نزل القرآن على سبعة أحرف[efn_note]”العواصم والقواصم” لأبي بكر بن العربي.[/efn_note]

فضيلة الإمام محمد الخضر حسين

ورد هذا الحديث من رواية نحو عشرين من الصحابة، وعدَّه أبو عبيد في الأحاديث المتواترة.

ولم يرد نص أو أثر في المراد من السبعة الأحرف[efn_note]رواه أبو سلمة عبد الرحمن عن ابن مسعود، وأبو سلمة هذا لم يلق ابن مسعود، فهو منقطع. وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن الزهريّ عن أبي سلمة، مرسلاً، وقال: هذا مرسل جيد.[/efn_note].

والحرف يطلق بمعنى: الكلمة، وواحد حروف التهجيّ، والمعنى، والوجه، واللغة، وطرف الشيء.

ومن هنا اتسع الخلاف بين المتكلمين في معنى الحديث.

فذهبت طائفة إلى أنه حديث مشكل لا يدري معناه، وهذا ما ذهب إليه أبو جعفر بن سعدان النحوي، واختاره السيوطي في “حاشيته على سنن النسائيُّ”، وقال: والمختار عندي: أنه من المتشابه الذي لا يدري تأويله.

وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه من الأحاديث الميسورة البيان، وهؤلاء اختلفوا اختلافًا كثيراً.

ونحن نذكر أشهر أقوالهم، ونقرر ما هو الراجح من جهة الدليل:

أولها: أن المراد من السبعة الأحرف: أصناف من الكلام، وهي: النهي، والأمر، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال، واستدل هؤلاء بحديث ابن مسعود عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “كان الكتاب الأول ينزل على سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحِلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه”[3].

وردّ هذا الرأي بأن حديث: “أنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه” يدل على أن الأوجه السبعة المذكورة قد تجتمع في كلمة، والأحرف- بمعنى الأصناف المذكورة في حديث ابن مسعود – لا تجتمع في كلمة واحدة، ثم إن حديث عمر بن الخطّاب، وهشام بن حكيم يدل على أن اختلاف الأحرف يرجع إلى اللفظ دون المعنى، فإنهما لم يختلفا في تفسيره، وإنما اختلفا في قراءة حروفه.

وإذا لم يصح أن يكون حديث ابن مسعود مفسِّراً لحديث: “نزل القرآن على سبعة أحرف”، فمن المحتمل أن يكون قوله: “زاجر، وآمر، وحلال … إلخ ” كلام مستأنف. ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، أو يحمل على أنه تفسير للأبواب في قوله: “على سبعة أبواب”، لا للأحرف من قوله: “على سبعة أحرف”.

ثانيها: المراد من الأحرف: الأوجه، وهي وجوه تأدية المعنى الواحد بألفاظ مترادفة، ونسبه ابن عبد البر إلى أكثر أهل العلم، ونبَّه على أن المراد: تأدية المعنى بألفاظ مختلفة، ولو كانت من لغة واحدة؛ نحو: هلمَّ وتعالَ وأقْبِلْ.

ثالثها: المراد من الأحرف: الوجوه التي يراد بها التغاير، وهذا ما ذهب إليه ابن قتيبة، وفصّل هذا الوجوه السبعة فقال:

1- ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته؛ مثل: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ} [البقرة: 282]، – بالفتح، والرفع -.

2 – ما يتغير بالفعل مثل: (باعدْ) بلفظ الطلب، و (باعدَ) بلفظ الماضي.

3 – ما يتغير باللفظ مثل: (ننشزها)، و (ننشرها).

4 – ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل: (طلح منضود)، و (طلع منضود).

5 – ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: (وجاءت سكرة الموت بالحق)، و (سكرة الحق بالموت).

6 – ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل: (والذكر والأنثى)، (وما خلق الذكر والأنثى).

7 – ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى مثل: (كالعهن المنفوش)، و (كالصوف المنفوش).

ونوقش هذا الرأي بأن الحديث ورد وأكثرهم يومئذ لا يكتب، ولا يعرف الرسم، وإنما كانوا يعرفون الحروف ومخارجها، فمن البعيد جعل ما يختلف بالحركات مع اتحاد صورة الكتابة حرفاً.

ونرى من البعيد أيضاً أن يقصد الحديث إلى أن يعد ما يختلف فيه اللفظان بحروف متقاربة حرفاً، وما يختلف فيه اللفظان بحروف متباعدة حرفاً، بل الظاهر أن ما يختلف بالحروف حروفاً متقاربة أو متباعدة يعدّ حرفاً واحداً.

ولا يتمشى هذا القول مع من يرى أن السبعة الأحرف باقية في المصحف.

ونحن نستبعد أن يلاحظ في الحديث إلى أن يعد ما يختلف فيه اللفظان بحروف منقوطة، أو تغير بحروف متقاربة أو متباعدة حرفاً من الأحرف السبعة في الحديث يعدُّ اختلاف الألفاظ بنقط بعض حروفها، أو بحروف متقاربة أو متباعدة حرفاً مستقلاً.

رابعها: إن الأحرف السبعة ترجع إلى كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار، وتفخيم وترقيق، وإمالة وإشباع، ومدّ وقصر، وتخفيف وتليين وتحقيق؛ لأن العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه، فيسَّر الله عليهم؛ ليقرأ كل إنسان بما يوافق لغته، ويسهل على لسانه.

خامسها: أن المراد من الأحرف: اللغات، وإلى هذا ذهب أبو عبيد، والزهريّ، وصححه البيهقي في “شعب الإيمان”؛ أي: أن القرآن نزل على سبع لغات من لغات العرب. والمراد: أن اللغات السبع مفرَّقة في القرآن، لا أن كل كلمة تقرأ سبع لغات.

وإذا اعتمدنا تغير الأحرف باللغات، فإنما نعني: أن الله تعالى أنزل القرآن على هذه اللغات حتى يتيسر لكل عربي أن يقرأه على وفق لغته، لا أنه أباح للعرب أن يقرأ كل القرآن بلغته، ولو لم يسمع القراءة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -.

ويدل على أن هذه الأحرف متلقاة من النبي – صلى الله عليه وسلم -: حديث عمر، وهشام؛ إذ قال كل منهما: “أقرأني النبي – صلى الله عليه وسلم -“.

قالوا: وقد ثبت عن بعض الصحابة: أنه كان يقرأ بالمترادف، ولو لم يكن مسموحاً له، وساقوا على هذا: أن عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه – أنكر على ابن مسعود قراءته: (عتّى حين) بدل (حتّى حين)، وكتب له: أن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل.

وإذا صح هذا الأثر، حُمل قول عمر على معنى: أن الله أنزل القرآن أولاً بلسان قريش، ثم سهله على الناس، فجوّز لهم أن يقرؤوه على لغتهم. فينبغي إقراؤه وتعليمه على اللغة التي نزل بها أولاً.

[1] محاضرة ألقاها الإمام محمد الخضر حسين لطلبة التخصص في التفسير والحديث بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر – وجدتها مخطوطة في أوراق الإمام المحفوظة في دار الوثائق القومية بالقاهرة. ونشرتها سابقاً في كتاب “المستدرك الأول من تراث الإمام محمد الخضر حسين”.

مقالات مقترحة