مقاصد خطبة الوداع

الشيخ محمّد الأخوة

 

قال صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحشد الرهيب، ليلة العيد الأكبر، وهو حاضر بعرفة، وهو راکب ناقته حتى يعلو صوته، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

«أيُّها النّاس، اسمعوا منّي أُبيّن لكم، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف.

أيّها النّاس، أتدرون في أيّ شهر أنتم، وفي أيّ يوم أنتم، وفي أيّ بلد أنتم، قالوا: نعم، في يوم حرام، وفي شهر حرام، وفي بلد حرام قال: فإنّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم، كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. وإنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللَّهُمَّ اشهد.

ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، ألا وإنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع، (أي: لا يجوز فعله بعدُ)، وإنّ لكم رؤوس أموالكم لا تظلِمون ولا تُظلَمون، قضى الله أن لا رباً، وأنّ أوّل رباً أبدأ به ربا عمّي العبّاس بن عبد المطلب، وأنّ دماء الجاهلية موضوعة (أي لا أخذ بالثأر بعدُ)، وأنّ أوّل دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحراث؛ (أي: حيث قتلته هذيل وهو مسترصغ في بني ليث) ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللَّهُمَّ اشهد.

أيّها النّاس، إنّما النّسيء زيادة في الكفر يُضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً ليوطئوا عدّة ما حرّم الله فيُحِلّوا ما حرّم الله، ألا وإنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض، وإنّ عدّة الشّهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرم، ثلاثة متوالية، وواحد فردٌ، ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم. ولا ترجعوا بعدي كُفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: اللَّهُمَّ اشهد.

أيّها النّاس، إنّ لنسائكم عليكم حقّا، وإن لكم عليهنّ حقاً، فعليهن ألا يُوطِئن فُرُشَكم أحداً، ولا يُدخِلن بيوتكم أحداً تكرهونه إلاّ بإذنكم، فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع، وأن تضربوهنّ ضرباً غير مبرّح، فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهُنّ بالمعروف، وإنّما النّساء عندكم عوان (أي: من العنوة؛ أي: القهر فالمرأة عانية، والجمع عواني کجواري النّساء عوان لأنّهنّ يُظلمن ولا ينتصرن، لا يملكن لأنفسهنّ شيئاً)، وإنّما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاتقوا الله في النّساء واستوصوا بهنّ خيراً، ألا هل بلغت قالوا: نعم، قال: اللَّهُمَّ اشهد.

أيّها النّاس، إنّما المؤمنون إخوة، ولا يحلّ لامرئ مال أخيه إلاّ عن طيب نفس منه.

أيّها النّاس، إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، وإنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربيّ فضل على عجمي إلاّ بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللَّهُمَّ اشهد.

أيّها النّاس: إنّ الشّيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنّه قد رضي أن يطاع فيما سِوَى ذلك ممّا تحقّرونه من أعمالكم، فاحذروه على دينكم، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبداً، أمراً بیِّناً، کتاب الله وسُنَّة نبيّه، وإنَّكم ستسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت، وأدّيت، ونصحت. فجعل يشير بإصبعه السّبّابة إلى السّماء ثمّ إلى النّاس، وهو يقول: اللَّهُمَّ أشهد».

ثمّ قال: «فليُبلِغ الشّاهد منكم الغائب فلعلّ من يَبْلُغه يكون أوعى له من بعض من سمعه».

وكان ربيعة بن أمية بن خلف واقفاً تحت صدر النّاقة يردّد قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان صيّتاً، جهير الصّوت، كلّما قال رسول الله عليه السّلام كلمة صرخ بها، ومن هذا يؤخذ حكم التّسميع في الصّلاة الّذي يقوم مقامه مضخّم الصّوت فهو من أحسن البدع.

وإن أردنا تبيّن الأهداف الّتي تضمّنتها هذه الخطبة الفذّة، الجامعة بين خيري الدّنيا والآخرة نجدها:

ـ أوّلا وبالذّات: توصي بالنّساء خيراً، وتنهى عمّا كان عليه النّاس من امتهانهنّ والتّعدّي عليهنّ، فإن كان ذلك فهو من النّاس لا من تعاليم الإسلام، فقد كره صلّى الله عليه وسلّم ضرب المرأة، ناكراً على من يرتكبه قائلاً: «أتضربها ثمّ تضاجعها»، جاعلا المنافاة التّامّة بين الضّرب الدّال على الكراهية والجفاء وبين المضاجعة والتآنس والوفاء.

الهدف الثّاني المشتملة عليه الخطبة: شخصية المسلم في حرمة حياته، وعرضه، وماله، المسلم بعنوان إسلامه ودخوله تحت رايته، صار به في حمى مكين من كلّ المسلمين ودولتهم، هم حمى له.

الهدف الثالث: حرمة الرّبا وما أدراك ما الرّبا المظلم للعباد المتعدّي على الأموال، المزيل للحنان والشفقة على الإنسان، الحاثّ على طلب المادّة الخسيسة المبنيّة على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.

الهدف الرابع: هو القصاص والأخذ بالثأر حتى لا يستفحش الظلم والعار.

الهدف الخامس: حرمة الأشهر الحرم، واعتبارها من مواسم الخير، ضرورة أن تشريعها في الجاهلية كان لتقليل الشّرّ بتوقيف الحروب بينهم في أربعة أشهر، وذلك ثلث العام، وفي ذلك خير، والإسلام يقرّ الخير ويذكّر به، وإن كان الحكم تغيّر بعدُ لمّا استقرّ الإسلام وقوي فلم يقيّد الحرب والجهاد بزمن، بل كلّ عام حيث تتاح الفرصة ويمكن دحض الشّرّ والفساد في الأرض؛ لأنّ جهاد الإسلام إنّما هو لنشر السّلام وحمل النّاس على الخير والفضل والإكرام.

الهدف السّادس: عَود إلى العناية بحقوق النّساء في ما لهنّ وما عليهنّ، والله إنّها لعناية ما بعدها عناية من منقذ الإنسانية من همج الجاهلية، بل عناية من الإسلام للحفاظ على المرأة وكلاءتها حتّى يعود الرّجل خادماً لها، وهي مخدومة داخل بيتها، مصانة في عفاف أهلها، وأين ذلك من وضعها في يوم النّاس هذا في عصرها عادت مثقلة بتكاليف لم يكلّفها بها ربّها، بل أهينت ووقع إذلالها حتى صارت كلباً للشّارع بين أنهج وأزقّة بلادها، وهي لاهثة جارية في غدوّها ورواحها عساه أن يرضى عليها زوجها أو مجتمعها، لتعين على النّفقة من مالها الّذي تعبت كثيرا من جرائه، وأهينت من أجله، ووضعها يتراءى لها بل للكثير من النّاس إنّه حضارة وتقدّم وحريّة لها، وما دروا أنّه رجعية إلى الوراء، إلى الجاهلية الأولى التي كانت تستعبد المرأة وتجعلها مملوكة للرّجل يتصرّف فيها كيف يشاء، هذه حقائق واضحة فاضحة غير أنّ عين الرّضا تقلب الحقائق، وتصير متابعة للهوى، التّجارة الخاسرة فتسمّيها رابحة.

وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة          كما أنّ عين السخط تبدي المساوي

الهدف السّابع: اعتبار المؤمنين وحدة صمّاء، لا يفصم بينهم اختلاف، وهم إخوة في الدّين سواء فيما بينهم، لا تفاضل إلاّ بالعمل النّافع الصالح: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]. ولأجل هذا قال عليه السّلام في حديث صحيح: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، وهم يد على من سِواهم»[1].

 انظروا بعين الحقيقة كيف رفع الإسلام من قيمة الوحدة، حتى جعل تعهّدها ضروريا، ولا يجوز الخروج عنها من كافّة بقية المسلمين جميعهم، إلى هذا الحدّ يجعل الفرد عهده تكليف في عنق الآخرين، إنّها والله شخصية لعموم المسلمین.

الهدف الثّامن، وهو الأخير: ضرورة الحفاظ والاعتصام بالمعينيْن الاثنيْن الجالبين لسعادة الدّارين والمفضيين للخير العميم، ألا وهما القرآن المجيد والسُّنَّة المطهرة.

     أيّها الملأ الكريم، أَبَعْدَ هذا أدعوكم ـ دون المزيد ـ من التذوّق من قِرَى سنّة رسولنا وحبيبنا المرتجى منه الشّفاعة الكبری، ساعة الوقوف بين يدي ربّنا، غير أنّي أجدني في موقفي الأوّل عند حيرتي عند بدء كلمتي حتّى فتح علي بإبراز أوّل خطبة وآخر خطبة في حشد يوم عرفة، اليوم الذي أكمل فيه الدّین فتمّت فيه المعرفة والنّعمة على المهتدين.

[1] ) أبو داود، في الديات، باب إيقاد المسلم بالكافر، وابن ماجه في الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم، واللفظ لابن ماجة.

مقالات مقترحة