عقيدة

‌‌الكبيرة والصغيرة – الشيخ محمد الخضر حسين

‌‌الكبيرة والصغيرة

فضيلة الإمام محمد الخضر حسين

 

يكون الإنسان مؤمناً كاملاً بصحة الاعتقاد بالله، واجتناب الكبائر والصغائر، فإن اعتقد ما لا يليق اعتقاده بالله، كان غير مؤمن، وإن فعل ما نهى عنه الدين، أو ترك ما أُمر به، كان عاصياً، فغير المؤمن بالله من يجحد بواجب الوجود، أو صفة من صفاته العليّة؛ كالوحدانية، والقدم، والقدرة، والعلم، أو أنكر الملائكة، أو شيئاً من كُتبه، أو أَحدَ رُسله، أو البعث، أو جحد ما وقع عليه الإجماع وعلم من الدين بالضرورة؛ كالصلاة، والصوم، والحجّ، والزكاة، وأن الشريعة جاءت بأحكام المعاملات كما جاءت بأحكام العبادات.

والمعاصي التي لا تبلغ مرتبة الكفر منها كبائر وصغائر، وتأدب بعض العلماء فلم يذكر في المعاصي صغائر؛ إجلالاً لمن يعصى بها، وإلا، فهم متفقون على أن المعاصي منها كبائر، ومنها صغائر، والدليل على انقسامها إلى كبائر وصغائر هو الكتاب والسنّة، والقواعد المأخوذة منهما.

أما الكتاب، فقد قال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: 31].

وأما الحديث، فقد سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما في “صحيح مسلم”، وغيره، عن أكبر الكبائر، فقال – عليه السلام -: “أن تجعل الله نداً وهو خلقك”، ثم قال: ثم أيّ؟، قال: “أن تزاني حليلة جارك”.

وفي حديث آخر: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قيل له: ما هي يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وأكل الربا». وليس في الحديث حصر للكبائر في سبع، وإنّما فيه ذكر سبع منها.

وحديث ابن عباس في الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: مرّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقبرين، فقال: «إنهما ليعذّبان، وما يعذَّبان في كبير»، وفي رواية: «وإنه لكبير، أما أحدهما، فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة» .. أما النميمة وهي نقل كلام الغير للإضرار به، فكبيرة، وأما عدم الاستتار من البول، فكبيرة؛ للمواظبة عليه، والصغيرة تأخذ حكم الكبيرة بالمواظبة.

وألحق العلماء بما ذكر في الكتاب والحديث من الكبائر ما كانت مفسدته عظيمة؛ كمفسدة الكبائر المنصوص عليها، وألحقوا بالصغائر ما تكون مفسدته قليلة، وتقدير المفسدة يرجع إلى المجتهد في الشريعة؛ لأنه هو الذي يعرف مقدار المفسدة التي جعلها الشارع مقياساً للحكم على الكبيرة والصغيرة.

وذكر الفقهاء الكبائر والصغائر في حقيقة الشهادة، قالوا: يقدح في الشهادة ارتكاب الشاهد لكبيرة، أو إصراره على صغيرة، وفسروا الإصرار على الصغيرة بأن تتكرر منه، ولا يظهر التوبة منها، ولا الندم عليها، وارتكابه للذنوب الصغيرة مع الإصرار عليها دليل على استخفافه بالشهادة.

وذهب أهل السنّة إلى أن فاعل الكبيرة يعذب عذاباً شديداً، ولا يخلد في النار كما يخلد المشركون، ويؤيد ما ذهبوا إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].

وذهب الخوارج، وهم الذين خرجوا على عليّ – كرم الله وجهه – إلى أن مرتكب الكبيرة خالد في النار، والمعتزلة يرون أنه في منزلة بين المؤمنين والكافرين، وأنه يخلد في العذاب، وقد استدل الفريقان بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ [النساء: 94].

ولا يرى أهل السنّة في هذه الآية دليلاً؛ لأن المقصود بها من قتل وهو كافر مؤمناً، أو أن المراد بالخلود طول الإقامة من غير تأبيد، ويلحق بالكفر معاصي إذا ارتكبت كانت كفراً؛ كتكفير الصحابة جملة؛ لأنه يقتضي إبطال الشريعة كلها، فهم رواتها، وعنهم أخذت؛ بخلاف من سب بعضهم؛ فإنه لا يخرج من دائرة الإيمان، وإنما يعتبر مرتكباً لكبيرة، فقد ورد في حديث البخاري: «من عادى لي ولياً، فقد آذنته بحرب»، وهو يشمل من سب الصحابة، لاسيما من شهد له رسول الله منهم بأعظم الإيمان، وأكمل الأعمال؛ كأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب – رضي الله عنهم أجمعين -.

وألّف أحد العلماء في تونس رسالة فيمن يقف في صفوف الأجانب، ويقاتل المسلمين، وأثبت أنّه كافر.

وقال أبو الحسن الأشعري: من بنى لطائفة كافرة محلاً يكفرون فيه بالله، فهو كافر.

ولا أظن عالماً بقواعد الشريعة يخالف في كفر من يطلع الأجانب على عورات المسلمين، ليغلبوهم على أمرهم، ويستولوا على أوطانهم.

ومن المعاصي ما اختلف فيه الأئمة؛ كترك الصلاة، فقد عدّه الإمام أحمد بن حنبل – رضي الله عنه – كفراً، وعدّه الجمهور كبيرة.

ولا يعد عاصياً من عرف منه الدخول تحت سلطان الشريعة، وإنّما خالف الجمهور بدليل شرعي من شأن العلماء أن يستدلّوا به، فإذا خالف بغير دليل شرعي، فابتدع رأياً لا يقول به الشرع، فتلك ضلالة.

وورد على أحد أصدقائنا من العلماء سؤال، وأظنه من غير المسلمين، يطلب فيه معرفة الحكم في تأخير صلاة الجمعة إلى يوم الأحد، هل يعد تصرفاً مخالفاً للدين، أو لا؟ فذاكرني في الجواب، فقلت: تحويل صلاة من يومها إلى يوم آخر خروج عن الدين؛ لأنه من قبيل تغيير ما أجمع عليه العلماء، وعُلم من الدين بالضرورة، لقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9].

ومعلوم من أصول الفقه: أن الشّارع ذكر لكل صلاة وقتاً معيناً، وبيّن له بداية ونهاية، فذلك الوقت سبب لوجوب الصلاة وصحّتها، فمن أداها في غير وقتها، لم تصح منه، ولكن الشارع إن أمر بقضائها، فقد وجد دليل على صحّة قضائها بعد فوات وقتها، والجمعة عين لها الشارع وقتاً معيناً، فمن أدّاها في غير ذلك الوقت، فقد أدّاها في وقت لم يأذن به الله، فلا تصح له صلاة الجمعة.

وسألني أحد علماء الجزائر سنة 1943 م، وهو في طريقه إلى الحجاز عن قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [التكوير: 29]؛ فإنّ الآية تدل على ما يشاؤه الإنسان ويفعله من معاص قد شاءه الله، فكيف يتّفق هذا ومسؤولية الإنسان عن أفعاله؟

فقلت حينذاك: إن المراد من المشيئة المسندة إلى العبد في الآية هي المشيئة المستلزمة للفعل؛ أي: التي يتبعها الفعل، فما يشاؤه العبد ويفعله، سواء كان من معصية أو طاعة، لا يقع إلاّ أن يشاء الله وقوعه، ويراد من مشيئة الله في الآية: المشيئة الكونية التي هي قائمة على الحكمة العامة في نظام الكون، ولا يراد من المشيئة المسندة إلى العبد المشيئة المطلقة، فقد يشاء العبد شيئاً، ويعدل عن فعله، فذلك الفعل الذي شاءه العبد ولم يفعله لم يشأ الله فعله، ومؤاخذة العبد على فعل المعاصي من جهة إرادتها وكسبها فقط، ومذهب أهل السنّة: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

والأتقياء الفضلاء يتركون المعاصي كبائر وصغائر إذعاناً لله تعالى، لا خوفاً من عقابه فقط، بحيث لو أمنوا من عقابها، لم يعصوا الله، وهذا معنى الأثر الوارد من قولهم: نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله، لم يعصه.

وقد قضيت في عاصمة الجزائر مدّة طويلة في إحدى الليالي مع أحد علماء الجزائر، وهو الشيخ الحفناوي بن عروس، وهو صاحب تأليف: “تعريف الخلف برجال السلف” في أسلوب هذا الأثر الذي رواه السعد التفتازاني في شرحه المطول عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، وقد رأيت بعض المحدثين ذكر أنه بحث عن هذا الأثر بحثاً شديداً، فلم يقف له على ما دلّ على أنه مرفوع أو موقوف.

وفي “الحلية” لأبي نعيم من طريق عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن سالماً لشديد الحب لله، لو لم يحب الله، ما عصاه».

فعلى المؤمنين أن يتبعوا حدود الله، ويلتزموا ما بيّنه الرسول الكريم، وأن يجنبوا أنفسهم الكبائر، ولا يستهينوا بمقارفة الصغائر؛ فإن الإصرار يجعلها كبائر.

 

المصدر: دراسات في الشريعة الإسلامية

محمد الخضر حسين

ولد محمد الخضر حسين في مدينة نفطة بتونس في 26 رجب سنة 1293هـ/ 16 أغسطس 1876م، تولى مشيخة الأزهر من 1952 - 1954، توفي في 13 رجب 1377 هـ /28 فبراير 1958م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى