هوى المؤمن مع الإسلام

فضيلة الشيخ محمد الهادي ابن القاضي

 

عن أبى محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال :

قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم :

(( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )) حديث صحيح رواه أبو القاسم الحافظ

هذا الحديث رواه أبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص فاتح مصر و قد أسلم قبل أبيه ، و حسن إسلامه رضي الله عنه ، و كان من أجلاّء الصحابة ، و أغزرهم علما ، و أكثرهم عبادة وورعا . روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلّم ما ينوف عن سبعمائة حديث . و أمّا جده العاص فانه لم يؤمن ، و قيل هو المراد بقوله تعالى : ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا و قال لأوتينّ مالا وولدا ) الآيات .

و قد روى هذا الحديث بإسناد صحيح في كتاب الحجة للإمام أبى القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ .

قال بعض المحققين وهذا الحديث مع وجازته يكاد يضم بين جنبيه كل ما جاء في كتب السنة.

فقد علم من منطوقة : أن من كان هواه تابعا لجميع ما جاء به النبيء صلى الله عليه و سلّم ، كان مؤمنا كاملا .

و علم من مفهومه : أن من أعرض عما جاء به النبيء صلّى الله عليه  و سلّم ، كان إلى الكفر اقرب منه إلى الإيمان . و النّاس لا تخرج عن هذه الصفات . وكل منهم تستتبعه مسائل الدين الخاصة به، وخصوصا المؤمن الكامل، فانه يطبق عليه جميع أحكام الإيمان، وهذا وجه كون هذا الحديث أصلا جامعا من أصول الدّين.

والهوى، بالقصر: الميل والمحبة. و يراد به : المهوى و المحبوب . وهوى كل إنسان ما يحبه ويميل إليه.

والإنسان لا يبلغ درجة المؤمن بحق إلاّ إذا كانت ميوله وشهواته منسجمة مع ما جاءت به شريعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، من الدين، المشتمل على: الإيمان والإحسان، والنصح لله ورسوله.

فالمؤمن الحق من يستلذ الطاعات و يشتهيها ، كما يستلذ و يشتهى ما يميل إليه طبعه ، و يحبه فؤاده ، من متع الحياة . وإلاّ كان ناقص الإيمان. لم يصل بعد إلى مقاعد المؤمنين الكاملين.

و قد يتعاطى المرء أعمال الدين و تكاليفه بادئ الأمر ، بتكلف و عدم اتجاه . و لكن بالصبر و المصابرة على ذلك تؤلف عنده ، و إذا ألفت أحبها ، و مال إليها ، و أصبحت جزءا من روحه و دمه ، يرى الحياة بدونها ضربا من اللهو والمجون .

و النفس راغبة إذا رغبتها

و إذا ترد إلى قليل تقنع

ولا شك أن كل شيء تعوده نفسك تعتاده و تألفه ، و إن كان شرا ، ألا ترى الدخان فان شربه وباء على الصحة و المال و الأبدان ، تشعر في بدء تعاطيك له بشيء من النفور و الكراهية ، و لكن سرعان ما يصير بالعادة مألوفا محبوبا ، لا غنى للنفس عنه ، فمن باب أولى الطاعات التي فيها صفاء النفس و تهذيبها ووصولها إلى المثل الأعلى الذي خلقت من أجله . فإنها تصبح بالمواظبة عليها عادة مشتهاة ، و لها بشاشة ، و فيها جمال . قال الشاعر:

و النفس كالطفل ، إن تهمله شب على حب الرضاع ، و إن تفطمه ينفطم

وإذن فعند العصاة استعداد للهداية ، كما عندهم استعداد للعصيان و الضلال ، و لكنهم عودوا أنفسهم الكسل عن الخير و عن الصلاة ، و انغمسوا في تيار الشهوات ، فتعودوا الشر و ألفوه ، و استخف بهم الشيطان فأطاعوه . والويل كل الويل لهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

كما أن أهل السعادة راضوا أنفسهم على تعاطى الخير ، فطبعت عليه نفوسهم ، و تفانت فيه ، و ( كل حزب بما لديهم فرحون ) _ ( فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة)_ ( فريق في الجنّة و فريق في السعير )_ ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك، و لذلك خلقهم) و كلفهم، حيث فطرهم مستعدين بقوى خلقها فيهم، متمكنة من فعل الخير، كما هيا متمكنة من فعل الشر.

خلق فيهم العقل ، و غذّاه بالعلم : علم الدين على لسان الرسل المبلغين عنه إلى عباده شرائع الهدى ، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .

و خلق فيهم الشهوة و الهوى ليصرفوها محدودة في القدر الذي خلقت لأجله ، و كلفهم ليبتليهم . فمن غلب عقله شهوته فهو أكرم على الله من الملائكة ، و من غلبت شهوته عقله فهو شر عند الله من البهائم . بل هو المعنى بقوله تعالى : ( إنّ شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) .

و لما كان الصراع بين العقل و جنده ، و النفس و طموحها إلى الشهوات ، صراعا عنيفا لا تنطفئ جذوته ، و لا يخبو أواره .

و كانت النفس نزاعة للسوء أمارة به …

كان الإنسان في ميدان الصراع أحد ثلاثة :

مؤمن كامل ، غلب عقله هواه ، و جاهده حتى اعتدل ووصل إلى الحد الذي يحبه الله ، فإذا هوا السعيد المقرب إلى الله تعالى .

و هذا الإنسان الذي حقق معنى إنسانيته ، و كان مصداق الحديث الشريف : (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )) فانجذبت شهواته  و ميوله إلى الدين ، و لم يرى ألذ و لا أشهى منه .

و جاحد كافر ، غلبت شهوته عقله ، و صرعته حتى أصبح هواه لها تصرفه كيف تشاء ، فحقت عليه الضلالة ، و صار أحط من البهائم التى عذرها في أنها شهوانية فحسب ، لأنها خلقت كذلك … فرد إلى أسفل السافلين .

ورجل بين بين ( من الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم )، فهذا لا يزال في حلبة المغالبة بين عقله و هواه ، و الحرب بينهما سجال ، فأحيانا تكون الغلبة للعقل و أخرى للهوى ، حتى يصرع أحدهما الآخر و يهزمه الهزيمة المنكرة . فينتهي إلى أحد الطرفين السابقين .

و كثيرا ما يطلق الهوى على الميل إلى الباطل . قال تعالى : ( و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى ، فان الجنة هي المأوى ) .

و قال ابن عباس رضي الله عنه : ( الهوى إله يعبد من دون الله ) ثم تلا قوله تعالى : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) .

و قال عكرمة في قوله تعالى : ( و لكنكم فتنتم أنفسكم ) : يعنى بالشهوات ( و تربصتم) يعنى بالتوبة ( و ارتبتم و غرتكم الأماني ) يعنى بالتسويف ( حتى جاء أمر الله ، و غركم بالله الغرور ) يعنى الشيطان .

و قال الشبلي : إنما سمي الهوى هوى ، لأنّه يهوى صاحبه .

و قال أعرابي : الهوى هوان ، و لكن غلط باسمه ، فأخذه الشاعر و قال :

إنّ الهوان هو الهوى قلب اسمه

فإذا هويت فقد لقيت هوانا

و قال هشام بن عبد الملك ابن مروان :

“إذا أنت لم تعص الهوى  قادك الهوى إلى كل ما فيه عليك مقال “

و لمّا كان حبك الشيء يعمى و يصم ، كان الهوى يخفى مكره عليك ، فيموّه لك الباطل ، و يزينه في عينك حتى تراه أحسن شيء .

وعين الرضى عن كل عيب كليلة و لكن عين السخط تبدى المساويا

أما العقل فسمي عقلا تشبيها له بعقال الناقة . لان العقل يمنع الإنسان من الإقدام على شهواته إذا قبحت ، كما يمنع العقال الناقة من الشرود اذا نفرت .

فهو نور في القلب يفرق بين الحق و الباطل ، و ينموا حتى  يبلغ الكمال ، و يقود صاحبه إلى أسمى مراتب الإنسانية الفاضلة . و كثيرا ما يكون هبة من الله تعالى .

من ذلك ما رواه الأصمعي رحمه الله ، قال : قلت لغلام حدث من أولاد العرب كان يحادثني فأمتعني بفصاحته و بلاغته : أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم و أنت أحمق ؟

قال : لا و الله .

قال ، قلت : و لم ؟

قال : أخاف أن يجنى على حمقى جناية تذهب بمالي ، و يبقى على حمق .

و حكى ابن قتيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بصبيان يلعبون و فيهم عبد الله بن الزبير ، فهربوا منه إلاّ عبد الله . فقال له عمر رضي الله عنه : مالك لا تهرب مع أصحابك ؟

فقال : يا أمير المؤمنين . لم أكن على ريبة فأخافك ، و لم يكن الطريق ضيقا فأفسح لك .

و لما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة جائته الوفود من كل الجهات تهنئه بالخلافة ، فقام من بين وفد اليمامة شاب يخطب في مجلس عمر نيابة عن الوفد ، فقال له عمر رضى الله عنه ، تقدمت يا غلام و فى قومك من هو أسن منك .

فقال الشاب : لو كانت الأمور بالسن يا أمير المؤمنين لكان في مجلسنا هذا من هو أحق منك بالخلافة ، و إنّما المرء بأصغريه : قلبه و لسانه .

و لله در القائل :

ما وهب الله لامرئ هبة

أفضل من عقله و من أدبه

هما الحياة الفتى ، فان فقدا

فان فقد الحياة أليق به

و دخلت ليلى الأخيليّة على الخليفة بعدما شاخت ، فقال لها : ماذا رأى فيك المجنون حتى  قال ما قال ؟

فقالت له : و ماذا رأى فيك الناس حتى ولوك الخلافة ، و فيهم من هو أولى و أعلم منك ؟

فسكت و قضى حاجتها .

فانظر _يا رعاك الله _كيف أن هذا الحديث ، مع وجازته ، قد تضمن أصولا دينية جامعة ، و فوائد جليلة ممتعة .

فجاهد نفسك ، و عودها على فعل الخير ، و أيقظ عقلك دائما حتى لا يغلبك هواك ، و تصبح تعاليم الدين جزءا من معناك ، و دما نقيا يجرى في هيولاك .

و لا تنس أنّ الله قد وعد _و هو الكريم _بأن من جاهد نفسه في سبيله فهو لا محالة موصله و هادية . و اقرأ إن شئت قوله تعالى : (  والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إنّ الله لمع المحسنين ) .

محمد الهادي ابن القاضي

مقالات مقترحة