن يـكون للإسلام فـكان عليه؛ ومرجعها إلى طرفي الإفراط والتفريط، فمن الإفراط مقالة الخوارج بتكفير مرتكب الذنب واعتقادهم أن مرتكب الذنب أو الذنوب كافر اسما ومسمّى بل هو شر من الكافر؛ لأنه يعامل معاملة الكافر في الدنيا وفي الآخرة ويزاد بأن يطالب بما على المسلمين من اللوازم، وتبعهم على معنى هذه المقابلة طوائف المعتزلة فوافقوهم في المسمى دون الاسم إذ أبوا أن يطلقوا على العاصي اسم الـكـافر، وسموه المنزلة بين المنزلتين لـكـنهم جزموا بأنه يخلد في النار ولا ينفعه إيمانه ولا عمله.
ولقد بالغ هؤلاء في اعتبار الوازع حتى عاد على المقصود بالإبطال؛ لأنه فسح باب الانسلال من الإيمان؛ لأنهم لما جعلوا المعصية خروجا عن الإيمان وجعلوا مرتكبها كافرا أو مساويا للكافر في المصير، وكانت سلامة الناس من المعاصي نادرة جدا. فالعاصي ما دام مصرا على المعصية لم تبق له فائدة في التقيد بربقة الإيمان إلا عناء القيام بفروض الأعمال، وهي شاقة على النفوس، فخير للعاصي عند عصيانه أن ينخلع عن الإيمان من أصله، ثم إذا ثاب إلى التوبة عن المعاصي فحينئذ يسلم إسلاما جديدا وهذا أمر لم يقصده الشارع ولو قصده لجعل عقوبات المعاصي كـلها القتل مثل الردة، ولا يخفى ما في هذا الرأي من الوهن. ومما يجب أن لا يغفل عنه علماء الأمة أن للإسلام حرصا على أن تبقى جامعته غير مثلومة، وأصل الجامعة تأسس على كلمة الشهادة مخلصا بها القلب، كما أشارت إلى ذلك الآثار الصحيحة من إعراض الرسول عن اتهام من يتهم أفراد المسلمين بالـكـفر والنفاق، وقوله للذي يرمـي غيره بذلك «أما إنه قد قال: لا إله إلا الله ــ هلاّ شققت على قلبه ــ من قال لأخيه: يا كافر فقد باء هو بها» والخلو عن المعاصي لا يستتب إلا لقليل، كما قال تعـالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ [ص: 24].
فالذي يعتبر الذنوب كفرا يلزمه أن يعتبرها خروجا عن الجامعة فيرزأ الإسلام جمهرة عظيمة من أتباعه، ويحرمه فوائد جمة من انتصاره بهم وانتفاعه، هذا عمرو ابن معد يكرب كان من وجوه المسلمين وسادة العرب ويذكر عنه أنه لم ينفك عن شرب الخمر من بعد تحريمها، فلو أنه بشربه للخمر عَدُّوه كافرا لرجع إلى صفوف المشركين؛ فخسر الإسلام مواقفه العظيمة في الفتوح في القادسية وغيرها، فرحمه الله وإن شرب الخمر، ورغمت أنوف المـكفرين بالذنوب لا أنف أبي ذر.
ثم لا يخفى ما ينشأ عن هذا الاعتقاد السيئ، اعتقاد تـكـفير العصاة، من استباحة دمائهم وأموالهم ومن مهاجرة مخالطتهم والخروج عن إمارتهم وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم وبين من يزعمون أنهم لم يقترفوا الذنوب كما ظهر من فتن الحرورية والأزارقة والنـكارية بالمشرق والمغرب مما سجل سوادا في بياض تاريخ الإسلام، وكـان أول شق فيه وانثلام.
[1] ) أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام: 80 ـ 82.