ذكرى الهجرة
فضيلة الشيخ محمّد المختار ابن محمود
إنّ من أهمّ الحوادث التاريخية التي كان لها أثر عظيم في شأن الإسلام وانتشاره في مشارق الأرض ومغاربها، حادث الهجرة، هجرة الرّسول الأعظم خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم.
فقد كان أوّل ظهور الإسلام في مكّة أين مقرّ البيت الحرام، ذلك البيت الذي شيّده إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام وأسّسه على التقوى من أوّل يوم فكان مثابة للنّاس وأمنا تفد إليه الأمم من جميع أقطار الأرض وتتقرّب فيه إلى الله على حسب أديانها ومبادئها فكان مقرّ أديان متناقضة وعوائد متباينة كما كان مقرّ عصبيات مختلفة وقبائل متنوعة، تعتزّ كل واحدة بدينها، وتتباهى بقوّتها وكثرة عددها.
فاختار الله تعالى أن يكون مظهر الإسلام في ذلك الموضع الذي تطاحنت فيه الأديان، وتنوّعت في المبادئ وتشتتت فيه الأغراض، إذ ظهور الإسلام في مجتمع على هاته الحالة دليل واضح على ما للإسلام من قوّة وما له من سلطان بحيث لا يبالي بتلك المظاهر المتنوعة لأنه بقوّته سيقضي عليها.
بعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكّة، فمكث زمنا يسيرا يهيّئ الأسباب لإظهار دعوته والإصداع بكلمة الله، ثمّ أُذن له فصدع بالأمر، وجاهر بالدّعوة، فتألّب النّاس عليه وأعدّوا العدّة لمقاومته لما علموه من أنّ هذا الدّين الجّديد الذي جاء به إليهم سيكون قضاء مبرما على ما ألفوه من العقائد الضالّة، وهكذا الشأن في كلّ من يضلّ عن سبيل الله فتأخذه العزّة بالإثم ولا تجد الهداية إلى قلبه من سبيل.
ولم يقتصروا في مقاومته على الطرق المعقولة من المفاهمة والاحتجاج والمحاورة بل قاوموه صلّى الله عليه وسلّم بالفعل، فترصّدوا له في غدوّه ورواحه، وأغروا به سفهاءهم والفلتاء منهم، وآذوه بأنواع من الإذايات لا يتحمّلها إلّا أمثاله صلّى الله عليه وسلّم من أولي العزم فكان يقاوم ذلك بالحلم والصّبر والجلد، ويستمرّ على بثّ الدعوة التي كلّفه الله بها، مستخفّا بأعمالهم واثقا من نفسه عاملا بأنّ النّصر سيكون بجانبه وهكذا شأن المرسلين عليهم الصّلاة والسّلام، في التجلّد وقوّة العزيمة وتحمّل الشدائد واقتحام الأخطار ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ آل عمران [146-147].
ثمّ لمّا مضت أعوام على هاته الحالة ظهر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ بقاءه بمكّة والمشركون على ما هم عليه من الكفر والعناد والمقاومة لا يمكن معه الوصول إلى الغاية التي يسعى لتحقيقها، فاستأذن من ربّه سبحانه وتعالى في أمر الهجرة، فهاجر إلى المدينة ومعه أتباعه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتّبعوا النّور الذي أنزل معه فوجد فيها أنصارا أعزّوه واعتزّوا به، وأكرموا من هاجر معه، فطاب له فيها المقام وتهيّأت الأسباب لنشر كلمة الدعوة وتفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العمل العظيم الذي كلف به، فتوالت الغزوات واستمرت الفتوحات، ودكّت معالم الشرك فارتجّت ارتجاجا ودخل النّاس في دين الله أفواجا، ونفذت كلمة الله إلى سائر الأسماع وانتشرت في جميع البقاع فذلك هو حادث الهجرة وتلك هي آثارها.
ثمّ استمر الإسلام على النمو والانتشار، حتّى صارت دولة الإسلام أقوى الدول، وحتى صارت مدنيّة الإسلام أرقى المدنيات وحتى صارت الأمّة الإسلامية هي مضرب الأمثال في عدلها وقوّة سلطانها واستمر الحال على ذلك حينا من الدهر.
ثم دالت الدولة وضعفت الصّولة وطرأ على جسم الأمّة الإسلامية الاعتلال حتّى كادت تصل الى الاضمحلال حيث تغلّبت الأغراض وتشتّت الجمع وتفرّقت الكلمة وسادت الفوضى وصارت الأمّة الإسلامية أضعف الأمم تساق بالعصى وتغزى وهي في عقر دارها وتعامل بأنواع الخسف والهوان وتشج فلا يرثى لها أحد وتقهر ولا تستفيد من كثرة العدد.
فهل يدوم الحال على ذلك؟ وهل لمعالجة ما عليه المسلمون من سبيل؟
أمّا دوام الحال فمن المحال وأما العلاج فهو سهل بسيط ذلك أن الرجل العاقل هو الذي يقارن بين ماضيه وحاضره، ويبحث عن أسباب عزّه عندما كان عزيزا ويبحث عن أسباب ذلّه عندما صار ذليلا، فيدرأ عن نفسه أسباب الخلل، ويتدرّع بالطرق الناجحة من وجوه العمل.
وإنّ في حادث الهجرة لعبرة لمن يعتبر، ولا ينبغي أن يمرّ به الإنسان كحادث يكفيه منه أن يعلمه، بل يجب ان يقلبه ظاهرا وباطنا ويستخلص منه ما فيه من أسرار ثم يسعى للعمل على ذلك حتى يصل إلى الغاية التي يقصدها والغرض الذي ينشده.
وفي الهجرة عبر كثيرة ومغاز سامية لا تكفي مقالة لتعدادها وإنّما نقتصر منها على ثلاثة أمور وهي : الاعتماد على الله، والتضحية بالنفس، والعزيمة.
الاعتماد على االله:
فأمّا الاعتماد على الله فهو سرّ النّجاح في كلّ شيء لأنّ الاعتماد على الله يكسب الإنسان قوّة و يا لها من قوّة. فإذا تشجع الإنسان به أقدم على العمل بنفس مطمئنّة وإيمان ثابت لا يخاف إلّا من الله ولا يرهب إلّا من سطوته، واثقا من أنّ البشر لو أجمع إنسهم وجنّهم على أن ينفعوه بشيء لم يكتبه الله له لم يقدروا عليه، ولو أجمع إنسهم وجنّهم على أن يضروه بشيء لم يقدّره الله له لم يتمكّنوا منه. فعند ذلك يزول عنه الجبن والخوف والاستكانة ويصير عزيزا قويا مزدريا بالحوادث والأخطار. فهــو إذا توجّه توجّه إلى الله. وإذا اعتمد اعتمد على الله، لا يفتّ شيء في ساعده، ولا يصدّه صادّ عن البلوغ إلى مقاصده.
التّضحية بالنّفس:
وأمّا التّضحية بالنّفس فهي الأمر الذي يجب على كل إنسان يريد النجاح أن يروّض نفسه عليه، لأنّها كلمة جامعة تشمل ارتكاب الأخطار، ومفارقة الديار، وتحمّــل الأكدار، وإيثار الغير بالمنفعة، وتجنّب المطامع السافلة، والتحلّي بجميع الكمالات والفضائل .
وإذا بلغك عن أمّة أنّها تريد النهوض فابحث عن أصحاب الزّعامة فيها، فإن كانوا ممّن يضحون بأنفسهم في سبيل المصلحة العامّة فترقّب لها النجاح، وإن كانوا من أصحاب المطامع ومن الذين لا يرضون بأن يؤذوا أدنى إذاية فاعلم أنّ طمعها في النهوض كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
العزيمة:
وأمّا العزيمة فهي الشّرط الذي لا بد منه في نجاح كل عمل، لأنّ الإنسان إذا أقدم على عمل وكان له عزم صادق في نجاحه يصل بحول الله إلى غايته لا محالة. إذ صدق العزيمة هو الذي يذلل به الانسان كلّ أمر صعب يعترضه في طريقه، فلا تؤثر المصاعب في عزيمته، ولا تصدّه الأخطار عن البلوغ إلى غايته. والعزيمة قوّة يبعثها الله في الإنسان فيضطلع بأعباء الأمور بنفس مطمئنة وعقيدة راسخة، ولعظم أمرها مدح الله رسله عليهم الصلاة والسلام بأنهم أصحاب العزم، إذ بدون عزيمة لا تنجح الأعمال، ولا يصل النّاس إلى ما يقصدونه من الآمال .
فإذا أراد المسلمون أن يعتبروا بالهجرة وأن يسترجعوا مجدا أضاعوه وعزّة فقدوها، فليكن اعتمادهم على الله، وليعوّدوا أنفسهم على التضحية، ولتكن لهم عزيمة صادقة، فعند ذلك يحصل لهم التأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحقّ لهم أن يطمعوا في النجاح ويترقبوا من ليلهم الذي طال أمده أن ينجلي بالإصباح.
المجلّة الزيتونية: المجلّد الثالث، الجزء الثالث.