الفن القصصي في القرآن[efn_note]مجلة “الهداية الإسلامة” – الجزءان السابع والثامن من المجلد العشرين الصادران في محرم وصفر عام 1367 هـ – والجزءان الأول والثاني من المجلد الحادي والعشرين الصادران في رجب وشعبان عام 1367 هـ. وهو نقد كتاب “الفن القصصي في القرآن” للدكتور محمد أحمد خلف الله.[/efn_note]
فضيلة الإمام محمد الخضر حسين
قدم أحد طلاب الجامعة المصرية رسالة موضوعها: “الفن القصصي في القرآن”؛ لينال بها لقب: “دكتور”، وقد تناولت الصحف الحديث عن هذه الرسالة، ودارت مناقشات حادة، هذا يعدها من قبيل الإلحاد في آيات الله، وذاك يقف بجانبها، ويناضل عنها مناضلة الراضي عن آرائها، ووقف بعض الشبان بين هؤلاء يتعرفون وجه الحق فيما يتناظر فيه الفريقان؛ وكنا ننتظر أن تقع الرسالة في أيدينا؛ لنلقي عليها نظرة فاحصة، حتى اطلعنا في “مجلة الرسالة” على نص التقرير الذي بعث به إلى عميد كلية الآداب أحد أعضاء اللجنة التي ألفت لفحص الرسالة، وهو الأستاذ أحمد أمين، ثم اطلعنا في “جريدة أخبار اليوم” على مقال لأستاذ من أعضاء هذه اللجنة أيضا يعلن فيه: أنه راض عما تضمنته الرسالة، وأنه هو الواضع للمنهج الذي تقدم عليه كاتب الرسالة لدرس القرآن، ثم اطلعنا في “مجلة الرسالة” على مقال لكاتب الرسالة ساق فيه نصوصا لبعض المفسرين والأصوليين، وأخرى للشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا؛ بدعوى أن هذه النصوص تشد عضده، وتجعل ما كتبه حقيقة معترفا بها من قبل.
ولما تجمع لدي تقرير الأستاذ أحمد أمين، وما كتبه الأستاذ الراضي عما كتب في الرسالة، بل الموجه لصاحبها إلى ما وضع، ثم ما نشره كاتب الرسالة نفسه من بعد، رأيت أن أكتب كلمة على حسب ما اطلعت عليه في الصحف، وفيما اطلعت عليه الكفاية.
صدر الأستاذ أحمد أمين تقريره بالعبارة الآتية:
“وقد وجدتها رسالة ليست عادية، بل هي رسالة خطيرة، أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ، والواقع أن محمدا فنان بهذا المعنى”.
ثم قال: “وعلى هذا الأساس كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها، وإني أرى من الواجب أن أسوق بعض أمثلة توضح مرامي كاتب هذه الرسالة، وكيفية بنائها”.
ثم أورد الأستاذ أحمد أمين أمثلة منتزعة من الرسالة تشهد بما وصفها به في هذه العبارة المجملة.
جاء في التقرير ما يأتي:
“يرى – يعني: كاتب الرسالة – أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويرا فنيا؛ بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد؛ مثل: أن البشرى بالغلام كانت لإبراهيم، أو لامرأته، بل تكون القصة مخلوقة: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس} [المائدة: 116] … إلخ، ص 14 وما بعدها”.
ما يرد في القرآن على وجه الإخبار لا يكون إلا موافقا للواقع، هذا ما يقتضيه الإيمان بأنه تنزيل من عليم حكيم، ولو أجزنا أن يكون فيه أقوال غير مطابقة للواقع، لكان معنى ذلك: أن من أقواله ما يكون كذبا، وليس الكذب سوى عدم مطابقة الكلام للواقع. وإذا كان الفضلاء من الناس يتبرؤون من أن يقولوا زورا، ويعدونه في أقبح الرذائل المزرية بالإنسانية، فما كان لنا أن نلصقه بكلام ذي العزة والجلال، ناظرين إلى مقام الربوبية كما ننظر إلى شاعر أو كاتب قد يعجز عن أن يظهر براعته الفنية في الحوادث الواقعة تاريخيا.
يصف كاتب الرسالة الكتاب الحكيم بالتناقض في رواية الخبر الواحد، مستدلا بذلك على أنه لا يلتزم الصدق التاريخي، ويقول: “بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد؛ مثل: أن البشرى بالغلام لإبراهيم، أو لامرأته”.
التناقض في الأخبار: أن يختلف الخبران بالإيجاب والسلب، مع اتحادهما فيما عدا ذلك، ويلزم من صدق أحدهما كذب الآخر؛ كأن تقول: بشرت زيدا بقدوم ابنه، ثم تقول: لم أبشر زيدا بقدوم ابنه، ومثل هذا الضرب من الكلام لم يقع في الآية الكريمة، وإنما ورد: أن الله بشر عن طريق الملائكة إبراهيم – عليه السلام – بغلام؛ كما قال تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101] , {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} [الصافات: 112]، وفي آية أخرى: {إنا نبشرك بغلام عليم} [الحجر: 53]، وورد في آية أخرى: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} [هود: 71]. ومن المعقول أن يبشر الملائكة إبراهيم – عليه السلام -, ثم يبشروا امرأته بغلام هو إسحاق، فيذكر في آية: أنهم بشروا به إبراهيم، ويذكر في آية أخرى: أنهم بشروا به امرأته، ومن ذا الذي يتوهم أن في مثل هاتين البشارتين شيئا من التناقض، أو ما يشبه التناقض؟!
يزعم كاتب الرسالة أن القرآن يختلق بعض القصص، فقال: “بل تكون القصة مخلوقة: {وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت} [المائدة: 116] … إلخ”
ولا ندري ما هو الدليل الذي ينهض أمام هذه الآية، ويدل على أن القصة المشار إليها مخلوقة غير واقعة، والأدلة في مثل هذا إما نصوص تاريخية ثابتة الرواية، وإما أن يشعر المتكلم مخاطبه بأنه يريد تصويرا فنيا، وإما أن يبدو للمخاطب من طبيعة الحادثة ما يجعلها مستحيلة الوقوع، ولم يرد نص تاريخي ينفي ما اشتملت عليه القصة من خطاب الله تعالى لعيسى وجواب عيسى- عليه السلام -، ولم يقل الله تعالى – لا صراحة ولا تلويحا -: إن هذه القصة مخلوقة غير واقعة، وإنما أريد تصوير حادثة تصويرا فنيا، وليس في القصة معنى يحكم العقل المنطقي باستحالته.
وقال كاتب الرسالة – على ما جاء في التقرير -: “إن الإجابة عن الأسئلة التي كان يوجهها المشركون للنبي ليست تاريخية، ولا واقعة، وإنما هي تصوير نفسي عن أحداث مضت، أو أغرقت في القدم، سواء كان ذلك الواقع متفقا مع الحق والواقع، أم مخالفا له. ص 28”.
نتحدث مع صاحب الرسالة في هذا الموضوع الديني بصفته مسلما، فنقول: قد قام الدليل القاطع على أن القرآن كلام الله، وأن رسوله محمدا – صلى الله عليه وسلم – قد بلغ ما أنزل إليه من ربه، فكل ما جاء في القرآن من خبر فهو صادق، وإنما الصدق مطابقة الكلام للواقع، ونستند في الجزم بصدق أخبار القرآن إلى الدليل القائم على صدق الرسول في دعوى الرسالة، والدليل القائم على أن القرآن وحي من الله -جل شأنه- ولو كان القائل: “إن النبي- عليه الصلاة والسلام – إنما يصور واقعا، في نفسه، سواء كان ذلك الواقع متفقا مع الحق والواقع، أم مخالفا” لا ينتمي إلى الإسلام، لقلنا: نحن معنا أدلة لا تحوم حولها شبهة على أن القرآن لا يقول إلا حقا، فإن أبيت أن تصغي إليها بأذن واعية، فاعمد إلى قصة من قصص القرآن، وأقم على أنها مخالفة للحق دليلا يقره المنطق، ويتقبله العقل.
يقول كاتب الرسالة: “إن المشركين كانوا يوجهون إلى النبي أسئلة، وإن الإجابة عنها ليست تاريخية، ولا واقعة”.
ونحن لا ندري من أين عرف كاتب الرسالة أن إجابة النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أسئلة المشركين لم تكن تاريخية، ولا واقعة! فقد يهمل التاريخ أحداثا، فلا يدل عليها صراحة، ولا رمزا، ولكنه لا يستطيع أن يأتي إلى أحداث أخبر عنها القرآن على وجه خاص، ويحكم عليها بأنها غير واقعة، حكما يدخل إليه من باب الروية والإنصاف.
قال كاتب الرسالة: “والقرآن يقرر أن الجن تعلم بعض الشيء، ثم لما تقدم الزمن، قرر القرآن أنهم لا يعلمون شيئا. ص 29، والمفسرون مخطئون حين يأخذون الأمر مأخذ الجد. ص 30”.
لم يقرر القرآن أن الجن لا يعلمون شيئا وإن قال في قصة وفاة سليمان – عليه السلام -: {ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} [سبأ: 14].
فالآية إنما نفت عن الجن علم الغيب، وهو ما يحصل للعالم ذاته، ومن هنا كان مختصا بالخالق -جل شأنه- قال تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65]، فدلت الآية على أن علم الغيب خاص به تعالى، وأما غيره، فلا يعلم الأشياء الغائبة عنه بذاته، وإنما يعلم منها ما يعلمه الله؛ كما قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 26، 27]. ومن هنا نفهم كيف ينفي النبي – عليه الصلاة والسلام – عن نفسه علم الغيب، مع أن الله قد أظهره على أشياء كثيرة كانت غائبة عنه، فقال: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} [الأعراف: 188]، فنفي علم الغيب عن الجن لا ينافي أنهم يعلمون بعض الأشياء بطريق من طرق العلم الخفية.
فكاتب الرسالة مخطئ في فهمه أن بين الآية التي تثبت للجن العلم ببعض الشيء، والآية التي تنفي منهم علم الغيب، تناقضا.
قال كاتب الرسالة: “الأنبياء أبطال ولدوا في البيئة، وتأدبوا بآدابها، وخالطوا الأهل والعشيرة، وقلدوهم في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة، ودانوا بما تدين به من رأي، وعبدوا ما يعبد من إله. ص 27”.
أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، وممن حكى الإجماع على هذا: الإمام عضد الدين في كتاب “المواقف”، والقاضي عياض في كتاب “الشفاء”.
ولكن كاتب الرسالة يقول: إنهم قلدوا الأهل والعشيرة في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة، وعبدوا ما يعبد من إله.
وإنما يقول هذا، ويخرج عن إجماع المسلمين من استطاع أن يملأ يده من روايات تاريخية صحيحة، أو استطاع أن يقيم دليلا نظريا يسعه المنطق السليم، وليس بيد الكاتب نقل مقبول، ولا دليل معقول، وإنما هي دعوى عارية من كل شاهد، فلندع بسط الحديث عنها حتى نعرف الشبهة التي دفعت الكاتب إليها؛ حتى عبر عنها بجمل يؤكد بعضها بعضا، وأسرف في تسويتهم بالمشركين إلى أن قال لك: “وقلدوهم في كل ما يقال ويفعل”!
قال كاتب الرسالة: “تصوير أخلاق الأمم – كبني إسرائيل – ليس بضروري أن يكون واقعا، بل يصح أن يكون تصويرا فنيا يلاحظ الواقع النفسي أكثر من صدق القضايا … إلخ. ص 75”.
القرآن وحي سماوي، فإذا وصف أخلاق أمم؛ كبني إسرائيل، دل بالضرورة على أن وصفهم بتلك الأخلاق واقعي، ومن ادعى أن القرآن غير صادق فيما وصف، فليأت بآية وصفت بعض الأمم بأخلاق، ودلت الرواية أو الدراية على أن هذا الوصف غير مطابق للواقع.
قال كاتب الرسالة: “القصة هي العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطل لا وجود له، أو لبطل له وجود، ولكن الحوادث التي ألمت به لم تقع أصلا، أو وقعت ولكنها نظمت على أساس فني، إذ قدم بعضها، أو حذف بعضها، وأضيف إلى الباقي بعض آخر، أو بولغ في تصويرها إلى حد يخرج بالشخصية التاريخية عن أن تكون حقيقية إلى ما يجعلها في عداد الأشخاص الخيالية، وهذا قصدنا في هذا البحث من الدراسة القرآنية. ص 81”.
هذا الذي يقوله الكاتب إنما ينطبق على القصص التي يقصد من تصنيفها إظهار البراعة في صناعة الإنشاء، أو في إجالة الخيال، أو بعض الارتياح والمتعة في نفوس القارئين؛ مثل: مقامات بديع الزمان، أو مقامات الحريري، أو القصص التي تنشر اليوم في بعض الصحف السائرة، أما قصص القرآن، فهي من كلام رب العزة، أوحى به إلى الرسول الأكرم؛ ليكون مأخذ عبرة، أو موضع قدوة، أو مجلاة حكمة، وإيمان الناس بأنه صادر من ذلك المقام الأسنى يجعل له في قلوبهم مكانة محفوفة بالإجلال، ويمنعهم من أن يدرسوه كما تدرس تلك القصص الصادرة من نفوس بشرية تجعل أمامها أهدافا خاصة، ثم لا تبالي أن تستمد ما تقوله من خيال غير صادق، أو تخرج من جد إلى هزل، وتضع بجانب الحق باطلا.
قال كاتب الرسالة: “أخطأ الأقدمون في عد القصص تأريخا. ص 83”.
لم يخطئ المتقدمون ولا المتأخرون في عد القصص تأريخا، بل هم على بينة من أمرهم إذ يعدون القرآن أصح مصدر لما يقص من شؤون الأمم الغابرة، والأمم التي كانت تعيش وقت نزوله؛ ذلك أن الدليل القائم على أن القرآن وحي إلهي هو الدليل الذي يشهد بأن قصصه تاريخ حق لازم للإيمان بأنه وحي سماوي، ومن يزعم أنه يوجد هذا الإيمان بدون ذلك الاعتقاد، فهو كمن يزعم أن الشمس طالعة، والنهار غير موجود.
قال كاتب الرسالة: “منهجه – أي: القرآن – هو معالجة القصة من حيث هو أدب، ويعني بذلك خلق الصور والابتكار والاختراع (ص 84) ولذلك لا مانع من اختلاف تصور الشخصية الواحدة في القرآن. ص 85”.
لم يعالج القرآن القصة من حيث هي أدب، وإنما يوردها من حيث إنه مطلع حكمه، ومأخذ عبرة، وحيث كان لبلاغة القول – بعد حكمة المعنى وقوة الحجة – أثر زائد في توجيه النفوس إلى الصراط السوي، أنزل الله القرآن كله في أفصح الألفاظ، وأبدع الأساليب، حتى بلغ بحسن بيانه أنه كان المعجزة الخالدة.
وأشار الأستاذ أحمد أمين في تقريره إلى أن كاتب الرسالة يسمي القصة في القرآن: أسطورة، فقال عازيا إلى تلك الرسالة: “وجود القصة الأسطورية في القرآن. ص 89″، ثم اطلعنا على مقال لكاتب الرسالة نشره في “مجلة الرسالة” يقول فيه: “وأرجو أن لا يزعجنا هذا اللفظ (أسطورة)، ونقع في أخطاء وقع فيها غيرنا حين ظن أن معنى الأسطورة: الكذب والمين، أو الخرافات والأوهام، فذلك ما لم يقصد إليه القرآن الكريم، وقال: “ليست الأسطورة في حس القرآن الكريم إلا ما سطره الأقدمون من أخبارهم وأقاصيصهم، بذلك تنطق آياته، وإلى ذلك فطن المفسرون” ثم نقل عن الطبري تفسيره للأسطورة بما: “سطره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم”. ونقل عن “الكشاف” أنه فسرها: “بما سطره المتقدمون من نحو الحديث عن رستم، واسفنديار”.
ثم نقل عن “المنار” للشيخ رشيد رضا: أنه فسر الأساطير في قوله تعالى: {إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام: ٢٥]: بقصص الأولين وأحاديثهم التي سطرت في الكتب على علاتها، وما هي بوحي من الله”.
من المفسرين من يفسر الأسطورة بما سطره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم، وهذا لا ينافي ما قاله آخرون من أنها الأباطيل والخرافات، قال صاحب “الكشاف” عند تفسير قوله تعالى: {إن هذا إلا أساطير الأولين}: “فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث خرافات وأكاذيب، وهو الغاية من التكذيب”. قال الألوسي في تفسير {أساطير الأولين} من هذه الآية: “أي: أحاديثهم المسطورة التي لا يعول عليها”. ونقل عن قتادة: أنه قال في تفسيرها: “كذبهم وأباطيلهم”.
وإذا رجعنا إلى كتب اللغة نجد صاحب “المصباح” يقول: “والأساطير: الأباطيل”. وصاحب “لسان العرب” يقول: “الأساطير: الأباطيل”، ويقول أيضا كما قال صاحب “القاموس”: “والأساطير: أحاديث لا نظام لها”، وفي “اللسان” أيضا: “يقال: سطر فلان علينا: إذا أتى بأحاديث تشبه الباطل”.
وهذه النصوص وحدها كافية لأن تمنع كاتب الرسالة من أن يسمي القصة في القرآن: أسطورة.
قال كاتب الرسالة: “ولعل قصة موسى في الكهف لم تعتمد على أصل من واقع الحياة (89)، بل ابتدعت على غير أساس من التاريخ”.
وضع الكاتب أمامه قصص القرآن، وأخذ يصدر فيها أحكاما تمليها عليه محاكاته لقوم يجحدون، فعمد إلى قصة موسى في سورة الكهف، ونفى عنها أن تكون قد اعتمدت على أصل من واقع الحياة، ووصفها بأنها ابتدعت على غير أساس من التاريخ، مظهرا عدم الجزم بذلك، إذ صدر حكمه بحرف: “لعل”، فقال: “لعل قصة موسى … إلخ”.
والذي يتصدى لأن يحكم على قصة نبي في القرآن بأنها لم تعتمد على أصل من واقع الحياة، شأنه أن يعرف تاريخ ذلك النبي من طريق غير القرآن، ويملأ يده من روايات بالغة في الصحة درجة تكسبه الجزم بأن ما حكاه القرآن غير واقع، فله أن يقول حينئذ: إن هذه القصة مبتدعة على غير أساس من التاريخ، فهل دخل الكاتب إلى هذا الحكم المصدر بـ “لعل” من طريق هو أرجح دلالة على الواقع من نصوص القرآن المجيد؟! قال كاتب الرسالة: “والقرآن عمد إلى بعض التاريخ الشعبي للعرب، وأبطال أهل الكتاب، ونشره نشرا يدعم غرضه (ص 93)؛ كقصة ذي القرنين”.
إذا قص القرآن حوادث كان حديثها يدور بين العرب، أو أهل الكتاب، فإنما يقصها لقصد يعود على دعوته الشاملة بتأكيد، وهو – بعد هذا – لا يقص من تلك الحوادث إلا الواقع، وليس من المعقول أن يجاري القرآن العرب أو أهل الكتاب فيما يتسامرون به في مجالسهم، فيعرض منها ما ليس بواقع، وهو تنزيل من علام الغيوب.
أما قصة ذي القرنين، فقد ذكر القرآن أن الكفار وجهوا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – سؤالا عن ذي القرنين، فقال تعالى: {ويسألونك عن ذي القرنين} [الكهف: 83]، ولا يخطر على بال أحد فهم مساق القصة، وعرف ما يقصده أولئك المتعنتون من أسئلتهم، أن يكون قصدهم من هذا السؤال أن تصور لهم قصة ذي القرنين في صورة فنية، وإن كانت غير مطابقة للواقع التاريخي، فيكون غرضهم إذا اختبار حال المسؤول من جهة حسن البيان، وذلك ما لا يحتمله لفظ الآية، ولا يساعد عليه مساقها.
نزل الوحي بالجواب عن هذا السؤال، قال تعالى: {قل سأتلو عليكم منه ذكرا (83) إنا مكنا له في الأرض} [الكهف: 83، 84] … إلخ القصة، وقد اختلف الكاتبون في: من هو ذو القرنين الذي تحدث عنه القرآن في هذه القصة؟ وأخذوا يتحدثون عن الإسكندر الرومي، والإسكندر اليوناني، وغيره. ونحن نطرح كل حديث عن شخص لا ينطبق عليه ما وصف به القرآن ذا القرنين، ونقطع ببطلان أن يكون ذلك الشخص هو المسمى في هذه القصة: ذا القرنين، ونقول: إن القصة الواردة في القرآن موافقة للواقع التاريخي ما دام المؤرخون لا يستطيعون أن يقيموا دليلا مقبولا على أنه لم يوجد في العصور الخالية شخص صدرت منه الأعمال التي نسبت في القصة إلى ذي القرنين، وإذا لم يذكر القرآن العصر الذي ظهر فيه ذو القرنين، ولا البلد الذي نشأ فيه، ولا الشعب الذي ينتسب إليه، كان من المتعذر على المؤرخ أن ينكر صدق قصته إنكارا يقيم له العارفون بآداب البحث وزنا.
قال كاتب الرسالة: “عناصر القصة هي العناصر الفنية والأدبية التي اتخذ منها الفنان مادته التركيبية، والتي أعمل فيها خياله، وسلط عليها عقله، ونالها بالتغيير والتبديل، حتى أصبحت وكأنها مادة جديدة بما بث فيها من روحه، وكذلك القصص في القرآن، والبحث عن المصادر في القصص القرآني على هذا الأساس”.
عرف الكاتب – قبل هذا – القصة بأنها: العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطل لا وجود له، أو بطل له وجود، ولكن الحوادث التي ألمت به لم تقع أصلا … إلخ ما نقلناه من كلامه – فيما سلف – وعرف عناصر القصة هنا بأنها: العناصر الفنية والأدبية … إلخ.
وما قاله الكاتب في تعريف القصة يصح أن يقال في قصة يؤلفها فنان يريد من تأليفها إظهار براعته البيانية، ولا يبالي في تخيله أن تكون الحوادث التي أعمل فيها خياله، وسلط عليها عقله، وقعت من بطل لا وجود له، أو من بطل له وجود، ولكن الحوادث التي ألمت به لم تقع أصلا. ولا يليق بباحث مطمئن إلى أن القرآن وحي سماوي أن يقول بعد أن عرف القصة وعناصرها بما عرفهما به: “وكذلك القصص في القرآن”.
ويقول كاتب الرسالة: “والبحث عن المصادر في القصص القرآني على هذا الأساس”. أشار الكاتب إلى أن للقرآن مصادر، وهذا ما يقوله المخالفون الذين يقولون: إن القرآن من تأليف محمد، ويزعمون أن هناك مصادر استمد منها النبي محمد ما جاء به من شريعة الإسلام، ومن مصنفاتهم كتاب يسمونه: “مصادر الإسلام”. والمسلمون على يقين من أن للقرآن مصدرا واحدا هو الله الذي يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
قال كاتب الرسالة: “يجب أن لا يزعجنا؛ لأنه الواقع العلمي في حياة كل الفنون والآداب (118)، وطبق هذا المبدأ تطبيقا واسعا”.
لا يزعجنا أن يسوق بعض الكاتبين قصص القرآن الكريم مساق القصص التي يعمل فيها الفنان خياله، ويسلط عليها عقله، مادام الدليل الذي قام على أن القرآن كلام الله لا يزال قائما نصب أعيننا؛ ذلك أن القرآن دعوة مقرونة بحجة تشهد للدعوة بأنها صادرة من حضرة ذي الجلال، لا أنها من صنع بشر فنان، قد يغطي بزخرف قوله ما تنطوي عليه عباراته من معان لا تطابق الواقع التاريخي.
قال كاتب الرسالة: “وما تمسك به الباحثون من المستشرقين ليس سببه جهل محمد بالتاريخ، بل قد يكون من عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي، ولا الحرص على الصدق العقلي، وإنما يتتج عمله، ويبرز صوره بما ملك من الموهبة الفنية، والقدرة على الابتكار والاختراع، والتغيير والتبديل. ص 136”.
ادعى المستشرقون أن في القرآن قصصا غير موافق للواقع التاريخي، وكذلك زعم كاتب الرسالة: أن القصص في القرآن لوحظ فيه التصوير الفني دون الواقع التاريخي، والصدق العقلي، فكاتب الرسالة يوافق المستشرقين في أن بين قصص القرآن ما لا يوافق الواقع التاريخي، غير أن المستشرقين يعللون هذه المخالفة بعدم معرفة محمد للتاريخ، وكاتب الرسالة يعللها بأنه – عليه الصلاة والسلام – يسوق القصة غير معني بالواقع التاريخي، ولا حريص على صدقها العقلي، وإنما كانت وجهته التصوير الفني، والابتكار والاختراع، والتغيير والتبديل!
وانظر ماذا ترى في قوله: “ليس سببه جهل محمد بالتاريخ، بل قد يكون من عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي”، فهل كاتب الرسالة أطلق اسم الفنان على محمد – صلوات الله عليه – فيكون قد حاكى المستشرقين في زعمهم: أن القرآن من صنع النبي محمد، أو أطلقه – بصفته مسلما – على منزل القرآن، ووصفه بأنه لا يعنيه الواقع التاريخي، ولا الصدق العقلي؟
وفي كلا الأمرين زهد في الاحتفاظ بالعقيدة السليمة!
والمسلم الحق من يؤمن بأن القرآن منزل من عند الله، لا من صنع محمد- عليه الصلاة والسلام -, وينزه القرآن عن ذلك التصوير الفني الذي لا يعنى فيه بالواقع التاريخي، وليس قصص القرآن إلا الحقائق التاريخية تصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاة، والأساليب الرائعة.
قال كاتب الرسالة: “تتدرج القصص في القرآن كما يتدرج أدب كل أديب، فالأدباء يلتمسون المتعة واللذة في كل أمر فني يعرض لهم، ثم يتقدمون خطوة، فيبغون الاستمتاع واللذة بالمحاولات الأولى التي تقوم على التقليد والمحاكاة، ثم يكون التخلف شيئا فشيئا، والدخول في ميدان التجارب الخاصة، ومظاهر ذلك: النسخ، والتدرج بالتشريع 169 إلخ”.
جعل الكاتب القصص القرآني يتدرج كما يتدرج أدب كل أديب، وقال: إن الأدباء يلتمسون المتعة واللذة في كل أمر فني يعرض لهم. والواقع أن القرآن لم ينزل ليجاري الأدباء في أدبهم، ويذهب في المبالغات مذهبهم، ويستخف بحرمة بعض الحقائق استخفافهم، وإنما نزل القرآن ليهدي الأدباء وغير الأدباء إلى ما يلائم الفطر السليمة من عقائد وآداب وأعمال، فوجهته الدعوة إلى الإصلاح الشامل، وليست هذه الدعوة الإصلاحية وليدة الدخول في ميدان التجارب الخاصة، ولا النسخ والتدرج بالتشريع من مظاهر الدخول في تجارب، بل الدعوة هداية من خالق التجارب والمجربين، والنسخ والتدرج بالتشريع من مظاهر علمه القديم، كما هو مفصل في أصول الشريعة.