واقعية القصص القرآني[efn_note]مجلة “الهداية الإسلامية” – العددان الحادي عشر والثاني عشر من المجلد الثالث والعشرين، الصادران في ذي القعدة وذي الحجة 1373 هـ.[/efn_note]

فضيلة الإمام محمد الخضر حسين

كنت سمعت من نفر غير مثقفين بعلوم الشريعة رأياً في القرآن يخرج به عن كونه تنزيلاً من حكيم حميد.

قال بعض هذا النفر: إن القرآن يأتي بالقصة لكونها جارية عند العرب، وهي غير مطابقة للواقع، إنما يريد بها الموعظة والاعتبار.

وكتب آخر قائلاً – زيادة على ما تقدم -: إنما يكسوها ثوب الفن القصصي.

وقال آخر منهم: إن القرآن يشتمل على قضايا مخالفة للعلم القطعي …

ولم نسمع منهم شاهداً منطقياً، وإنما يذكرون قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، فيقولون: إن القرآن دلَّ على أن عيسى وجد من غير أب، والعلم يخالف ذلك، فيدل على أن الابن لا يوجد بغير أب.

ويذكرون قوله تعالى: {يَا أخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: ٢٨]؛ حيث إن هارون أخو موسى، فكيف يكون أخاً لمريم أمِّ عيسى- عليه السلام – وبين الرسولين زمان بعيد؟

والجواب عن الآية الأولى: أن عيسى- عليه السلام – قد وجد من غير أب كما يدل عليه القرآن، ولا يستطيع العلم أن يقيم دليلاً منطقياً على أن الولد لا يوجد من غير أب، ما عدا أن العادة جرت بأن الولد لا يكون إلا من أب؛ ولله أن يخالف العادة بالمعجزة التي تجري في وجود رسول أو على يد رسول. والدليل القاطع قائم على أن الشرع من عند الله، فما يقوله يكون ولا بد صادقاً، وقد دل على أن عيسى – عليه السلام – ولد من غير أب، فنؤمن به، ولا نكون مخالفين للعقل السليم في الإيمان بذلك.

والجواب عن الآية الثانية، أعني: قوله تعالى: {يَا أخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]: أن هارون هذا أخ صالح لمريم – عليها السلام – سمي باسم هارون الرسول، والقرآن حكى ما صدر منهم، وليس من شأنه أن يقول: إن هارون غير هارون الذي هو أخو موسى – عليه السلام -. ومن ذا الذي يعتقد أن هارون أخو مريم أمِّ عيسى هو هارونُ موسى؟! والقرآن تحدث عن التوراة والإنجيل، وعرف النبي – صلى الله عليه وسلم – طولَ الزمان الذي بينهما، فكيف يراد في القرآن من هارون أخي مريم هارونُ أخو موسى؟

والقول: إن القرآن لا يُحكى فيه إلا ما كان واقعاً، قرره أبو إسحاق الشاطبي في “موافقاته” بعد أن تتبع القرآن بنظر وبحث، فقال: “كل حكاية في القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها – وهو الأكثر – ردٌّ لها، أولاً، فإن وقع ردٌّ لها، فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه، وإن لم يقع معها رد، فذلك دليل على صحة المحكي وصدقه.

ثم قال: إن القرآن سمي: فرقاناً، وبرهاناً، وبياناً، وتبياناً لكل شيء، وهو حجة الله على خلقه على الجملة والتفصيل، والإطلاق والعموم، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق، ثم لا ينبِّه عليه”.

ومن ظن أن في القرآن قصة باطلة، أو قضية تخالف العلم الصحيح، فقد وقع فيما يستلزمه هذا الظن لزوماً بيناً لا خفاء فيه من أن القرآن كلام ليس من عند الله، فإن الله قادر على أن يصور الموعظة والاعتبار في قصص واقعة، وقضايا موافقة للعلم الصادق، ومما جاءت به الشريعة لإبطال ما يعتقده العرب من المزاعم الباطلة.

وإذا كنا نعدُّ مَن يسوق في كلامه قصة غيرَ واقعة بأسلوب يوهم أنها واقعة عاجزاً أو جاهلاً، كما نعدُّ من يأتي بكلامه بجملة ينكرها العلم عاجزاً أو جاهلاً، فكيف نعتقد أن الخالق – جل جلاله – يسوق في كلامه ما ليس بحق، ولا ينبّه له؟!

وإذا كان بعض السياسيين يريد أن يجلب قلوب الناس إلى غرض محمود بقصة يعرف أنها غير واقعة، أو كلام يعرف أنه لا يطابق العلم الصحيح -؛ فربما كان حُسن القصد غطى على عيب الكذب، وهذا لا يقرر في حق الباري -جل شأنه-؛ إذ هو قادر على أن يؤلف قلوب الناس بغير حكاية ما ليس بحق، والكذب مستحيل في حق الأنبياء – عليهم السلام -، فكيف يكون من الله- جلَّ وعلا -؟

كتبنا هذه؛ ليتنبه المعتزون بدينهم لمغالطات الحائدين عن السبيل؛ حتى لا يكونوا عن هداية الله معرضين.

مقالات مقترحة