الأحكام العادلَة في سياسة الشعوب[1]
فضيلة الإمام محمد الخضر حسين
شرع الإِسلام لسياسة الشعوب أحكاماً تجري على سبيل العدل، وسار الخلفاء الراشدون على تنفيذها بحق، وتلقوا الثناء عليها من كل ناحية.
وقام بعض الملوك الذين لم يدرسوا الدين كما يجب يتقبلون فتاوى الأئمة المجتهدين فيها؛ كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة، وإبراهيم النخعي، ويتقبلون آراء العلماء الراسخين؛ كالإمام سحنون، وابن عبد البر، ومنذر بن سعيد، وأبي بكر بن العربي، وأمثالهم، وكثير من هؤلاء الأئمة بنوا الحكم بالإفتاء والتأليف المسند إلى الأدلة التي تواترت على المصلحة، والفرق بين هذا وبين القانون هو الإحاطة بالمصلحة، وإنما ينازع في الأخذ بأحكام الشريعة من ينظر في مقتضيات العصر بعين فاترة، أو يجعل نظرته كمرآة لمعرفة الحق والباطل.
وإذا كانت الأحكام مأخوذة من الكتاب والسنّة لا تخرج عن الحقيقة، ويقف الإنسان أمامها راكعاً أو ساجدًا، والنظر السليم أفادنا بهذا.
والدليل على ذلك: أنه إذا ذكر لك الإنسان قانوناً وضعياً، ورأيته موافقاً للنظر الصحيح، فإنه إما أن يكون وافق القانوني الفطري، أو يكون ما قرره من أحكام مستمداً من المسائل المقررة في مذاهب الأئمة المجتهدين.
والفرنسيون لما استولوا على الجزائر ترجموا “مختصر الشيخ خليل” المؤلف في الفقه المالكي إلى لغتهم. فمن الجائز أن ما قرر في القانون من المسائل التي وضعوها في قانونهم الوضعي أخذ من هذا الفقه.
والمصلحة قد يفهم من النص الخاص اعتبارها، كمصلحة تعدد الزوجات المفهوم من قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3].
وقد يفهم إلغاؤها من النص؛ كمنفعة الربا التي اعتبر الشارع إلغاءها نظراً للمضار الحاصلة منه.
وقد يعتد الشارع بالمصلحة، وإن لم يتقدم منه نص خاص على اعتبارها، ولكنه يفوض إلى المجتهد إذا أدرك المصلحة تعليق الحكم عليها، وتسمى: المصلحة المرسلة؛ أي: مطلقة عن التقييد بدليل خاص على اعتبارها أو إلغائها، ويتركها للمجتهد؛ مراعاة للقواعد التي أخذت من الكتاب والسنّة.
إن المصلحة إذا لم يخصها الشارع بنص على اعتبارها أو إلغائها ترجع إلى المجتهد، ولا يقبل النظر فيها إلا منه؛ لأنه هو الذي يعرف ما نص عليه الشارع، وما يناسب المصلحة التي يعتبرها الشارع أو يلغيها، ونظره هنا له اعتباره الشرعي؛ لاستناده إلى قاعدة مأخوذة من الكتاب والسنّة، وهي: مراعاة المصلحة المرسلة.
ومثل ذلك: اشتراط المالكية الخلطة بين المدعي والمدعى عليه في مطالبة المدعى عليه باليمين، وبذلك قيدوا النص العام، وهو الأثر القائل: من أنكر فعليه اليمين، وذلك فراراً من تطاول أدنياء الناس على كبرائهم، وسوقهم إلى القضاء للغض من كرامتهم.
وقد منع الشارع من تزوّج المسلمة بالنصراني، أو اليهودي؛ لأن النكاح ينبني على حسن معاشرة الزوجين، ولأن للإسلام كرامة تزول عندما تتزوج يهودياً أو نصرانياً لا يؤمن بدينها. والقانون يحيى ذلك، وكأنه لا يحرص على تزوج المرأة بمن لا يزيل كرامتها.
والشارع يورث المرأة نصف ما يرثه الرجال، والقانون يورثها بقدر ما يرث الرجال، مع عدم اعتباره أن إنفاق الرجل عليها وعلى أولادها وعلى المسكن والمطعم والمشرب واجب عليه، لا عليها، وإن كانت ذات مال.
وكنت زرت شيخ الإِسلام بتونس، فوجدت في المجلس شيخنا أبا حاجب، وقريبه السيد محمد أبا حاجب، فقال قريبه: ها هنا مسألة اختلفت فيها الشريعة والقانون، وهي: أن يبيع إنسان حيواناً، أو ثوباً لا يملكه، فإن ثبت ببينة أن المبيع ملك لآخر غير الذي باعه، فالشريعة تقول: يعطي الحيوان أو الثوب لصاحبه، والمشتري يرجع على البائع بالثمن. والقانون يقول: إن الثوب أو الحيوان يبقى بيد المشتري، والمالك هو الذي يرجع على البائع بالثمن. فافترق المجلس على أن حكم الشريعة أرجح مصلحة.
فالشارع يرى أن صاحب الشيء: الحيوان، أو الثوب يعطى حقه عاجلاً، والمكلف بتتبع البائع إنما هو المشتري منه بعقد باطل، وما قاله القانون ترويج للاعتداء على أموال الناس بغير حق. ومن أدرك الحقيقة، ووقف عندها، عده رقيق الدين متعصباً لما يعتقد.
ويعجبني بعض الوزراء إذ أصدر قانوناً يوافق الشريعة بخلاف القانون الذي قبله، فقال له بعض الوجهاء يمازحه: إن بعض الناس يعدون ما فعلته من الرجعية، فقال: إن كان هذا رجعية، فأنا أول الرجعيين. فتركها كلمة دالة على استقامة عقيدته وكمال خلقه.
وألفت جماعة كبار العلماء لجنة للمقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية، فعاتبني بعض الناس على تأليف هذه اللجنة، وقال: إن المستعمر يفهم أنا عزمنا على العمل بالشريعة في المحاكم كلها، فقلت: إن المقارنة بين الشريعة كالمقارنة بين القوانين تفعله الدول كلها.
وحدثني من أثق بروايته: أن ملك تونس ظهر على وجهه سرور عندما أُخبر بوفاة الشيخ إبراهيم الرياحي المفتي بتونس؛ لأن الشيخ كان يعترض بشدة على ما يفعلونه نفاقاً لأهوائهم.
ونختم هذا المقال بما أخبرنا به صديقنا الأستاذ محمد عبد السلام القباني من أن أحد الإيرانيين كتب: أن القانون الروماني إنما ظهر في أوربا بالحالة التي عليها الآن بعد ظهور الإِسلام.
وقرر الأستاذ في مقالات نشرف في بعض الصحف العربية أن طائفة من الفرنسيين رحلوا إلى الأندلس، ونقلوا الفقه الإِسلامي إلى اللغة الفرنسية، وأدخلوا بعض الأحكام في القانون الروماني، وأظهروه في أوربا، فمن قال: إن الفقه الإِسلامي أخذ من القانون الروماني، أنكر هذه الحقيقة.
وتلقت مقالات الأستاذ بعض الصحف الفرنسية بالاستحسان، وقالت: إن هذه الحقيقة مجهولة عند أوربا الآن. وكأن من طبع ما يسمى “المدونة الرومانية” اتباعاً لما ظهر في أوربا لم يطلع على هذه المقالات.
[1] مجلة “لواء الإِسلام” – العدد العاشر من السنة الحادية عشرة.