‌‌‌صلاة ‌الجماعة ‌وأثرها في اتّحاد الأمّة [1]

فضيلة الإمام محمد الخضر حسين

 

شرعت الصلاة لعقد الصلة بين الخالق تعالى والمخلوق، وهذا المعنى ظاهر من القراءة والركوع والسجود والتشهد، وما تشتمل عليه هذه الأعمال من الذكر والدعاء.

وروعي في صلاة الجماعة وبناء المساجد مصلحة اجتماعية، وهي اطلاع أهل الحي وأهل القرية على أحوال بعضهم، فيتعاونون على ما يسد حاجتهم ولرفع شأنهم.

ولعظم فائدتها وتأكيد الأحاديث الواردة في شأنها، ذهب بعض الأئمة إلى أنها فرض عين على كل مكلف لا عذر له في تركها.

وقال علماء آخرون: هي فرض كفاية لابد أن يقوم بها طائفة من المصلين.

وقرر الشارع لصلاة الجماعة أحكاماً تدل على عنايته بها، وأن له قصداً زائداً على عقد الصلة بين العبد وربه، فأمر ببناء المساجد، وجعلها بيوتاً يؤمها المصلون على اختلاف طبقاتهم من أعلى البشر إلى أدناهم، ويأوي إليها الغرباء الذين لا يجدون أمكنة يأوون إليها، قال – صلى الله عليه وسلم – كما روى في الحديث الصحيح: “من بنى لله مسجداً، بنى الله له مثله في الجنة”.

وشرع الأذان، وهو دعوة إلى الصلاة بكلام مشتمل على عقيدة الإيمان، وهو سنّة، وإذا تركه أهل بلد، قوتلوا عليه، وقد تصبح السنّة بالنسبة للجماعة فرض كفاية حيث تكون شعاراً ظاهراً للإسلام.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأذان أفضل من الإمامة، وأدلته مبسوطة في كتب الفروع.

ومما يدل على رغبة الشارع في صلاة الجماعة: أنه لو صلى أحد منفرداً، ودخل على جماعة يصلون، يستحب له أن يعيد الصلاة معهم.

روى مالك في “الموطأ”: أن محجناً – رضي الله عنه – كان في مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأُذّن للصلاة، فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فصلى، ثم رجع، ومحجن في مجلسه لم يصل معه، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما منعك أن تصلي مع الناس؟ أولست برجل مسلم؟ “، فقال: بلى يا رسول الله، ولكني قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا جئت، فصلِّ مع الناس، وإن كنت قد صليت”.

ويذكر المؤرخون في تراجم العلماء النبلاء: أنهم يواظبون على صلاة الجماعة، ومواظبتهم على صلاة الجماعة في المسجد تدل على أنه لا يغيب عن أذهانهم ما ينتج عنها من خير المعاش والمعاد.

ويدل على عناية الشارع بصلاة الجماعة: أنه أذن لولي الأمر أن يعطي المواظب على إمامة صلاة الجماعة في المسجد جانباً من بيت المال.

قال الشهاب القرافي في كتاب “الفروق”: “الفرق بين قاعدة الأرزاق وقاعدة الإجارات: أن كلاً من الأرزاق والإجارات بذل مال بإزاء المنافع من الغير، إلا أن باب الأرزاق أدخلُ في باب الإحسان، وأبعدُ عن باب المعاوضة، وباب الإيجارات أبعد في باب المشاحّة، وأدخل في باب المماكسة، وجعل ما يتناوله الامام على الإمامة، والقاضي على القضاء، والمدرس على التدريس من ولي الأمر أرزاقاً لا إجارة”.

وقال: “وكثير من الفقهاء يغلط في هذه المسألة، ويعتقدون أنها من قبيل الإجارة، فيتورع بعضهم عن تناول الرزق عن الإمامة بناء على القول بجواز الإجارة على الإمامة في الصلاة، وليس الأمر كما ظن، بل الأرزاق مجمَع على جوازها؛ لأنها إحسان ومعروف وإعانة.

والقول بأن الإمامة من قبيل الإجارة – وهي مع ذلك جائزة – مبني على أنها إجارة على ملازمة المكان المعلوم، في الوقت المعلوم، لا على الصلاة نفسها؛ فإنها واجبة على الشخص، وله أجرها من الله، فلا يجوز له أخذ أجرة من الناس عليها”.

وروي: أن أحد علماء الجزائر جاء إلى تونس في عهد ابن عرفة، ووجد بعض أئمتها يتناولون جانباً من المال على الإمامة، فامتنع من الصلاة وراءهم باعتقاد أن ما يتناوله الإمام من قبيل الإجارة التي لا وجه لها.

ومما يدل على شدة رغبة الشارع في صلاة الجماعة: أنها تفضل صلاة الفرد بدرجات كبيرة، قال – صلى الله عليه وسلم -: “صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة”.

ومما يعبر عن فرض صلاة الجماعة بالقول البالغ: همه – صلى الله عليه وسلم – بتحريق بيوت من يتخلفون عن بعض الصلوات، فقال – عليه الصلاة والسلام -: “لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالفه إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم”.

ومما يدل على أن الشارع يريد تأليف الناس إلى صلاة الجماعة: أمره للإمام بأن يخفف في صلاته، قال – صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيح: “إذا صلى أحدكم بالناس، فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه، فليطل ما شاء” ويريد التخفيف في القراءة والركوع والسجود وغير ذلك.

وكنت في مجلس الشيخ محمد بن[2] يحيى عالم شنقيط بتونس، فقال الشيخ ما قاله – صلى الله عليه وسلم – من تخفيف الإمام في الصلاة، فقال له بعض الحاضرين: إن الشيخ أحمد التيجاني كان يطيل الصلاة بالمصلين، فقال له الشيخ: أنا أقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأنت تقول: فعل رجل، ثم قال الشيخ: لعل المصلين جميعاً طلبوا منه الإطالة في الصلاة.

ومما يدل على أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ: أن الشارع أذن للمأمومين أن يصلوا قياماً وراء الإمام الذي يصلي جالساً لعذر.

وروى الوليد بن مسلمة عن مالك: أن المأمومين يصلون وراء الإمام العاجز قياماً، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، والأوزاعي.

ويدل على أن صلاة الجماعة مطلوبة للشارع: إمامة الصبي الذي بلغ حد التمييز.

ومن الأئمة من يجيز إمامته في الفرض والنفل، ومنهم من يجيز إمامته في النفل دون الفرض.

ووجهه: ما ذهب إليه الفريق الأول: أنه لا يشترط اتحاد نية الإمام والمأموم في الفرض أو النفل كما يقول الشافعي، ووجه الفريق الثاني الذي يفرق بين النفل والفرض: أن صلاته نفل، فلا يصح أن يقتدي به من تجب عليه الصلاة.

وكنت أحد أعضاء لجنة ألفها أحد وزراء الأوقاف السابقين بمصر في البحث في أسباب تحبيب المساجد إلى الشبان حتى تمكنهم المحافظة على صلاة الجماعة، وكان مما قررته اللجنة من الأسباب: أن تلقى محاضرات في المساجد تصبو النفوس إلى سماعها، ولكن اللجنة انحلت بتغيير الوزارة قبل أن تتم علمها.

ومن الترغيب في صلاة الجماعة، وتيسير فضلها: أن من أدرك ركعة مع الإمام، فقد أدرك فضل الصلاة معه، وإلى هذا المعنى ذهب بعض الفقهاء في قوله – صلى الله عليه وسلم -: “من أدرك من الصلاة ركعة، فقد أدرك الصلاة”.

ويصح أن يكون الحديث متعلقاً بالوقت، ومعناه: من دخل في الصلاة، فصلى ركعة، وخرج الوقت، كان مدركاً لجميعها، وتكون كلها أداء.

ويدل على أن الشارع أراد أن تكون صلاة الجماعة عنوان النظام الذي يجب أن تكون عليه الجماعة مع رئيسهم: أمره بتسوية الصفوف، قال – صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيح: “لتسَؤُونَّ صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم”.

وتسوية الصفوف: سد الخلل الواقع فيها، واعتدال القائمين بها على سمت واحد.

واختلاف الوجوه: كناية عن اختلاف القلوب بالعداوة والبغضاء؛ فإن العداوة والبغضاء محلها القلوب، ولكن يظهر أثرها في الوجوه.

ويؤيد هذا المعنى حديث أبي داود وغيره: “أو ليخالفن الله بين قلوبكم”.

وقال – صلى الله عليه وسلم -: “أقيموا صفوفكم، وتَراصُّوا”. وقال: “تسوية الصفوف من حسن الصلاة”.

ويدل على عنايته باتباع الإمام: أنه نهى المأموم عن مسابقة الإمام في ركوع أو سجود، فقال – عليه الصلاة والسلام – في الصحيح: “أما يخشى أحدكم، أو: ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار! “، وهذا تحذير منه – صلى الله عليه وسلم – من مسابقة الإمام في سجود أو ركوع، فالحديث يفيد: أن السابق للإمام في أفعال الصلاة يتعرض لأن يكون رأسه رأس حمار، ولا يلزم من التعرض لشيء وقوعه، فإذا فعل المكلف ما يمكن أن يكون سبباً لقلب رأسه رأس حمار، ولم يقع ذلك، فقد عطل الفعل عن السببية لحكمة يعلمها الله.

وقال أبو بكر بن العربي في “القبس”: “ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أن يعلم أنه لا يسلِّم قبل الإمام، فلا يستعجل في هذه الأفعال”.

وجعل بعض القضاة السبب في عدم قبول شهادة السلطان: تركه لصلاة الجماعة.

وحكي في “الشقائق النعمانية”: أن السلطان أبا يزيد شهد عند شمس الدين محمد الفناري قاضي الآستانة في قضية، فردّ شهادته، فسأله عن سبب ردها، فقال له: إنك لا تصلي مع الجماعة، فبنى السلطان أمام قصره جامعاً، يسمى الآن: جامع أبا يزيد، وعين لنفسه موضعاً فيه، فلم تفته الجماعة بعد ذلك.

ولم يرد لإمامة الفاسق بالجوارح؛ أي: معلوم الفسق، حديث؛ خاص يعتمد في تقرير الأحكام، وإنما وردت أحاديث عامة في الإمامة، فمن الأئمة من أخذ بالأحاديث العامة، فقال بصحة الصلاة وراء الفاسق مع الكراهة، ومن الأئمة من لم يجوِّز الصلاة وراءه، إلا إذا خشي إثارة فتنة. واستند هؤلاء إلى أن الإمامة وظيفة شريفة كالشهادة، فلا يوضع فيها إلا عدل، أو مستور الحال.

وألقيت في بلاد الجزائر درس تفسير تعرضت فيه لقراءة المأموم وراء الإمام، وذكرت مذهب من يقول: إذا صلى المأموم في مكان لا يسمع قراءة الإمام، فليقرأ وحده – وهو مذهب أحمد بن حنبل – رضي الله عنه – فاستحسن الشيوخ الحاضرون هذا المذهب، واقتضت المناسبة ذكر الآية:

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]. والإنصات للقراءة ورد في الآية مقروناً بالاستماع، وإذا كان الاستماع غير متيسر، فلا يجب الإنصات، بل يقرأ الماموم ما شاء؛ خشية أن يشتغل بالتفكر في أمور خارجة عن الصلاة.

ويدل على أن الشارع يريد تنظيم الجماعة في المسجد على وجه مألوف للجميع: نهيه عن وجود رائحة كريهة؛ كرائحة الثوم بالقرب من المسجد، قال – صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيح: “من أكل من هذه الشجرة – يعني: الثوم -، فلا يقربن مسجدنا”، ومن رواية في الصحيح أيضاً: “من كل ثوماً أو بصلاً، فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليصلّ في بيته”، وروى مسلم: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا وجد ريحها في المسجد، أمر لإخراج من وجدت فيه إلى البقيع.

وقد وصف الكتاب الحكيم عمّار المساجد بحقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18].

وعمارة المسجد: إصلاحه بالترميم، وتنظيفه، وتنويره، وإدامة العبادة والذكر فيه، وتدريس العلم النافع به.

وإن القائم بالإمامة قائم بعمل حيوي عظيم، وهو حفظ الصلة بين الخالق والمخلوق، وعمل اجتماعي واسع، وهو تعارف أهل الحي أو القرية وتعاونهم على مصالح الحياة، وإنما تتفاوت الأمم بحسب تفاوتهم في هذه الصلة والعمل الاجتماعي الكبير. ويدرك هذا النفع من يعلم عين اليقين أن الأمة المقطوعة الصلة عن الله وشريعته لا تساوي في النظر الثابت على الحقائق جناح بعوضة.

فإذا كان المال الذي يتناول من بيت مال المسلمين يقدر بحاجة الناس إلى عمل الشخص الذي تناوله، فمن حق الإمام الراتب أن يكون واسع الرزق، ناعم البال، وكان الخلفاء لعظم فائدة الإمامة يتولونها بأنفسهم، فيؤمون الناس في صلاتهم، ويعظونهم في خطبهم، وذلك مما يدعوهم إلى معرفة حال الأمة، وما تحتاج إليه من إرشاد.

[1] مجلة “لواء الإِسلام” – العدد العاشر من السنة الحادية عشرة.

[2] ومن مصنفات الشيخ الشنقيطي “شرح على صحيح البخاري”، ومؤلف خاص في “الفروع التي أخذت من الكتاب والسنّة خاصة”.

مقالات مقترحة