سؤال: لماذا يحتفل المسلمون في المساجد بإحياء ليلة النصف من ‌شعبان من سائر ليالي العام؟
وهل ما يتلى من الدعوات، ويصلى من الركعات بين المغرب والعشاء من هذه الليلة بنية طول العمر، ودفع البلاء، والاستغناء عن الناس، ورد فيه نص شرعي؟
الجواب: احتفال المسلمين في المساجد بإحياء ليلة النصف من ‌شعبان، لم يكن في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد الصحابة – رضي الله عنهم -، والوارد: أن خالد ابن معدان، ومكحولاً الشاميّ من التابعين، كانا يجتهدان ليلة النصف من ‌شعبان في العبادة، ولما اشتهر ذلك عنهما، اختلف الناس في تعظيم هذه الليلة وإحيائها بالعبادة، فمنهم من أقره، ومنهم من أنكره، والمقرّون على طائفتين: طائفة تذهب إلى استحباب إحيائها جماعة في المسجد، وممن وافق على هذا: إسحاق بن راهويه، وطائفة تكره الاجتماع لها في المسجد، ولا يكرهون للرجل أن يحيى تلك الليلة في الصلاة وحده، وهذا ما اختاره الأوزاعي إمام أهل الشام.
والمنكرون لتخصيص هذه الليلة بتعظيم هم طائفة من علماء الحجاز كعطاء بن أبي رباح، وابن أبي مليكة، وفقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم.
أما القائلون بإحياء هذه الليلة بالعبادة، فإنهم يستندون إلى أحاديث وردت في فضلهاة كحديث: “إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ينزل إلى سماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لأكثر من شعر غنم كلب”. وحديث: “إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يطلع إلى عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد لحقدهم حتى يدعوه”. وهذه الأحاديث قد صرح علماء الحديث بضعفها، فمن يستند إليها في فضل ليلة النصف من شعبان، فلأنه لا يعترف بضعفها، أو لأن الأحاديث الضعيفة تكفي لأن يستند إليها في فضائل الأعمال.
ثم إن من أجاز إحياءها جماعة في المساجد يبني على أن لا بأس بصلاة النوافل في جماعة، وقد نص الإِمام الشافعي – رضي الله عنه – في “مختصر البويطي” و”الربيع” على أن لا بأس بالجماعة في النافلة، وقد ورد في هذا أحاديث صحيحة؛ كحديث عتبان بن مالك، وغيره.
وأما من أجاز إحياءها للناس فرادى دون اجتماع لها في المساجد، فلعله يرى رأي الإمام مالك – رضي الله عنه – في أن لا تصلى النوافل جماعة حيث تشتهر، أو أن يجمع لها الناس، روى ابن وهب عن مالك: أنه لا بأس بأن يؤم النفر في النافلة، فأما أن يكون مشتهراً، ويجمع له الناس، فلا.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا بناء منه على قاعدة سد الذرائع؛ كراهة أن يظن من لا علم عنده أن ذلك فريضة، ويستثنى قيام رمضان؛ لاشتهار ذلك من فعل الصحابة.
أما المنكرون لأن يكون لهذه الليلة فضل على غيرها، فلأنه لم يثبت عندهم في فضلها حديث.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب “الأحكام”: “وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه، لا في فضلها, ولا في نسخ الآجال فيها، فلا تلتفتوا إليه”.
وقال في كتاب “العارضة”: “وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماعه”.
هذه مذاهب أهل العلم في تعظيم ليلة النصف من شعبان.
وأما الصلاة المخصوصة التي يعمد إليها بعض الناس في هذه الليلة، فقد ورد حديثها في “الإحياء” لأبي حامد الغزالي، و”قوت القلوب” لأبي طالب المكي، ولكن جماعة من الحفّاظ صرحوا بأن حديثها موضوع.
قال الحافظ ابن الجزري في “الحصين”: “وأما صلاة الرغائب أول خميس من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان، وصلاة ليلة القدر من رمضان، فلا تصح، وسندها موضوع باطل”.
وقال الإمام النووي في كتاب “المجموع”: “الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مئة ركعة، وهاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب “قوت القلوب”، و”إحياء علوم الدين”، ولا بالحديث المذكور فيهما؛ فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة، فصنف ورقات في استحبابهما؛ فإنه غالط في ذلك، وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما، فأحسن فيه وأجاد”.
والليلة المباركة الواردة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3 – 4] هي ليلة القدر، وتفسيرها بليلة النصف من شعبان ينسبه بعض المفسرين إلى عكرمة، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: “ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان؛ كما روى عكرمة، فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن في أنها في رمضان”.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: (وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر، ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان، وهو باطل؛ لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] , فنص على أن ميقات نزوله رمضان، ثم عبر عن وقتية الليل هنا، فقال: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}.
ويتلخص الجواب: في أن ليلة النصف من شعبان ليست هي الليلة المرادة بالليلة المباركة الواردة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}. وأن الصلاة المخصوصة التي يفعلها بعض الناس قد طعن كثير من الحفاظ في صحة حديثها، وأدخلوها في قبيل البدعة التي هي طريقة في الدين تخترع ليضاهى بها الطريقة الشرعية.
أما إحياء الرجل لها بالعبادة في جملة ما يتيسر له إحياؤه من الليالي؛ رجاء أن يكون لها في استجابة الدعاء وقبول العبادة المزية التي وردت في أحاديث فضلها، فليس فيه من بأس، وهذه الأحاديث تكفي داعياً للإقبال فيها على العبادة، وتنفي أن يكون قيام الرجل فيها بشيء من العبادة المطلقة عن التقييد بعدد معين، أو هيئة مخصوصة، بدعة، وإن لم تبلغ هذه الأحاديث درجة الصحيح.
فضيلة الإمام محمد الخضر حسين

مقالات مقترحة