‌‌كلمة في المُسكِرات – الشّيخ محمّد الخضر حسين

 

يُفضَّل الإنسان على سائر الحيوان بمزيّة العقل، وتفاضل النّاس في مراقي الكمال على قدر تفاوتهم في هذه المزيّة، وكلّ شيء يضعف القوّة العاقلة، أو يعوقها عمّا خُلقت له من تدبّر الآيات، واستكشاف الحقائق، فهو عدوّ الإنسانية، تجب مدافعته بقدر المستطاع، وتجنّبه اللّيل والنّهار.

فالنّوم يعطِّل هذه القوّة، ويلحق الإنسان بالخشب المسندة، وهو أمرٌ غالبٌ ما له من مردّ، ولكن أولي الحكمة لا يخضعون لسلطانه إلّا حيث يغلب على أمرهم، ولا يعطونه من الوقت إلّا أقلّ ما تفرضه عليهم البشريّة، يبتغون بذلك أن تبقى عقولهم في حركات تثمر علماً نافعاً، أو عملاً صالحاً.

إذا ما مضى يَوْمٌ ولَمْ أصْطَنِعْ يَداً … ولَمْ أَكْتَسِبْ عِلْماً فما ذاكَ مِنْ عُمْري

وإذا كان من حزم الرجل وحكمته أن يغالب النّوم، ولا يأخذ منه إلّا بمقدار الحاجة؛ حرصاً على وقته، وتوفيراً لثمرات فكره، فإنّ الخمر يأتي إلى تلك القوّة التي هي أكبر مزيّة للإنسان، فيعبث بها عبث الريح العاصفة بالغصون الناعمة، ولا تسأل عمّا ينشأ عن هذا العبث من فساد.

للفساد الذي ينشأ من تناول المسكرات ضروب متفرّقة، وألوان مختلفة؛ لا يسع المقام تفصيلها، فأكتفي بوصف جانب منها، وفيه كفاية لمن يبغي حياة طيّبة في الدّنيا، وسعادة وحياة خالصة في الأخرى.

تذهب المسكرات بعقل من يتناولها، ولو أنّه يبقى كالجّماد لا ينطق ولا يتحرّك، لكان البلاء مقصوراً عليه، ولكن السّفاهة تخلف التعقّل، والحماقة تظهر في مكان الكياسة، فلا تسمع إلّا أقوالاً لاغية أو منكرة، ولا ترى إلّا حركات مزرية به، أو مسيئة إلى من يقرب منه.

قيل لعدي بن حاتم: ما لك لا تشرب الخمر؟ قال: معاذ الله أن أصبح حليم قومي، وأمسي سفيههم!.

تجيء السفاهة في القول من جهة أنّ الخمر تعطّل القوّة العاقلة، وتترك الخيال يلقي على الألسنة ما شاء، وشأن الخيال الذي لا يعمل تحت سلطان العقل أن يصوّر المعاني في غير انتظام، ويمليها على اللّسان كما صوّرها، فإذا هي أقوال تلبس صاحبها ثوب المهانة، أو تضعه موضع من يسخر به، أو يثير عليه غضباً.

دعا بعض الأمراء نُصيب بن رباح إلى تناول الخمر، فقال نصيب: أصلح الله الأمير! الشعر مفلفل، واللون مرمد، ولم أقعد إليه بكرم عنصر، ولا بحسن منظر، وإنّما هو عقلي ولساني، فإن رأيت أن لا تفرق بينهما، فافعل!.

ويكفي متعاطي الخمور من الحقارة، أن يضرب به المثل عندما يتكلم أحد بما يشبه الهذيان.

وتجيء السفاهة في الحركات، من جهة أن الخمر تعزل العقل إلى جانب وتبقي النفوس تحت تصرّف الخيال، فتنبعث إرادتها عن غير تعقّل، وتصدر أفعالها في غير حكمة.

ومن المعروف في المسكر: أنه يحسِّنُ القبيح، ويقبِّح الحسن، قال أحد الشعراء المبتلين به:

إسْقِني حتّى ترَاني … حَسَناً عندي القَبِيح

فقولوا لمتعاطي المسكرات، إذا طمع من النّاس أن يلاقوه باحترام: إنّ من يعلم أن تلك حالات تخرج بها عن الإنسانية إلى حيوانية تصير بها هزأة، أو حيوانية تنفث سمّها في غير عدوّ، لا تراك عينه إلّا ازدرتك، ولا خطرتَ على قلبه إلا احتقرَك.

ومن مفاسد المسكرات: أنها تندفع بالشّهوات إلى الفسوق، وهل في إمكانك أن تجد مولعاً بالخمور يحفظ فرجه عن موبقة الزنا، أو ما يشبه الزنا؟.

سقى قوم أعرابية شراباً مسكراً، فقالت: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا: نعم، قالت: فما يدري أحدكم من أبوه.

وقد عرفتَ أنّ السكران يقول ما يثير غضب نديمه، أو من يلقاه في طريقه، وأنت تعلم ما وراء ثورة الغضب من سوء، وعرفتَ أن السكران قد ينقلب إلى حيوانية متحفّزة للشّر، فلا يبالي أن يبسط يده للاعتداء على الأنفس، فيصيب ضعيفاً، أو يصيبه قويّ، وكم من مشاجرات تعالت فيها أصوات، وأُصيبت فيها جسوم، وما هي إلّا أثر من آثار تعاطي المسكرات!.

ولا تزال المسكرات تنقص من عقل المولع بها شيئاً فشيئاً، حتى يقع في خبال، أو ما يقرب من الخبال، ودلّت التجارب على أن متعاطي المسكرات يكون ضعيف الفكر، خفيف العقل، ولا يصل – ولو بعد صحوه – إلى ما يصل إليه أقرانه الأذكياء؛ من آراء سامية، ونتائج صادقة.

قيل لعثمان بن عفان – رضي الله عنه -: ما منعك أن تشرب الخمر في الجاهلية، ولا حرج عليك؟ قال: رأيتها تذهب بالعقل جملة، وما رأيت شيئاً يذهب جملة ويعود جملة.

ولا يليق بك أن تّتخذ ممن يتعاطون المسكرات أصحاباً أو أعواناً تفضي إليهم بشيء من أسرار عملك؛ فإنّ الأسرار المودعة في النفوس إنّما تحرسها العقول، وعقول المولعين بالمسكرات تفارقهم في كثير من الأحيان، فلا تلبث تلك الأسرار أن تخرج من أفواههم وهم لا يشعرون.

وفي المسكرات – فوق هذه المفاسد -: إنفاق المال في غير فائدة، بل إنفاقه فيما يعود بخسران.

وفيها: صرف القلوب عن القيام بكثير من حقائق الخالق – جلّ شأنه -، ولا يجتمع الولوع باحتساء أمِّ الخبائث، وتعظيم أمر الله في نفس واحدة.

 

مجلة “الهداية الإسلامية”

مقالات مقترحة