القاعدة مع حقيقة ضمير الغائب

الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين

* القاعدة النحوية في ضمائر الغائب:

 قال صاحب المحاضرة: “القاعدة النحوية: أن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة، وأن يطابق هذا المذكور في التذكير والتأنيث، وفي الإفراد والتثنية والجمع، هذه القاعدة شاملة لا يقبل النحويون فيها استثناء، فإن عرض ما يوهم تأخر المرجع عن الضمير، تأوَّلوا، وتكلفوا لإثبات أن هذا التأخير اللفظي لا يستلزم تأخر الرتبة، وهم – على كل حال – لا يقبلون استثناء في قاعدة المطابقة بين الضمير ومرجعه”.

لم يوجد في القواعد النحوية منذ نشأت إلى يوم انعقد مؤتمر المستشرقين قاعدة تقول: إن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور لفظاً ورتبة، وإنما قال النحاة – كما قال ابن مالك في “التسهيل” -: الأصل تقديم مفسر ضمير الغائب.

ويعللون هذا الأصل بأن ضمير المتكلم والمخاطب تفسرهما المشاهدة، وضمير الغائب عارٍ عن هذا الوجه من التفسير، فكان الأصل تقديم معاده؛ ليعلم المراد بالضمير قبل ذكره، وأجمعوا بعد هذا على أن العمل على هذا الأصل غير واجب، وسوَّغوا أن يكون الضمير عائداً إلى متأخر في اللفظ متى كانت مرتبته في نظم الكلام متقدمة، فلم يقع بينهم اختلاف في صحة

المثل السائر: “في بيته يؤتى الحكم”، وما يضاهيه في احتوائه ضميراً يعود على متأخر في اللفظ، متقدّم في الرتبة؛ كما قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67].

 وقال أرطاة بن سهية:

 تمنَّتْ وتِلكُم من سفاهة رأيها … لأهجوَها لما هجتني مُحارِبُ

فـ “الحكم” في المثَل، و”موسى” في الآية، و”محارب” في البيت قد وردت مفسرة لضمائر ذكرت قبلها، ولم يجد النحاة فيها أو في أمثالها ما يخالف قاعدة مطردة حتى يحتاجوا فيها إلى تكلف وتأويل، بل النحاة أنفسُهم قرروا قاعدة صحة عود الضمير على ما كان متأخراً في اللفظ، وأصلُ رتبته في نظم الكلام التقديم، وشواهد هذه القاعدة في القرآن وكلام العرب بالغة من الكثرة ما يمنع أن يحوم حولها خلاف، والذي جرى فيه الخلاف بينهم إنما هو الإتيان بالضمير مفسراً باسم يتأخر عنه لفظاً ورتبة، نحو: “زان علمُهُ محمداً”، فالجمهور يذهبون إلى فساد مثل هذا التركيب، ويذهب الأخفش، وابن جني، وابن مالك إلى صحته، ومن شواهدهم على هذا قول حسان:

ولو أن مجداً أخلدَ الدهر واحداً … من الناس أبقى مجدُه الدهرَ مُطْعِما

فالحقيقة أن النحاة لا يوجبون عودَ الضمير على متقدم في اللفظ والرتبة، بل يجيزون عودَه على متأخر في اللفظ، وهو متقدم في الرتبة، كما يجيزون عوده على متقدمه في اللفظ، ورتبتُه التأخير؛ نحو قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124]. فمن الخطأ المكشوف قول المحاضر: “القاعدة النحوية أن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة”.

وقول المحاضر: “هذه القاعدة شاملة لا يقبل النحويون فيها استثناء” حكمٌ لا يطابق الواقع؛ فقد عرفت أن المحاضر حرَّف القاعدة النحوية، ولم يأت بها على وجهها الصحيح، وما كان منهم إلا أن قالوا: “يمتنع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة”، والفرق واضح بين هذه العبارة، وبين أن يقال: يوجبون عود الضمير على مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة.

ثم إن قاعدتهم الصحيحة – وهي أوسع نطاقاً من القاعدة المصنوعة في مؤتمر المستشرقين – يقبلون فيها الاستثناء، وقد استثنوا بالفعل أبواباً من الكلام نطق فيها العرب بضمائر ترجع إلى متأخر عنها لفظاً ورتبة، ولكثرة ما ورد من شواهدها أدخلها النحاة في “مقاييس اللغة”، ولم يمنعوا أحداً من أن يصوغ الكلام على طرائقها، وهذه الأبواب المستثناة يعرفها طلاب علوم العربية من قبل أن ينتقلوا إلى كتبها العالية، وإليها يشير ابن مالك في كتاب “التسهيل” بقوله: “ويتقدم غير مَنْوِيّ التأخير إن جرَّ برُبَّ، أو رفع بنِعْمَ، أو شبهها، أو بأول المتنازعين، أو أبدل منه المفسر، أو جعل خبره، أو كان المسمى ضمير الشأن عند البصريين، أو ضميرَ المجهول عند الكوفيين”.

فالنحاة يستثنون من القاعدة القائلة: “يمتنع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة” هذه الأبوابَ التي سردها ابن مالك، وهي مبسوطة في كتب النحو بشواهدها العربية وأمثلتها.

وما زعمه المحاضر من أنهم لا يقبلون استثناء في قاعدة المطابقة بين الضمير ومرجعه على كل حال، لا يستقيم مع إجازتهم إعادة الضمير على متأخر لفظاً ورتبة في باب “رُبَّ”، وتصريحهم بأنه يلتزم في هذا الضمير الإفراد والتذكير، وإن كان مفسره جمعاً أو مؤنثاً، ومن شواهدهم على هذا

قول الشاعر:

رُبَّهُ فتيةً دعوت إلى ما … يورثُ المجد دائباً فأجابوا

* زَعْمُ المحاضر أن في القرآن ضمائر خارجة عن القاعدة النحوية:

قال المحاضر: “ولكن هذه القاعدة بجزأيها إن اطردت في الشعر والنثر، فهي لا تطرد في القرآن الكريم، ذلك أن في القرآن الكريم ضمائر لا تعود إلى مذكور يتقدمها لفظاً ورتبة، وفيه ضمائر يظهر أنها تعود إلى مذكور، ولكنها لا تطابقه تذكيراً وتأنيثاً، أو إفراداً وتثنية وجمعاً”.

قد أريناكم كيف أورد المحاضر القاعدة بعبارة غير صادقة، وفصلنا لكم القول في أنهم لم يوجبوا عود الضمير على متقدم لفظاً ورتبة، ولم يقولوا سوى أن الأصل في مرجع الضمير أن يكون متقدماً في نظم الجملة، وسوَّغوا بإجماع للمتكلم أن يخالف هذا الأصل، ويأتي بالضمير راجعاً إلى متأخر في اللفظ، متقدم في الرتبة متى شاء، ومنهم من أباح له أن يأتي به راجعاً إلى متأخر في اللفظ والرتبة على نحو ما مثلنا، ورأى أن الشواهد التي ظفر بها من كلام العرب كافية لأن تجعله باباً مفتوحاً في وجه كل من يأخذ لسانه بالعربية الفصحى.

وإذا استبان لكم أن القاعدة التي وضعها المحاضر في مؤتمر المستشرقين، وعزاها إلى علماء العربية لم يقلها أحد منهم، فلا ضرر في أن تطَّرد، أو لا تطَّرد، ونعترف للمحاضر بأنها لم تطَّرد، ولن تطَّرد في شعر ولا نثر، كما أنها لا تطَّرد في القرآن الكريم.

أما القاعدة الصادقة، وهي القائلة بامتناع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، فهي – بعد رعاية ما استثني منها – مطردةٌ في القرآن الكريم حكماً مُسمَّطاً.

* حصر هذه الضمائر في تسعة أنواع:

النوع الأول، والثاني، والثالث:

تحدَّث المحاضر عن الضمائر التي يزعم أنها خارجة عن القاعدة النحوية، وحصرها في أنواع تسعة، فقال:

“الأول: الضمائر التي يراد بها الذين تعودوا حوار النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومجادلته، واستفتاءه في مكة والمدينة من المسلمين وغير المسلمين.

الثاني: الضمائر التي يراد بها القرآن.

الثالث: الضمائر التي يراد بها النبي نفسه” , ثم قال: “ويمكن التمثيل لهذه الأنواع الثلاثة بقوله تعالى فى سُورَةِ هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [هود: 13]، فالواو راجعة إلى المشركين من أهل مكة، وهم لم يُذكروا، وفاعل افترى راجع إلى النبي، وهو لم يُذكر، ومفعوله راجع إلى القرآن، وهو لم يُذكر. ومن النوع الأول: كلُّ الآيات والجمل التي تبتدئ بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ} [البقرة: 220]، ومن الثاني قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، ومن النوع الثالث قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1].

وضع المحاضر تلك القاعدة الهازلة، وعزاها إلى النحويين، ثم بنى عليها دعوى أن ضمائر الغيبة في القرآن ترد على خلاف القاعدة النحوية، وأخذ يسوق على هذه الدعوى من الآيات ما يخيل به إلى السامع أنها خارجة عن قانون علماء العربية، وإذا كنا على علم من الفرق بين وجوب عود الضمير على مذكور تقدم لفظاً ورتبة، وهو القاعدة التي يعزوها المحاضر إلى علماء النحو، وبين قولنا: “يمتنع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، إلا ما استُثني”، وهو القاعدة النحوية الصحيحة، عرفنا أن هذه الآيات إنما هي خارجة عن

القاعدة المصنوعة في مؤتمر المستشرقين؛ حيث لم تعد فيها الضمائر على مذكور تقدم لفظاً ورتبة، وهي غير مخالفة للقاعدة الصحيحة؛ إذ لم يجئ فيها ضمير عائد على متأخر لفظاً ورتبة، وقصارى ما يقال فيها: إنها راجعة إلى ما استغني عن ذكره بما يدل عليه من قرائن في نفس اللفظ، أو أحوالٍ أخرى تحفُّ بمقام الخطاب، وهذا الوجه من استعمال ضمائر الغيبة قد قرره النحاة والبيانيون، ولم يروه منافياً لقاعدة من قواعدهم في حال.

فهذا ابن مالك يقول في كتاب “التسهيل”: “الأصل تقديم مفسر ضمير الغائب، ولا يكون غير الأقرب إلا بدليل، وهو إما مصرح به بلفظه، أو مستغنى عنه بحضور مدلوله حساً أو علماً، أو بذكر ما هو له جزءٌ، أو كلٌّ، أو نظير، أو مصاحب بوجه ما”.

وهذا ابن الحاجب يقول في “الكافية”: “والمضمر ما وضع لمتكلم أو مخاطب أو غائب تقدم ذكره لفظاً أو معنى أو حكماً”.

وهذا السكاكي يقول في كتاب “المفتاح” عند البحث عن الداعي إلى أن يكون المسند إليه ضمير غيبة: “أو كان المسند إليه في ذهن السامع”.

وقال العلامة السيد في “شرحه” مبيناً حضور المسند إليه في ذهن السامع: “وحضوره فيه إما لكونه مذكوراً لفظاً، أو معنىً، إما لكونه في حكم المذكور لقرائن الأحوال، لفظيةًّ كانت أو معنوية”.

وقال سعد الدين التفتزاني في “الشرح المطول”: “وقد يكون وضع المضمر موضع المظهر لاشتهاره ووضوح أمره؛ كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر: 1]؛ أي: القرآن، أو لأنه بلغ من عظم شأنه إلى أن صار متعقل الأذهان؛ نحو: هو الحي الباقي، أو لادعاء أن الذهن لا يلتفت إلى غيره؛ كقوله في المطلع:

زارت عليها للظلام رُواق

وقد ساق النحاة من الآيات ومنظوم العرب ومنثورهم شواهد على أن ضمير الغيبة يصحُّ عوده على ما لم يتقدمه في اللفظ، وإنما حضر في ذهن السامع بقرائن الأحوال، لفظية كانت أو معنوية.

ومن هذه الشواهد: قول الشاعر:

وما أَدري إذا يمَّمْتُ أَمراً … أريدُ الخيرَ أيُّهُما يَليني

فالشاعر لم يذكر إلا الخير، وأتى بضمير المثنى راجعاً إليه، وإلى الشر الذي يصاحبه في الخطور على الذهن غالباً.

ومنها: قول الشاعر:

وكل أناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهم … ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فهو ساربُ

فمرجع الضمير في قوله: “قيده” لم يتقدم في اللفظ، وإنما علم من سياق الجملة قبله، والمراد: قيد فحلنا.

ومنها: قول الشاعر:

فإنك والتابين عروة بعد ما … دعاك وأيدينا إليه شوارعُ

فكالرجل الحادي وقد تلع الضحى … وطَيْرُ المنايا فوقهنَّ أواقعُ

فالضمير في قوله: “فوقهن” يعود إلى الإبل المنبِّه عليها لفظُ: “الحادي”؛ فإن الحادي يستدعي إبلاً محدودة، فأغنى ذلك عن ذكرها.

ومنها: قول أبي كبير الهذلي:

ولقد سريتُ على الظلام بمغشمٍ … جَلْدٍ من الفتيان غير مثقَّلِ

ممن حَمَلْنَ به وهنَّ عواقدٌ … حَبْلَ النطاقِ فشبَّ غيرَ مهبَّلِ

فالضمير في قوله: “حملن” عائد إلى النساء، ولم يجر لهنَّ ذكر، ولكن المراد مفهوم من لفظ: “حمل”، وما وقع فيه من سياق الكلام.

ومنها: قول لبيد:

حتى إذا ألقت يداً في كافرٍ … وأجَنَّ عوراتِ الثغورِ ظلامُها

فإنه أراد: حتى إذا ألقت الشمس يداً في الليل إذ غربت، ولم يجر للشمس ذكرٌ في شعره.

ومنها: قول العباس بن عبد المطلب:

مِنْ قَبْلِها طبت في الظلال وفي … مستودع حيث يخصف الورقُ

فإنه يريد: من قبل الأرض؛ أي: قبل وجودك فيها، ولم يجر ذكرٌ للأرض في كلامه.

النوع الرابع:

قال المحاضر: “الرابع: الضمائر التي تعود إلى الأفعال، وذلك حين يأمر الله بأمر أو ينهى عن شيء، ثم يريد بعد ذلك تحسين ما أمر به، أو تقبيح ما نهى عنه، أو تأكيد الأمر والنهي، ومثال ذلك قوله تعالى في سُورَةِ البقرة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149]، وقوله تعالى في سُورَةِ المائدة: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8]، وقوله تعالى في سُورَةِ الأنفال بعد أن بين أحكام الموالاة بين المسلمين والكافرين: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]، والنحويون يرجعون هذه الضمائر عادة إلى

مصدر متصيد – كما يقولون – من الكلام السابق”.

يريد المحاضر أن يضع في أذهان المستمعين إليه أن الضمائر في هذه الآيات واردة على خلاف القاعدة النحوية، وهي إنما تخالف المقالة التي زوَّرها عليهم في مؤتمر المستشرقين، وقد استبان لكم أن تلك المقالة لا يعرفها النحاة، والضمائر في هذه الآيات جاءت مطابقة لاستعمال عربي صحيح، وهو ما قرره النحاة من أن مرجع الضمير قد يكون جزءاً من مدلول كلمة تقدمته، وساقوا على هذه القاعدة شواهد من كلام العرب، وأخرى من القرآن الكريم.

ومن هذه الشواهد: قولهم: “من كذب، كان شرًّا له”، ففي “كان” الضمير يعود إلى الكذب الذي هو جزء من مدلول كذب.

ومنها: قول الشاعر:

إذا زُجِرَ السفيهُ جرى إليه … وخالف والسفيهُ إلى خلافِ

فالضمير في “جرى” عائد إلى السَّفَه المفهوم من لفظ: السفيه.

ومنها: قول القطامي:

همُ الملوك وأبناءُ الملوكِ لهم … والآخِذونَ به والسّاقَةُ الأُوَلُ

فالضمير في قوله “به” عائد إلى الملك المستغنى عنه بذكر ما يحضره في ذهن السامع، وهو لفظ الملوك.

وعلى هذا النحو من الخطاب جاء قول الشاعر:

ومَنْ يكُ بادياً ويَكُنْ أخاه … أنا الضحَّاكُ ينتسج الشمالا

فإن الضمير في قوله: “أخاه” عائد إلى البدو الذي هو ضد الحَضَر، وهو لم يذكر في النظم، إنما دل عليه قوله “بادياً”.

ومن الآيات التي أوردوها مستشهدين بها على صحة هذا الاستعمال: قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180]، فالضمير في قوله: {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} راجع إلى البخل المستغنى عن ذكره بقوله تعالى: {يَبْخَلُونَ}.

فالنحاة يقررون صحة استعمال الضمير راجعاً إلى المصدر الذي يدل عليه فعل، أو وصف متقدم، ويسوقون الآيات والأبيات شواهدَ على ما يقرونه، لا أنهم قرروا وجوب عود الضمير على مذكور يتقدم لفظاً ورتبة، ولما اعترضتهم هذه الآيات وما يجري مجراها من الشعر، أخذوا يتأولون ويتصيدون.

النوع الخامس:

قال المحاضر: “الخامس: الضمائر المبهمة، وهذه الضمائر قسمان:

أحدهما: يعود إلى متقدم، ولكنه لا يطابقه؛ كقوله تعالى في سورة النساء: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4]، فالهاء في {مِنْهُ} ظاهرة في الرجوع إلى الصدقات، ولكنها لا تطابق الصدقات في الجنس، ولا في العدد، ولهذا قال الزمخشري في “الكشاف”: إن هذه الهاء بمعنى اسم الإشارة؛ كأنه قال: فإن طبن لكم عن شيء من ذلك نفساً.

القسم الثاني: ضمائر لا ترجع إلى متقدم، ولكن يفسرها متأخر لفظاً ورتبة؛ كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29].

ذكرنا في التمهيد: أن بلغاء العرب لا يجمدون على رعاية الألفاظ، بل يوجهون عنايتهم الكبرى إلى نقش صور المعاني في أذهان المخاطبين،

فتراهم ينسجون الكلام على رعاية ما سبق من الألفاظ في أغلب أحوالهم، وقد يذهبون فيه إلى ما يطابق المعنى، غيرَ مبالين بالألفاظ حيث لا يتوقف حسنُ صياغة المعنى على التزام رعايتها، فإذا دلوا على المعنى بلفظ، لم يجدوا حرجاً في أن يتحدثوا عنه كأنه ذكر بلفظ آخر مألوف الاستعمال عند تأدية هذا المعنى الذي صيغ من أجله الخطاب. وهذا مذهب من مذاهب البيان فسيح، بسطه ابن جنّي في كتاب “الخصائص” تحت عنوان: (فصل في الحمل على المعنى)، وقال: قد ورد في القرآن وفصيح الكلام منثوراً ومنظوماً. وقال بعد هذا: والحمل على المعنى في هذه اللغة واسع جداً، ومن صوره: تصويرُ الجماعة في صورة الواحد، ومن شواهد هذا التصوير قول العرب: “هو أحسن الفتيان وأجمله”، أفردوا الضمير مع أن مرجعه فيما يظهر جماعةٌ؛ لأن هذا الموضع يكثر فيه استعمال الواحد، ومن شواهده: قول ذي الرمة:

وميَّةُ أحسنُ الثَقلين وجهاً … وسالفةً وأحسنُه قَذالا

فترك رعاية اللفظ المنطوق به، وبنى كلامه على لفظ آخر مما يؤلف في هذا المكان، فأفرد الضمير كأنه قال: أحسن مخلوق.

وفي الحديث النبوي: “خيرُ نساء ركبنَ الإبلَ خيارُ نساءِ قريشِ، أحناهُ على ولد في صِغَره، وأرعاه على زوجٍ في ذاتِ يده”، فقد أتى بالضمير في قوله: “أحناه، وأرعاه” مفرداً؛ ذهاباً إلى المعنى؛ فإن قوله: “خير نساء” في معنى خير مَن وُجد، أو خُلق.

قال ابن الأثير: ومنه قولهم: “أحسن الناس خلقاً, وأحسنه وجهاً”، وهو كثير من أفصح الكلام.

ومن هنا نعلم – بوجه مجمل -: أن القرآن إذا استعمل لفظ الجمع للدلالة على معنى، وأتى في حديثه عن هذا المعنى بالضمير مفرداً، فإنما سلك منهجاً يألفه فصحاء العرب، ولا يجدون في نفوسهم حرجاً من أن يلفظوا به، ولا في آذانهم نفوراً من أن يستمعوا إليه.

وعلى هذا تأويل قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4]، فإن المعنى الذي أريد بالصدُقات، قابل لأن يستعمل له لفظ غير جمع، وهو الصداق، أو ما أصدق، فيكون الضمير في قوله: “منه” عائداً على معنى الصدقات باعتبار اسم آخر شأنه أن يستعمل للدلالة عليه، حتى كأنه قيل: وآتوا النساء صدُقاتهن، أو ما أصدقتموهن.

ولا يغيب عنّا أن مراعاة الألفاظ المعبر بها عن المعنى أولاً، ثم الإتيان بضمائر الغيبة على وفقها، هو الذي يجري عليه العرب في أكثر مخاطباتهم، وهو الذي يتتابعون عليه الواحد بعد الآخر، وذلك ما أخذ علماء العربية أن يجعلوا مطابقة الضمير لمرجعه قاعدة متبعة، ونعلم – مع هذا -: أن استعمال ضمير الغيبة منظوراً فيه إلى المعنى، كأنه عبَّر عنه بلفظ آخر يطابقه الضمير، هو مسلك عربي فصيح، وإن لم يبلغ مبلغ الوجه الأول في شيوعه بينهم، ودورانِه على ألسنة عامتهم، وقلةِ ظهور هذا الاستعمال في خطب البلغاء وقصائدهم، ثم قلةُ استباق ألسنة الجمهور إليه في مخاطباتهم لا يخدش في فصاحته، بل لا ينزل به عن مكانة الوجه الشائع، وإنما هو وجه ينتحيه الفصحاء في مقامات لا يجدون في انتحائه ما يخلّ بصورة المعنى، ولا يبطئ بذهن المخاطب عن أن يدرك المراد كما يدركه عندما يؤتى بالضمير مطابقاً للفظ المنطوق به في نظم الكلام، وهو جدير بأن لا يكثر في مخاطبات العامة، وأن لا تسبق إليه ألسنتهم؛ لأنه لا يأخذ مأخذه في كل مقام، ولا يجري معه الذهن إلى الغرض أينما وقع، بل يحتاج إلى قوة من البلاغة يلاحظ فيه كيف يكون إرجاع الضمير إلى المعنى باعتبار اسم غير مذكور، وإرجاعه إليه باعتبار اللفظ المذكور على سواء.

وسنبحث الوجه الذي حكاه المحاضر عن الزمخشري في صحيفة آتية، ونعرض عليك في تأويل هذه الآية وجهاً آخر نراه قريباً، ولا تراه – إن شاء الله – بعيداً.

وأما آية: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37] التي أوردها المحاضر مثلاً لما ورد في القرآن من الضمائر المفسرة بمتأخر عنها لفظاً ورتبة، فأسلوبها عربي شائع مألوف، وقد قدمنا لك أن النحاة عندنا يقررون قاعدة امتناع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة يستثنون منها أبواباً، ومن هذه الأبواب ما صيغت فيه هذه الآية، وهو أن يؤتى بالضمير أولاً، ثم يخبر عنه بما يفسره، ويحتجون على هذا بأقوال العرب، وبهذه الآية نفسها، ومن شواهدهم عليه: “هي النفس تحمل ما حملت”، وقولهم: “هي العرب تقول ما شاءت”.

النوع السادس:

قال المحاضر: “السادس: الضمائر التي تقع في آيات التشريع؛ كقوله تعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229]، فالألف في: {يَخَافَا} راجعة إلى الزوجين اللذين لم يُذكرا، وأوضحُ مثال لهذا النوع آيةُ المواريث في سورة النساء، فالضمائر التي تعود فيها إلى غير

المذكور كثيرة”.

الضمير في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} يعود إلى الزوجين المستغنى عن ذكرهما بحضورهما في أذهان المخاطبين من الحديث عن الطلاق المعبر عنه بقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، والبقاء على الزواج المعبر عنه بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}، والصداق المذكور في قوله: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ}، بل من الخطاب في قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229].

وقد بسطنا لك البحث في أن إعادة الضمير على ما يُستغنى عن ذكره بما يسبقه من القول قاعدة عربية قائمة بنفسها، ولا تصطدم مع أي قاعدة، ما عدا القاعدة التي صنعها المحاضر في مؤتمر المستشرقين، وأضافها إلى النحاة وهم لا يعلمون.

وعلى نحو آية: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وردت الضمائر في آية المواريث، ولا شيء منها إلا وهو راجع إلى ما استُغنى عن ذكره بما ينبه على مكانه، ويلوَّح إليه.

النوع السابع:

قال المحاضر: “السابع: الضمائر التي يفهم مرجعها من النص؛ كقوله تعالى في سورة النحل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، فالهاء راجعة إلى الأرض التي لم تذكر، وقوله تعالى لإبليس: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34]، فالهاء راجعة إلى الجنة التي لم تذكر”.

يريد المحاضر أن يلقي في آذان المستمعين إليه: أن هذه واردة على خلاف تلك القاعدة التي ألصقها بالنحاة، وصوَّرها بقوله: يجب عودُ الضمير

على مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة، والحقيقة أن النحاة قرروا قاعدة تجري عليها هذه الآيات بسهولة ورفق، وهي صحة عود الضمير الغائب على ما يحضر في ذهن المخاطب من مساق الكلام، وقد ذكر هذه القاعدة ابن مالك وغيره، وسقنا إليك من شواهدها ما لا يسعك إلا أن تتلقاه باصغاء وقبول.

النوع الثامن:

قال المحاضر: “الثامن: الضمائر التي تعود إلى “من” دون أن تطابقها جنساً أو عدداً، والنحويون يقولون: إن الضمير يرجع إلى “من” باعتبار لفظها، فيفرد ويذكر، وباعتبار معناها، فيطابق هذا المعنى جنساً وعدداً، ولكن رجوع الضمائر إلى الألفاظ مرة، وإلى المعاني مرة أخرى، لا معنى له، فأنت لا تقول: حمزة أقبلت؛ مراعاة لتأنيث اللفظ، وإنما تقول: حمزة أقبل؛ مراعاة لتذكير المعنى، ولو جاز إرجاع الضمائر إلى الألفاظ مرة، وإلى المعاني مرة أخرى، لأصبحت اللغة والنحو ضرباً من اللعب”.

الألفاظ التي تستعمل للدلالة على العقلاء ثلاثة أنواع:

أحدها: لفظ يراد به شخص معين؛ كالأعلام، والضمير الذي يكنَّى به عن فرد معين لا يكون إلا كمرجعه مفرداً.

ثانيها: لفظ يرد في صيغة جمع التكسير، أو أحد جمعي السلامة، والضمير العائد إلى معاني هذه الجموع شأنه أن يكون كمرجعه جمعاً مطابقاً، ويلحق بهذا القسم نحو: الذين، واللاتي.

ثالثها: ألفاظ تقال على المفرد مرة، وعلى الجمع مرة أخرى؛ نحو: “مَنْ” الموصولة، ولفظ “منْ” إن أريد به شخص واحد معين، فالضمير الراجع إليه لا يكون إلا مفرداً، أما إذا لم يرد منه شخص واحد، بل أريد منه جماعة،

فهذا ما نطق العرب بالضمير الراجع إليه مفرداً تارة، وجمعاً مرة أخرى، وهذا شأنهم معها فيما إذا أريد منها جنس من يتحقق فيه معنى صلتها.

ومن شواهد عود الضمير عليها مفرداً، وقد أريد منها جماعة: قول بعض شعراء الحماسة:

وإني لمِمَّنْ يَبْسُطُ الكَفَّ بالنّدى … إذا شَنَجت كفُّ البَخيل وساعدُه

فـ”مَن” هنا مستعملة في جمع، وأعيد عليها الضمير مفرداً.

ومن شواهد عود الضمير عليها جمعاً: قول قبيصة بن النصراني أحد شعراء الحماسة:

أُحدِّث من لاقيتُ يوماً بلاءه … وهم يحسبون أنني غيرُ صادقِ

فالضمائر العائدة على “مَنْ” المستعملة في جمع تُفرد في حال، وتُجمع في أخرى، وهذا أمر واقع في كلام العرب، غيرُ مختص بضمائر الغيبة في القرآن، بل الواقع أن هذا الحكم لا يختص بـ “من” الموصولة، ولكنه يتعداها إلى أسماء كثيرة يستعملها العرب لتدل على أفراد متعددة، ويعيدون عليها الضمير إن شاؤوا جمعاً، وإن شاؤوا مفرداً، ومثال هذا لفظ “الجمع” نفسه؛ فإنهم يتحدثون عنه حديثهم عن الجموع مرة، كما قال أحد شعراء الحماسة:

وجَمْعُ بني قرّان فاعرض عليهمُ … فإنْ يقبلوا هاتا التي نحن نؤبسُ

ويجرونه مجرى المفرد أخرى كما قال آخر منهم:

قد صبَّحتْ معنٌ بجمع ذي لَجَبْ … قيساً وعِبْدَانَهُمُ بالْمُنْتَهَبْ

وجد في اللغة هذا النوع من الكلم الذي يطلق على أفراد متعددة،

وللمتكلم الخيار في أن يذهب فيه مذهب الحديث عن المفرد، أو مذهب الحديث عن الجماعة، ولم يبق للنحاة من عمل سوى أن يفرقوا بين الحالين، فقالوا في حال إعادة الضمير عليه جمعاً: إنه محمول على المعنى، وفي حال إعادته عليه مفرداً: هو محمول على اللفظ.

ونحن نفهم من هذا: أن المتكلم ينظر أحياناً إلى معنى “مَنْ” التي يراد بها جماعة، فيجده ذا أفراد متعددة، فيعيد عليها ضمير الجمع، وينظر أحياناً إلى لفظ “مَن”، فيجده خالياً من علامة الجمع المقتضية لأن يكون الضمير العائد إليها جمعاً، فيفرد الضمير؛ رعاية للفظها، ولا يعنون بهذا أن الضمير؛ يعود إلى اللفظ من حيث هو حروف، فإن الضمائر إنما يكنّى بها عما يتحدث عنه، وهو المعاني، بل هو عائد إليه من حيث دلالته على المعنى المراد منه، وإنما اعتبروا اللفظ في حال إفراد الضمير، مع أن الضمائر لا تعود على الألفاظ من حيث إنها حروف؛ نظراً إلى أن اللفظ بخلوِّه من علامة الجمع ساعد على أن يجيء الضمير مفرداً، وإذا وقفنا عند هذا الحد، قلنا: إن العرب يحافظون على المطابقة بين الضمير ومرجعه، والنحاة يشترطون هذه المطابقة كما حافظ عليها العرب، غير أن هذه المطابقة إما أن يراعى فيها المعنى الذي يكنى عنه بالضمير، وإما أن يراعى فيها حال اللفظ الذي عبر به عن المعنى أولاً.

ومما نراه قريباً أن يقول باحث: إن المتكلم حين يفرد الضمير العائد إلى الألفاظ المستعملة في الجمع إنما ينظر إلى المعنى في صورة تقبل هذا الضمير، وهو أن يلاحظ الأفراد المتعددة من حيث اجتماعُها وانضمامُ بعضها إلى بعض، حتى كأنها وهي في سلك المعنى الجامع بينها شيء واحد،

وإنما تستقيم هذه الملاحظة مع الألفاظ الخالية من علامات الجمع، إذ هذه العلامات تمنع من أن تلاحظ هذه الأفراد في صورة شيء واحد.

ومجمل القول: أن الألفاظ التي يراد منها جماعة؛ كـ “مَن”، وجَمْع، وفريق، لا يجد العرب حرجاً في أن يعيدوا عليها ضمائر الجمع؛ نظراً إلى ما دلَّت عليه من الأفراد المتعددة، أو يعيدوا عليها الضمائر مفردة؛ نظراً إلى أن اللفظ لا يتجافى عن هذه الضمائر، وقابل لأن يلاحظ معه مجموع الأفراد في هيئة ما تقع عليه نظرة واحدة، ومراعاةُ اللفظ والمعنى في تركيب واحد كما يجيء في بعض الأبيات طريقةٌ عربية مألوفة، ومن شواهدها:

لستُ ممَّنْ يَكِعُّ أو يستكينو … ن إذا كافحته خيلُ الأعادي

فقد أعاد الضمير على “من” في قوله: “يكع” مفرداً، وأعاده عليها ضميرَ جمع في قوله: “يستكينون”.

* الضمير العائد على “الذي”:

قال المحاضر: “وأكثر من هذا أن عدم المطابقة ليس مقصوراً على “مَنْ”، بل يتجاوزها إلى “الذي”، مع أن “الذي” مفرد قطعاً، فلا يصح أن يرجع الضمير إلى لفظه مرة، وإلى معناه مرة أخرى، فمن ذلك قوله تعالى في سورة الزمر: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، وقوله تعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا} [البقرة: 264].

قد يراد من نحو “الذي” شخص معين، وهو في هذا الحال لا يعود عليه الضمير إلا مفرداً، وقد يراد منه الجنس؛ ليتناول الحكمُ به كلَّ فرد يتحقق فيه

معنى الصلة، وهذا ما يذهب العرب في الحديث عنه إلى إفراد الضمير مرة، وجمعه مرة أخرى، وإذا أتوا بضمير الجمع، فلأن “الذي” يتناول بوساطة دلالته على الجنس أفراداً متعددة، فتحصل المطابقة بين الضمير ومرجعه من جهة المعنى، فالإخبار عن “الذي” بما يشار به إلى الجمع في آية: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ} [الزمر: 33]، وعود ضمير الجمع على “الذي” في آية: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} [البقرة: 264] إنما هو قائم على رعاية أن “الذي” مستعمل في جنس من يتحقق فيه معنى الصلة، والجنس ذو أفراد لا تحصى.

* الضمير العائد على المعرف بأل الجنسية:

قال المحاضر: “بل لا يقتصر عدم المطابقة على”من”، و”الذي”، وإنما يتجاوزهما إلى أسماء مظهرة، منها العام، ومنها الخاص.

فمن الأول: قوله تعالى في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف: 16].

ومن الثاني: قوله تعالى في سورة طه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 24 – 28] “.

أما الآية الأولى، فإن الإنسان مراد منه الجنس، والجنس يتناول أفراداً كثيرة، فصحَّ من هذا الوجه أن يشار إليه بما يشار به إلى الجمع، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17] إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف: 18]، وقد أشار صاحب “الكشاف” إلى وجه الإخبار بـ “أولئك” عن قوله: {وَالَّذِي قَالَ}، فقال: المراد بالذي قال: الجنسُ القائلُ ذلك، ولذلك وقع الخبر مجموعاً.

وأما آية: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27]، فمرجع الضمير فرعونُ وملؤه الذين شأنهم أن يحضروا في علم السامع متى ذُكر فرعون، إذ رئيس القوم كفرعون لا تقع صورته في الذهن غالباً إلا مصحوبة بما يحف به من رجال، وقد بسطنا لك القول في أن الإتيان بضمير الغيبة لا يتوقف على أن يكون مرجعه مذكوراً لفظاً، بل يكفي فيه أن يحضر في ذهن السامع، ولو من غير طريق الألفاظ الموضوعة للدلالة عليه.

* رأي المحاضر في الضمائر غير المطابقة:

قال المحاضر: “فعدم المطابقة إذن ليس من خصائص الضمير، ولا هو من خصائص الأسماء الموصولة، وإنما هو أسلوب من أساليب القرآن، إذا أمكن ضبطه وتحديده، فقد أمكن حل مسألة الضمائر غير المطابقة، أو التي لا مرجع لها، ويتلخص هذا الأسلوب في أن القرآن يستعمل أحياناً أسماء عامة أو خاصة، وهو يريد أن هذه الأسماء تدل على أصحابها أولاً، وتمثل جماعات أخرى ثانياً؛ أي: أن هؤلاء الأشخاص ممتازون، لهم من المكانة في حياتهم الاجتماعية ما يجعلهم عنواناً لقومهم”.

قال المحاضر هذا، وأراد تطبيقه على الآية الأولى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} [الأحقاف: 15]؛ بناء على أنها نزلت في أبي بكر الصديق، وعلى الآية الثانية: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] زاعماً أن فرعون يمثل المصريين!.

قد أريناك أن ليس في القرآن ضمير لا يطابق مرجعه، وأن مرجع الضمير قد يكون مذكوراً، وقد يستغنى عن ذكره بما يدل عليه من قرينة لفظية، أو غير لفظية، والآية من هذا القبيل، ولا يشترط في مطابقة ضمير الجمع لمرجعه المذكور قبله أن يكون لفظه جمعاً، بل يكفي فيه أن يكون مدلوله الجنس،

وهو يتناول أفراداً كثيرة، والآية الأولى واردة على هذا السبيل، ونزولها في أبي بكر الصديق لا يمنع من إرادة جنس الإنسان المتصف بالمعنى المحكي عنه، فيتناول أبا بكر، وسائرَ من يتحقق فيه ذلك المعنى.

* عدم اكتفائه بهذا الرأي في دفع مشكلة عدم المطابقة:

قال المحاضر: “هذا الحل واضح في نفسه، وهو مفهوم من النحو المنطقي الصرف، ولكنه لا يزيل المشكلة؛ لأن مسألة المطابقة بين الضمير وبين مرجعه المذكور لا تزال قائمة”.

ليس في الآيات إشكال ما دام العرب ينطقون بالضمير من غير أن يذكر مرجعه في نظم الكلام، وما دام علماء العربية يصرحون بجواز هذا الاستعمال، ويسوقون عليه الشواهد الكثيرة، وليس في الآيات إشكال ما دام العرب يجرون الكلمات التي تدل على معانٍ عامة، ولم يكن في لفظها علامة جمع مجرى ما يجيء في صيغة جمع تكسير، أو جمع سلامة، فيعيدون عليها ما شاؤوا من ضمائر الجمع، أو ضمائر الإفراد، وما دام علماء العربية يذهبون في هذا الاستعمال إلى أنه عربي مبين، ولا يرونه ناقضاً لشيء من قواعدهم، وآفةُ المحاضر في هذا كله إنما جاءت من ناحية تلك القاعدة التي اصطنعها بلسانه، ورماها على النحاة، وكتبُهم تنادي ببراءتهم منها.

* زَعْمه أن القرآن يستعمل ضمير الغيبة اسم إشارة:

قال المحاضر: “إنه يرى أن القرآن نفسه يحل هذه المشكلة حلاً لا شك فيه، ذلك أن هذه الآيات التي لم تتحقق فيها المطابقة، والتي تبلغ نحو المئة، قد ورد فيها اسم الإشارة سبعاً وأربعين مرة، وورد فيها الضمير ثلاثاً وأربعين مرة. وإذن، فالقرآن يستعمل في هذه الآيات الضميرَ واسم

الإشارة على السواء، وإذن، فالضمير في هذه الآيات بمعنى اسم الإشارة. ونحن نعلم أن اسم الإشارة لا يلزم أن يرجع إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة، وإنما يجب أن يرجع إلى المشار إليه، وإن لم يطابقه عدداً وجنساً، سواء ذكر هذا المشار، أو لم يذكر”.

وقال: “إنه يرى أن هذه القاعدة يجب أن تطبق على كل الضمائر التي لا مرجع لها، أو التي لا تطابق مرجعها؛ بحيث تؤخذ هذه الضمائر على أنها أسماء إشارات”.

لا مشكلة فيطلب حلها؛ ذلك لأن الآيات التي أوردها المحاضر استوفت مراجعها، وتحققت فيها المطابقة على الوجه الكافي في نظر البلغاء، ودعوى أن الضمائر في هذه الآيات مستعملة بمعنى اسم الإشارة، من الخواطر التي لا داعي إليها، وإنما يحتاج إليها من يتوهم أن القاعدة النحوية توجب أن يكون مرجع الضمير مذكوراً يتقدم في اللفظ والرتبة، ويتوهم أن المطابقة بين ضمائر الجمع ومراجعها لا تتحقق إلا أن يكون المرجع من صيغ الجموع، وشيءٌ من هذا لم يلتزمه العرب، ولم يجعله واضعو اللغة حكماً مسمطاً.

يقول المحاضر: “ونحن نعلم أن اسم الإشارة لا يلزم أن يرجع إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة”.

وهذا القول من نوع ما يُرمى به على غير روية، والحقيقة أن اسم الإشارة قد يشار به إلى محسوس حاضر، وهذا يستغني بالإشارة الحسية عن أن يتقدمه في الكلام ما يشار إليه، أما إذا أشير به إلى أمر معقول، أو شخص غائب عن حضرة الخطاب، فهذا حكمه حكم ضمير الغائب في احتياجه

إلى مرجع يفسره.

قال الرضي في “شرح الكافية”: واسم الإشارة لما كان موضوعاً، للمشار إليه إشارة حسية، فاستعماله فيما لا يدرك بالإشارة الحسية؛ كالشخص البعيد، والمعاني مجاز، وذلك يجعل الإشارة العقلية كالحسية، واسم الإشارة حينئذٍ يحتاج إلى مذكور قبله، فيكون كضمير راجع إلى متقدم. وقد نقل العلامة السيد كلام الرضي هذا في “حواشي الشرح المطول” حكماً مسلماً.

وهذا أمر معقول بالبداهة لو كان المحاضر ممن رزقوا التؤدة في البحث، فلو قال قائل: لقيت بالأمس ذلك، مشيراً إلى شخص غير حاضر، ولم يجر في الكلام ما يدل عليه، لما أتى بشيء من الفائدة، ولما عده السامعون إلا هاذياً.

وأكثر الآيات التي أوردها المحاضر إنما كُنِّي بضمائرها عن معان معقولة؛ كآية: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، أو أشخاص غائبين عن حضرة الخطاب؛ كآية: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27، 28]، فلا مفر للمحاضر إذاً من أن يبتغي لهذه الضمائر مشاراً إليه قد تقدم ذكره، إلا أن يدعي أن هذا النوع الجديد من أسماء الإشارة لا يدخل تحت سلطان قاعدة قديمة، وما هذا الادعاء من صاحب هذه المحاضرة ببعيد.

وإذا قال المحاضر: أكتفي في اسم الإشارة بما يدل على المشار إليه، ولو من غير صريح الكلام.

قلنا: قد اكتفى علماء العربية في مرجع الضمير بمثل هذه الدلالة، فيكون الخلاف بينك وبينهم في أنهم يسمون الواو في نحو قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187]: ضميراً، وأنت تسميه: اسم إشارة،

وتكون رحلتك إلى مؤتمر المستشرقين لم تثمر سوى أنك جئت إلى نوع من الضمير، وقلت: إني وضعت له اسماً جديداً لم يسمه به علماء اللغة العربية في القديم.

قال المحاضر:، “فالضمير إذن في هذه الأنواع الثمانية مستعمل على أنه اسم إشارة. وقد أحس القدماء أنفسهم هذا، فقاله الزمخشري في “الكشاف” – كما قدمنا -، ورووا أن رُؤبة لما سُئل عن الضمير في قوله:

كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ

أجاب: “أردت: كأن ذاك”.

ذكر صاحب “الكشاف” لإفراد الضمير في آية: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ} [النساء: 4] وجهين:

أحدهما: ما أوردناه فيما سلف من أن يكون الضمير راجعاً إلى الصداق الذي يجده السامع في ذهنه عند ذكر الصدُقات؛ لأنه في معنى: وآتوا كل واحدة من النساء صداقها.

وثانيهما: أن يكون الضمير “جارياً مجرى اسم الإشارة، كأنه قيل عن شيء من ذلك”، ومعنى هذا – فيما يظهر – أن الضمير في قوله: “منه”، وهو مفرد، كنَّى به عن الصدُقات، وهو جمع، أجراه له مجرى اسم الإشارة المفرد؛ فإنه قد يشار به إلى الاثنين؛ نحو قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]، وقد يشار به إلى الجمع؛ كقوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]. فالذي يؤخذ من عبارة الزمخشري: أن ضمير المفرد كني به عن جمع؛ إلحاقاً له باسم الإشارة في أنه قد يشار به إلى جمع، فالإجراء يرجع إلى هذا الوجه، وهو استعمال المفرد

للجمع، وهو مستقيم، ولو مع بقاء الضمير بحالة كناية عن شيء تقدَّمه.

فصاحب “الكشاف” لا يريد من قوله: أجري مجرى الإشارة: أنه نقل عن معناه الذي هو مجرد الكناية عن شيء يفسره إلى معنى اسم الإشارة، وإنما يريد: أن هذا الضمير أعطي حكم اسم الإشارة الذي هو استعماله للجميع، وإعطاء الكلمة حكم الأخرى لا يتوقف على أن توافقها في المعنى، بل يكفي فيه أن يكون بين الكلمتين مشابهة في بعض الوجوه، والمشابهة بين الضمير واسم الإشارة في: الإبهام، واحتياج كل منهما في استعماله إلى ما يوضح المراد منه.

ويدلك على أن الزمخشري إنما يريد بإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة إعطاءَه حكمَه فقط، ولا يقصد إلى أن يكون الضمير بمعنى اسم الإشارة، أو اسم إشارة: أنه بعد أن استشكل الإشارة بالمفرد المذكور في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] إلى مؤنثين، وهما بِكر وفارِض، وذهب إلى دفع الاستشكال إلى أن المشار إليه في تأويل (ما ذكر)، أو (ما تقدم)، قال: وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا.

ورؤبة لا يقصد بقوله: “أردت كأن ذاك”: أنه استعمل الضمير اسم إشارة، وإنما يقصد: أنه أعاد ضمير المفرد على الخطوط؛ إجراء له مجرى اسم الإشارة في استعماله لمتعدد، وغير خفي أن اسم الإشارة في هذا الموضع لا يختلف عن الضمير إلا بحكم عدم المطابقة، فقوله: “أردت كأن ذاك” لا يدل على أنه نقل الضمير إلى معنى اسم الإشارة، وإنما هو تنبيه على اللفظ الذي نقل حكمه إلى الضمير، وهذا اللفظ – من حيث إنه يشير إلى ما تقدم ذكره – لا يتميز عن الضمير الذي يكنّى به عن متقدم، فصحَّ أن يوضع موضع

الضمير عند بيان القصد إلى إجرائه مجراه في استعماله لما هو متعدد. وسيقوم لك على هذا من قول السعد شاهد مبين.

ثم إن ما يذكر به اسم الإشارة المفرد من عدم المطابقة أمر ظاهري، والتحقيق أن العرب قد وضعوا “ذاك”، أو “ذلك”؛ ليشار به إلى المفرد، و”ذان” – مثلاً – للمثنى، و”أولئك” لما كان جمعاً، فإذا وجدنا اسم الإشارة المفرد نحو “ذلك” مشاراً به إلى متعدد، فإنما هو لضرب من التصرف في تصوير المعنى، ذلك بأن تلاحظ المتعدد في صورة الشيء الذي يدلون عليه بكلمة مفردة.

فأنت إذا أتيت في صدر كلامك بمثنى، أو جمع، فقد جعلت مدلوله الذي هو الفردان أو الأفراد مذكوراً في الحضرة، فيأخذ بهذا الذكر عنواناً آخر هو “ما ذكر”، فيصح لمن يخاطب الأذكياء أن يلاحظه كأنه مصرح به في نظم الكلام، ويشير إليه باسم الإشارة المفرد: “ذاك”، أو “ذلك”.

وقد أحس صاحب “الكشاف” نفسه بالحاجة إلى التأويل في اسم الإشارة المفرد حين يشار به إلى اثنين، فقال في تفسير قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68].

فإن قلت: كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين وإنما هو للإشارة إلى واحد مذكر؟

قلت: جاز ذلك على تأويل “ما ذكر”، و”ما تقدم”؛ للاختصار في الكلام.

فالزمخشري يرى أن اسم المفرد إذا استعمل في مثنى أو جمع، فعلى ضرب من التأويل، فإذا جعل ضمير”منه” العائد على “الصدُقات” في الآية الكريمة جارياً مجرى اسم الإشارة، فلأن اسم الإشارة اشتهر باستعماله للمثنى

والمجموع على ذلك الضرب من التأويل أكثر مما اشتهر به الضمير.

وكذلك يقول السعد التفتازاني: يكنّى باسم الإشارة الموضوع للواحد عن أشياء كثيرة باعتبار كونها في تأويل “ما ذكر”، و”ما تقدم”. وقد يقع مثل هذا في الضمير، إلا أنه في اسم الإشارة أكثر وأشهر، ولهذا قال رؤبة: “أردت: كأَن ذاك” (1).

وإذا كان اسم الإشارة المفرد إنما يستعمل للمثنى، أو للمجموع على ضرب من التصرف، فلنذهب بالضمير المفرد إلى ذلك الضرب من التصرف من غير وساطة اسم الإشارة، فنقول: إن الضمير في قوله تعالى: “منه” عائد إلى الصدُقات باعتبار العنوان الذي أخذته من ذكرها في صدر الجملة، وهو “ما ذكر”.

النوع التاسع:

قال المحاضر: “النوع التاسع من هذه الضمائر: ضمير الشأن؛ كقوله تعالى في سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]، فالهاء في “أنه” لا ترجع إلى شيء، وهي لا تشير إلى شيء أيضاً”.

ثم قال: “إن ضمير الشأن هذا قد فقد معناه، وأصبح أداة لفظية يراد بها تقوية الجملة في القصص، أو في الوعد والوعيد، لا أكثر ولا أقل، وهذا الضمير شائع على هذا النحو في قديم الأدب وحديثه، لا يدل إلا على تقوية الجمل، وصبغها بشيء من الجلال”.

ألقى المحاضر في صدر محاضرته تلك القاعدة المصنوعة، وقال:

__________

(1) حاشية الشمني على المغني.

إنها لا تنطبق على القرآن؛ لأن فيه ضمائر لا تعود إلى مذكور يتقدمها لفظاً ورتبة، وفيه ضمائر تعود إلى مذكور، ولكنها لا تطابقه، وقال: إنه حصر الضمائر في أنول تسعة. فالذي يقرأ المحاضرة من أولها حتى يصل إلى قوله: النوع التاسع من هذه الضمائر: ضمير الشأن، يسبق إليه بطبيعة البحث أن المحاضر يرى أن ضمير الشأن من الضمائر الواردة في القرآن على خلاف القاعدة النحوية التي لا تقبل استثناء. والواقع: أن تلك القاعدة المزعومة ليس لها في العربية أصل ولا فرع، أما ما يقوله الجمهور حقاً، وهو: أنه يمتنع عود الضمير على متقدم لفظاً ورتبة، فقد وصلوه بالاستثناء – كما أسلفنا -، ومن جملة هذه المستثنيات: ضمير الشأن. ويقولون: إذا قصد المتكلم إلى أن يستعظم السامع حديثه قبل الأخذ فيه، افتتحه بالضمير المسمّى: ضمير الشأن، ونصّوا على التزام إفراده وتذكيره، إلا إذا وليه اسم مؤنث، أو فعل موصول بعلامة مؤنث؛ كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

ولم يكن هذا الضمير مختصاً بالقرآن، ولا بالقصص والوعد والوعيد، بل هو شائع في كلام البلغاء، يبنون عليه أقوالهم حيث يقتضي الحال عرضَها في لفظ مجمل قبل إلقائها على وجه من التفصيل.

يقول المحاضر: إن هذا الضمير لا يرجع إلى شيء، ولا يشير إلى شيء، وهو إن حاول بهذا أن يجعله كحروف الصلة، فمدفوع بأنه في صورة ضمير الغائب المذكر أو المؤنث، وشأن ما يجيء في هذه الصورة أن يكنى به عن شيء، وليس فيما ذهب إليه علماء العربية من أنه كناية عن الخبر الذي يأتي بعده من بأس.

* زَعْمُهُ أن النحو محتاج إلى وضع جديد:

قال المحاضر: “فلا بد إذن من وضع النحو وضعاً جديداً، ولكنا نلاحظ أن النحو ليس سيئ الوضع فحسب، ولكنه قاصر عن الإحاطة باللغة العربية نفسِها، قواعدُه غير متقنة، منها ما يضيق فيسرف في الضيق، ومنها ما يتسع فيسرف في السعة”.

قد أدلينا إليك بالحجج المعقولة والشواهد المأخوذة من أفواه العرب: أن ضمائر الغيبة في القرآن لم تجئ إلا على ما يجري عليه البلغاء في مخاطباتهم، ولم تجئ إلا على ما تجد له عند علماء العربية أصلاً ثابتاً، وليس في هذه الأصول ما ينبو عنه العقل، أو يتجافى عنه الذوق، واستبان لك: أن المحاضر وضع لمحاضرته أساساً خرباً، فكان كل ما بناه عليه متداعياً إلى السقوط، متخاذلاً.

فلا بد إذن من الاعتراف بأن علماء العربية خدموا اللغة، فاستنبطوا القواعد، وسردوا الشواهد، وذهبوا في البحث والاستدلال مذاهب بعيدة عن هذا اللغو الذي أجهد فيه المحاضر نفسه، واقتحم به لجج البحار؛ ليملأ به آذان أولئك المستشرقين.

وحقيق بمن يتصور أن النحاة قالوا بوجوب عود الضمير على متقدم لفظاً ورتبة أن يقول: إن النحو قاصر عن الإحاطة باللغة العربية، وحقيق به أن يقول في قواعده: إنها غير متقنة، ولكنهم لم يقولوا هذا الذي نثره المحاضر في مؤتمر المستشرقين. فالذين يُقبلون على الكتب العالية لعلماء العربية؛ ككتاب “التسهيل” لابن مالك، و”شرح أبي إسحاق الشاطبي للخلاصة”، و”شرح ابن يعيش للمفصل”، ويطالعونها بذكاء وتثبت وإنصاف، لا ينصرفون

عنها إلا بإكبار وإعجاب، ولا أنكر أن في كثير من الكتب النحوية شيئاً من الأقوال الواهية، والمذاهب الضيقة؛ فإن هذا شأنُ كل علم، معقولاً كان أو مسموعاً، والذي أعنيه: أن هذه الكتب تحتوي القواعد التي يجري عليها الفصحاء من العرب، فمن الميسور للباحث بإخلاص أن يقف عليها، ويميز منها تلك الآراء الضعيفة، والمذاهب الحرجة، ويخرجها في أسلوب حكيم.

يوجد في لغة الألمان مُثُلٌ لما جاء في لغة العرب؛ من الإتيان بضمير لا يرجع إلى مذكور في نظم الجملة، فتجدهم يقولون: هي تمطر، أو تبرق، أو ترعد، أو: هو برد، ولا يزيدون على ضمير الغائب والفعل، فمن مبلغُهم نظريةَ هذا المحاضر؛ لعلهم يغيرون نحوَهم، ويسمون هذا الضمير: اسم إشارة؛ حتى لا يقذفهم المحاضر كما قذفَ علماءَ الأزهر بأنهم قوم لا يقبلون آراء المجددين؟!.

* زَعْمه أن النحو لا يكفي لتفسير القرآن:

قال المحاضر: “إن علم النحو العربي لا يكفي لتفسير القرآن الكريم وتخريجه من الوجهة النحوية الصرفة”، قال هذا، ثم اقترح: “أن يوضع للقرآن نحو خاص كما هو الشأن في الأبيات البيانية في اللغات الأوربية على اختلافها”، وقال: إن هذا النحو الخاص نافع قيّم من جهتين:

الأولى: أن يزيل ما يعلق بنفوس بعض المستشرقين من الشك حين يقرؤون القرآن مستنيرين بالنحو القديم، فيرون بينه وبين هذا النحو ضُروباً من الخلاف، فيعجلون ويقضون بأن في القرآن خطأ نحوياً، والواقع أن القرآن لم يخطئ، وإنما قَصَّر النحويون حين وضعوا قواعد النحو، فلم

يستوعبوا القرآن والشعر، ولم يستقصوهما.

الثانية: أن هذا النحو الخاص سيكون أساساً صالحاً لنحو آخر جديد للغة العربية كلِّها يعتمد على بحث أدقَّ وأشدَّ استقصاء من بحث المتقدمين”.

يقول المحاضر: إن النحو لا يكفي لتفسير القرآن الكريم، ولهذا القول نصيبٌ من الصحة لو صدق عليهم ظن المحاضر في تلك القاعدة التي عرفتم ما هي، وكيف حملها إلى مؤتمر المستشرقين على غير أمانة، فإن كان يقصد إلى شيء آخر غير ضمائر الغيبة، فليأتنا به، ويُرنا كيف تقصر القواعد النحوية عن تأويله، أما اقتراحه بأن يوضع للقرآن نحو خاص، فرأي لا يخطر على بال أحد إلا أن تكون له حاجة يحاول الوصول إليها على هذه الوسيلة.

القرآن نزل بلسان عربي مبين، والقواعد النحوية قائمة على الاستشهاد به، وبما يصدر عن البلغاء من منظوم ومنثور، ولا نجد لعلماء العربية قاعدة قرروها شاملة من غير استثناء، وفي القرآن ما ورد على خلافها، وعلى فرض أن نجد في القرآن تركيباً لم نستطع إرجاعه إلى شيء من قواعدهم، فإننا نحكم بأن ذلك الضرب من الاستعمال مطابق لاستعمال العرب، وقد غفل عنه واضعو القواعد، ولا يسوغ لنا في حال أن نذهب إلى أن هذا الاستعمال من خصائص القرآن، ونعمل على أن نضع له نحواً خاصاً، ذلك ما لا يرضى عنه القائمون على أصول اللغة العربية حتى يحملوا في صدورهم قلباً كقلب هذا المحاضر، ويضعوا نصب أعينهم الغاية التي وضعها نصب عينيه.

يزعم المحاضر أن هذا النحو الخاص يزيل ما يعلق بنفوس بعض المستشرقين من الشك حين يرون ما بين القرآن وما بين النحو ضروباً من

الاختلاف، ونحن نعلم أن المستشرقين الذين بلغوا أن يقرؤوا القرآن ليستنيروا بالنحو القديم، وهم من التمهل في الحكم وتقصي البحث من كتب متعددة لا يعلق بنفوسهم شك، ولا يرون أن بين القرآن والنحو القديم ضروباً من الاختلاف. أما من يتصور القواعد مقلوبة رأسها على عقبها، فلا حق له في أن يضع، أو يوضع له نحو غير النحو الذي بناه علماء العربية، فأحكموا بناءه.

يزعم المحاضر أن هذا النحو سيكون أساساً صالحاً لنحو آخر يعتمد على بحث أدق من بحث المتقدمين، ولكن المثال الذي قدمه في هذه المحاضرة لا يصلح شاهداً على أن في إمكان من هم إلى العقلية الغربية أقرب منهم إلى العقلية الشرقية أن يضعوا للغة الفصحى نحواً يداني نحو المتقدمين، فضلاً عن أن يكون أدق وأشد استقصاء منه، ولا يفرح المحاضر أن طائفة من الغائبين عن علوم اللغة، قد ضربوا أيمانهم على شمائلهم استحساناً منهم لما يقول، فإن الذين يسارعون إلى تقليد كل من ينعق باسم الجديد – وإن كان مبطلاً – غيرُ قليل.

مقالات مقترحة