بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
1412 – ربيع الثاني وفي 8 نوفمبر 1991.
في ذكرى سبعة نوفمبر كما يزعم فيما سمَّوه بالعهد الجديد
الحمد لله مكوّر اللّيل على النّهار ومكوّر النّهار على اللّيل الجاعل ذلك بباهر حكمته وجميل صُنعه مبدأً لتعليم الإنسانِ الحسابَ حتّى يعيش مُنظّما منضبطا لا في تباب، وهي الآية التي يريدها الله في محكم الكتاب حتى تسعد الحياة وينعم العيش لمن ألقى السّمع وهو بصير وبذلكم ومثله يكون العباد لربهم حامدين يسبحون: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس:37-40]. كما يقول أحكم الحاكمين: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ [يونس:5-6]. وبموجب هذا لتنطق ألسنتنا وتخضع عقولنا وتؤمن ضمائرنا بأن خالق هذا الكون هو أحد في صنعته موجد له ومبدعه وملزم الثقلين بالنطق بعد الإيمان بأنه تعالى لا إله إلا هو لا ثاني في ربوبيته وعبوديته أرسل هدي سمائه إلى أرضه عن طريق رسالاته المبدوءة بآدم في الابتداء المختومة برسالة محمد المصطفى والمجتبى صلى الله عليه وسلم ابتداءً وانتهاءً بلا غاية ولا فناء مادام الوجود غير منتهي وعلى آله والأصحاب ومن تبعهم بإحسان وكل من أقتفى أثرهم فكان لهم عهد وجميل وفاء، إن العهد كان مسؤولا.
أمّا بعد فقد أيقنت العقول بأنَّ العمل والعيش دون ضبط وعدد وحساب هو لا يكون إلا مع الخبال وفقدان العقل. إذ عديم العقل لا يعرف العيش المنضبط ولا على ما يثبته بسعادة ما يدور في حياته أو ظلاميته. إذًا تائه في حياته، على إهمال في عيشه، وهو ضياع لنتائج عمله. هو حيوان في صورة إنسان بل أنكى منه لأنّه ضيّع ما ينفعه ويثبت حصيد نتائج مسؤوليته إذ مسؤولية التكليف بها يُجازى ما يستحقه من إساءة أو عمل شريف. فويل لتفريط الأول وطوبى وحُسنى لمن شرف وحسُن عمله ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
أيها الناس قد علَّم الله مكلَّفيه بما هيّأه لهم ممّا في الوجود من أسباب العدد والحساب وجعله آحاد وعشرات ومئين بل آلاف وأكثر لضبط الأعوام والسّنين وما المقصود من ذلك، مع كون الله القدير هو عَالمٌ غايةَ ما يدور في عالمه. الإنسان وضبطه على ما يكون على الكمال فيكون حجة له أو عليه وليس من أمره نكرانه ولا زعم نسيانه فما يُضبط ويُسجّل من قبل التاريخ لا يُرفع ولا يزول. والتسجيل، وإن شئت قلت الأرشيف، لا يُعدَم. كما يُقال: (ألسنة الناس البارّة أقلامُ إلى فناء الكون). فاعتبر أيّها الإنسان إن كنت داريا.
عباد الله إنّ من آحاد الحساب عدد السّبع بلا ارتياب. وقد أختاره ربّ الكون وربّ الحساب ليجعله ركيزة وأرضيّة ورمزا لبديع مصنوعاته. فقد خلق الدّنيا في ستّة أيّام وقد ختم أيّامها بيوم السابع حتى يكون ذلك سعادة للأنام إذ الوجود سعادة لما كان معدوما. ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس:3]. كما أنَّ خلق الإنسان وتكوينه مع تمام خلقته التي ينتج عليها حياته لنَفعِه وبني جنسه إنما كانت هي في سبعة من الشهور حيث يقول العلّي القدير في أمد تكوين الجنين مع أمد النّفع من الرّضاع الذي الله به عليم: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ مع قوله تعالى مخبرا عن زمن الرّضاع المسعد للحياة والمهيّئ أصالة الرضيع ليشتد عوده فيها ويشب نافعا منتفعا إلى الممات، قال: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [لقمان:14]. فإذا ما ألغينا العامين من أمد الحمل والرضاع يبقى لأجْل تكوّن الجنين ستة أشهر كاملة يشتد عوده وتكمل قواه في سابع وجوده، وحيث ما يكمل سابع حمله قد يولد كاملا ولا عيب فيه وهذه هي مدة خلق الجنين في بطن أمه. ثم لنرجع إلى تكوين السماوات والأرضين فلا نجدهما إلا متكاملِين بسبعة طباق بعضها يشد بعضها عندما خلقهما فتتهيأ للحياة ويُنتَفع بهما. ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق:12].
عباد الله هذا عدد السَّبع المعتبر في التكوين والخلق والإبداع من موجد الكون دون مماثلة في الإتّباع وبذلك يكون إشارة وبشارة وامتنانا على الإنس والجانّ من أنَّ سعادة حياتهم وزخرفها وكامل الانتفاع بها ما كان شيء من ذلك لو لم يُركَّز على عدد السبع من العدد إذ ذاك هو عين الكمال والأمر لا يقل في الاعتبار في بناء كثير من أعمال المكلفين على عدد السبع المختار قال عليه الصلاة والسلام في وقت ما يناسب في تربية الصبية الصغار (مُرُوهُمْ لِسَبْعٍ) في توجيه قيامهم بعبادة ربهم: (مُرُوهُمْ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ لِعَشْرٍ). فعِند هذا الحدّ يأتي النضج وتكون في الطفل قابلية التفكير والتكليف. ومن ثمّ كانت الصّلاة محطّات للمراقبة وللنيّة عند الغفلات العارضة. فكانت الفرائض خمسة وأُكِّدت بما قيل أنَّه واجب: الوتر والفجر. فتلك سبعة كاملة. مثل ذلك ما دخَل الصّلاة وهو قلبها النّابض بالخضوع والخنوع وهو السجود وهو الركن المعبّر بحقّ عن مراقبة الله جل وعلا إذ يقول عليه السّلام: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ). وفي هذا الركن يكون الكمال فيه مركّزا على سبعة أعضاء. روى البخاري قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يُسجد على سبعة أعضاء: الجبهة واليدين والركبتين والرجلين).
كما كان عدد السبع مبنيا عليه كثير من التكاليف الشرعية سوى ما سبق ففي الحج الطواف لا يعتدّ به إلّا إذا ضمّ سبعة أشواط وكذلك السعي بالسويّة فلا يُعتدّ فيه بين الذهاب والإياب إلّا بالسبع المَرْضيّة من ربّ البريّة. وفي رمي الجمرات بمنى لا يكون الرّمي إلا على السبعة حصيات بالسوية. كذلك لا تقل الأهمية إذا ما دخلنا في صلاة العيدين إلّا بافتتاح ليس له اعتبار إلّا إذا كان سبعا مرضيّة. إلى غير ذلك من اعتبار المزية في عدد السبع الحسابية. وفيما رأينا كانت الحظوة والشرف والاعتبار لهذا العدد المختار، لكن وبمقابل ذلك قد يكون نفس العدد مُنذر عذاب من الله على قوم غضب عليهم الله لأنهم معاندون وبما أعدّه الله مكذبون فقال جلّ وعلا: ﴿الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى هُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾ [الحاقة:1-8].
عباد الله كم كان لأهل تونس من فرحة ورفع شدّة وتوقيف ظلم ومجاوزة بعد سالف العهد المظلم الذي أنقضى غير مأسوف عليه لكنه مذكور في الأذهان ومسجل بكل ما فيه، من مشروعيّة التبنّي الممقوت ومن تعطيل أحكام كانت من قِبل الشّرع في حاجة إليها كالحاجة إلى القوت، ترمي إلى العفاف والطّهر والشّرف والكفاف عن الناس، فألغِيَت وعادت هباء بلا عبرة بشهادة الثّقلَين.
إلى أن جاء العهد المعتبر في نوفمبر فاستبشر الناس وحلّت العبر لمن يعتبر وكان الادكار وشاهت الوجوه. وخفي عهد الظّلام عن الدّيار. نَعم شُمّت رائحة الانفراج في بعض من الأيام وأجزاء من النهار حتى أُطلِقت نفوس نفيسة سُلّط عليها التّعسّف والقهر وأُغلِقت دونها أبواب السجون والزنزانات لا لإجرام مُقترف لكن لرفع الأصوات والعقائر المُنادية بإبقاء الدين الإسلامي هو الدّين به المعرف، كما سُمع والله بحقّ صوت المؤذن بإعلاء كلمة الحقّ بأن الله هو الأكبر، سُمع في المذياع والبثِّ التلفزيّ وهو أعظم إلى غير ذلك من مظهر إسلامي جُعل شعارا وإشهارا علمانيا يردّ الاعتبار إلى جامع الزّيتونة في هذه الدّيار. نعم فُتحت الأبواب وجاء الطّلّاب وصعدت الزّفرات على سوء ما مضى وفات. وظُنّ والمؤمن غرّ كريم أنّ توالي ساعات الانفراج ستتوسّع وتعمّ كلّ البلاد والعباد وكلّ الفجاج.
وفي زمن قصير عمّ الظّلام والغمّ والهمّ وأعيد غلق أبواب الزيتونة وشُرّد الطّلّاب وانتُهِكت المؤونة وزاد الطين بلة فصُدّت كل النوافذ والمصادر والروافد لإعادة صحوة الإسلام وزمن إشعاعه بين الأنام بتغيير جذريّ مُحكم التّدبير لإبعاد الجيل الصّاعد عن تعلّم الدّين وسروح الإسلام بين أبناء المسلمين ولأجل ذلك أُبدِلت كلّ برامج التّعليم المعمول بها في كلّ السنين من العهد الماضي القريب الذي لا ندّعي فيها الكمال لكنها تعبّر عن وجه مستساغ لأحكام الدّين الضروري في كلّ الأعوام.
عباد الله، ولا أقول غريبا إن برامج التعليم في مراحله الثلاثة في العهد الجديد جاء مُشجّبا عن كل ما هو صريح من تعليم وهذا واقع لا يحتاج إلى برهان بل صار حقيقة راسخة في الأذهان. وهنا في هذا العام، في مفتتح السّنة الدّراسيّة أُغلقت وصدّ أبواب المدرسة القرآنية الكائنة بنهج الكُتبيّة العتيقة لتعليم القرآن وما إليه بطريقة مرضية ولا حول ولا قوة إلا بالله ربّ البريّة.
نعم والله، وفيه المؤمّل وهو المسؤول أن يجعل وضعنا هذا كوضع زمن يوسف بن يعقوب الذي جاء الغم في سبعة أعوام ثم عاد إليه الانفراج وسعة رحمة ربي الديان. ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْع بَقَرَاتٍ سَمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف:46]. صدق الله العظيم.
اللهم أنت المؤمّل وعليك المعوّل أن تكون الأعوام العِجاف قد انتهت وانقضت وحلّت دونها السّمان التي تنحلّ بها الأزمات وتزول بها الكربات وتعود صحوة الإسلام إلى هذه الديار ويُرفع عنّا الشّرّ ويزول عنّا كلّ عار بحرمة العدد المبروك الميمون الميسور الذي أُنزل عليه القرآن الذي أُنزل على سبعة أحرف أي لهجات. القرآن الباقي الطّويلُ المدى الجاثم بكلّ كلكله في كلّ الجهات إلى آخر الدنيا وبحرمة أمّ الكتاب التي هي السّبع المثاني. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (الفاتحة).