حقوق الزّوجيّة [1]
فضيلة الإمام محمد الخضر حسين
قرر الشارع للزوجين حقوقاً تحصل بها الغاية من النكاح، وهي: تنمية النسل، وحسن المعاشرة، ودوامها، والتعاون على مرافق الحياة، وجاءت هذه الحقوق بعبارة عامة في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].
ومعنى الآية: أن للنساء حقوقاً على الرجال مثل ما للرجال على النساء من حقوق، والمماثلة بين حقوقهما في الوجوب، لا في جنس الحق؛ إذ يجب على أحد الزوجين من جنس الحق ما لا يجب على الآخر، والدرجة ثبتت للرجل من جهة رعايته للمرأة بالولاية، والإنفاق عليها.
وقد ذكرت هذه الحقوق مفصلة في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والقواعد المأخوذة منهما، وليس في وسع هذا المقام ذكر هذه الحقوق مفصلة، ولكنا نذكر منها ما يسعه المقال، ويقتضيه الحال.
فمن حقوق المرأة: المهر، وهو المال الذي تطلبه الزوجة من الزوج، ويتفقان عليه، ولا يجوز للزوج أن ينقص منه شيئاً.
وقد جعل الشرع لأقلّه حداً، وهو ربع دينار، ولم يحدد أكثرها، وقصة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حين أراد أن يمنع من التغالي في المهور، والعجوز التي اعترضت عليه بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، ورجوع عمر إلى قولها مشهورة.
ومن حقوق الزوجة: إنفاق الزوج عليها معاشاً وملبساً ومسكناً، ويزداد حسن المعاشرة بمداواتها إذا مرضت، واحتاجت إلى ذلك، فيعطي أجر الطبيب، وثمن الدواء.
ومن الواجب على الزوج: أن يعين لها خادماً إن اعتادت ذلك في بيت أبيها.
ومن حقوق الزوجة: مراجعة الزوج فيما تراه قد حاد فيه على الصواب، ومن الرجال من لا يقبل من زوجته أن تراجعه، ولو بالحق، وفي الصحيح: أن عمر بن الخطاب قال: صخبت على امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر علي أن أراجعك؟ فوالله! إن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – ليراجعنه.
ومن حقوق الزوجة: أن تذهب إلى المسجد لتؤدي العبادة مع الجماعة؛ فقد كان النساء يصلين في آخر المسجد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ويعدن إلى بيوتهن.
ومن حقوق الزوجة: أن تأخذ من مال زوجها – من غير إذنه – حاجتها وحاجة أولادها إن كان مقتراً.
ودليله قصة هند بنت عتبة؛ فقد سألت النبي – صلى الله عليه وسلم -: هل يحل لها أن تأخذ من مال أبي سفيان من غير علمه ما تنفقه على نفسها وعلى أولادها؛ لأنه رجل شحيح؟ فأجاز ذلك لها الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
وليس من حقها أن تلي وظيفة عامة؛ كالقضاء ونحوه؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”.
وما نقل عن أبي حنيفة من إجازته ولايتها القضاء فيما تقبل شهادتها فيه، قد حمله الحافظ أبو بكر بن العربي على أنها تحكم في جزئية تنتدب لها؛ لخبرة خاصة بها، وليس المقصود أن تولّى وظيفة القضاء.
ومن حقوق الزوجة: ألا يدخل عليها الزوج من سفر إلا بعد أن تسمع بقدومه.
وورد في هذا حديثان صحيحان:
أحدهما: يقتضي أنه لا يدخل عليها فجاة؛ لئلا يعد ذلك تخوناً لها.
قال جابر بن عبد الله: إنه – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا يطرق الرجل أهله ليلاً مخافة أن يتخونهن، أو يلتمس عثرتهن”.
وثانيهما: عن جابر أيضاً، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أنه قال عند رجوعه من غزوة: “أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً؛ لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة”.
وهذا الحديث يقتضي عدم مفاجأتها بالقدوم؛ لئلا يجدها غير مرضية، فيحصل التنافر. هذا إذا أمكنه أن تعلم قدومه قبل الدخول عليها.
ومن حقوق الزوجة: أن تتصرف في مالها كما تشاء، وليس للزوج حق في. التصرف فيه قليلاً أو كثيراً إلا بإذنها.
ومن حقوق الزوجة على الزوج – إذا أضرّ بها ضرراً بيناً -: أن تطلّق نفسها منه، ولا تتوقف على طلاقه؛ كان يضربها ضربا مبرحاً؛ فإنه تزوجها لأن يعاشرها بالمعروف، وضربها ضرباً مبرحاً يخل بمعاشرتها بالمعروف.
أما حقوق الزوج: فمن حقه: أن تكون عصمة الزوجة بيده، فيمسكها بالمعروف، أو يسرحها بإحسان. وقد أمره الشارع بمعاشرتها بالمعروف، فقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
وقال – عليه الصلاة والسلام – كما في الصحيح: “واستوصوا بالنساء خيراً”.
وأمر الشارع بالصبر عليها إذا كرهها، فقال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]
والخير الكثير هو: الولد الصالح، أو تغير الكراهة إلى ألفة ومحبة.
وسمعت شيخنا أبا حاجب يقول: قد أكد الله المودة والرحمة بين الزوجين بنسبتهما إلى جعله – سبحانه وتعالى – في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
فالرابطة بين الزوج وزوجته أقوى من الرابطة التي تكون طبيعية؛ كالبنوة، يقول الشاعر:
أحبُّ الصبي النذلَ من أجل أُمِّه … وأكرهه من أجلها وهو كَيِّسُ
ومن حقوق الرجل: أن ينظر إلى وجه المخطوبة وكفيها قبل العقد، حتى يطمئن إلى صحتها وقبول ذاتها، والنبي – صلى الله عليه وسلم – إنما أذن بالنظر إلى ذلك، ولم يأذن في جَسِّ بدنها، أو الخلوة بها.
ومن حقوق الزوج: نقل الزوجة إلى البلد الذي يريد أن يسكنه، واشترط عليها ذلك؛ بشرط أن يثبت قبل الانتقال أنه محسن لها، وأن تكون الطريق مأمونة، وأن يكون بالبلد الذي ينتقل إليه قضاء عادل.
ومن حق الزوج: أن يبتغي الثقافة في زوجته؛ لأن الثقافة تعينها على تدبير المنزل، وتربية الولد تربية صحيحة، وللمرأة أن تتعلم ما تشاء من العلوم بالطريقة التي تلائم كمالها، ومما صدر من الخواطر: أن الرجل والمرأة كالبيت من الشعر، ولا يحسن في البيت من الشعر أن يكون شطره محكماً، والشطر الآخر متخاذلاً.
ونجد في التاريخ الإسلامي منذ عهد الصحابة – رضي الله عنهم – فما بعده مسلمات فاضلات، شاركن الرجال فيما يبرعون فيه من حديث وفقه وعلوم وآداب، يعرف هذا من اطلع على تراجمهن، أو اطلع على تراجم الرجال الذين أخذوا عنهن.
ومن هؤلاء النساء اللاتي برعن بعلوم الدين زوجةُ أحد القضاة بالأندلس، فقد حكي أنها فاقت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل، فكان القاضي في مجلس قضائه تنزل له النوازل، فيقوم إليها، فتشير عليه بالحكم، وهما اللذان عناهما الشاعر بقوله:
فياليته لم يكن قاضياً … وياليتها كانت القاضيا
ومن حقوق الزوج: إجابة الزوجة له في الأمر الذي يكون له حق واضح، وتدعوه إليه الحاجة، فإن لم تجب لذلك، هجرها في المضجع، فإن لم تجب، ضربها ضرباً خفيفاً. قال تعالى. {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34].
وإذا ذكر في دعوة وجه استحقاقه للإجابة، ولم تجب، فله هجرها. ويكفيه في هجرها التفاته عنها، فإن لم تجب بعد الهجر، دار الأمر بين طلاقها، أو ضربها الضرب الخفيف. فالضرب الخفيف من قبيل ارتكاب أخف الضررين.
فالشارع نهى عن الطلاق، ولاسيما إذا كان بين الزوجين أُلف. وابن عباس – رضي الله عنهما – يمثل الضرب الخفيف بعود السواك. ولم يرد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ضرب إحدى زوجاته قط.
وقصارى ما فعل: أنه يهجرهن حيث وقع منهن مثل ما نزل فيه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1].
وبعد أن أعطى الشارع لكل من الزوجين حقوقه، فإن ادعى أحدهما أن الآخر لم يف بحقوقه، خاطب الحكام بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .
ومعناه: أن ابعثوا رجلاً من أهل الدين والمعرفة من أهل الزوج، ورجلاً من أهل الزوجة كذلك، وينظران في شأنهما. وتسمية القرآن لهما بالحكمين دليل على أنه ينفذ ما يريانه في الزوجين كما يراه الحاكم.
فالشارع قرر لكل من الزوجين المسلمين حقوقاً، إن رضي بها، ورعاها كل منهما لصاحبه، عاشا في اطمئنان وارتياح عيشة راضية.
[1] مجلة “لواء الاسلام” – العدد الرابع من السنة الحادية عشرة.